الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام الجُنيد فيما يُنزَّه عنه الأنبياء عليهم السلام
-:
يقول في رسالته:
«ولا يسري إليهم الخطأ والسهو والنسيان» .
وقال أيضًا: «يجب أن تعلم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم معصومٌ عن الخطأ والنسيان والسحر والهذيان ووسوسة الشيطان» .
وقال أيضًا: «فهم عليهم السلام معصومون حتى من الغفلة» .
واتهم أهل السنة أنهم ينسبون ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام.
والجواب:
أولًا: أن هذا اتهام باطل لأهل السُّنَّة، فلم يقل أحد منهم إن الأنبياء عليهم السلام غير معصومين بإطلاق، بل قد أجمعوا جميعًا فيما يتعلق بهذا على عدة أمور، فقد أجمعوا على:
1 -
عصمتهم عليهم السلام من الكبائر.
2 -
عصمتهم عليهم السلام من الصغائر التي تُزري بمناصبهم، كرذائل الأخلاق والدناءات وسائر ما يُنَفّر عنهم مما يقال لها:"صغائر الخسة"، كسرقة لقمة والتطفيف بحبَّة.
3 -
عصمتهم عليهم السلام من تعمُّد الكذب في الأحكام الشرعية؛ لدلالة المعجزة على صدقهم
(1)
.
4 -
أنهم عليهم السلام معصومون فيما يبلِّغونه عن الله تعالى
(2)
.
(3)
.
(1)
المحصول للرازي (3/ 226 - 228)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/ 98 - 99).
(2)
منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/ 470 - 471). ونص كلام ابن تيمية في هذا: «فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى. وهذا هو مقصود الرسالة، فإن الرسول هو الذي يبلغ عن الله أمره ونهيه وخبره. وهم معصومون في تبليغ الرسالة باتفاق المسلمين، بحيث لا يجوز أن يستقر في ذلك شيء من الخطأ» .
(3)
شرح صحيح مسلم للنووي (11/ 90).
ثانيًا: وقع الخلاف بين أهل السُّنَّة في الصغائر التي لا تُزري بمنصب الأنبياء عليهم السلام وليست من الدناءات هل تقع منهم أو لا؟
ومنشأ الخلاف هو: ما حكاه الله تعالى عن بعض الأنبياء عليهم السلام مما ظاهره لنا أنه معصية، ومن ذلك:
1 -
قوله تعالى عن أبينا آدم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه:121].
2 -
قوله تعالى عن يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء:87].
3 -
قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63].
وقوله تعالى عنه عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات:89].
ومن ذهب إلى وقوع هذه الصغائر منهم عليهم السلام كابن جرير الطبري وغيره من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين
(1)
- قالوا: «لا بدَّ من تنبيههم عليه، إما في الحال على رأي جمهور المتكلمين أو قبل وفاتهم على رأي بعضهم»
(2)
.
وكذلك نقل ابن تيمية: أن عامة الجمهور الذين يجوزون عليهم هذه الصغائر يقولون: «إنهم معصومون من الإقرار عليها»
(3)
.
والحق: أنهم عليهم السلام معصومون عن الصغائر والكبائر جميعًا. وهو ما رجحه القاضي عياض
(4)
وأبو إسحاق الإسفراييني وابن فورك وابن حزم، وحكاه النووي عن المحققين
(5)
. قال القاضي حسين: «وهو الصحيح من مذهب أصحابنا -يعني: الشافعية-، وما ورد من ذلك فيحمل على ترك الأولى»
(6)
.
وقال القاضي عياض: «لا خلاف أنهم معصومون من الصغائر التي تُزرى بفاعلها وتحطُّ منزلته وتسقط مروءته. واختلفوا في وقوع غيرها من الصغائر منهم:
فذهب معظم الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من السلف والخلف إلى: جواز وقوعها منهم. وحجتهم: ظواهر القرآن والأخبار.
(1)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (2/ 328).
(2)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 99).
(3)
قال ابن تيمية: «هم متفقون -يعني: أهل السنة- على أنهم -أي: الأنبياء عليهم السلام لا يقرون على خطأ في الدين أصلًا، ولا على فسوق ولا كذب. ففي الجملة: كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله فهم متفقون على تنزيههم عنه. وعامة الجمهور الذين يجوزون عليهم الصغائر يقولون: إنهم معصومون من الإقرار عليها، فلا يصدر عنهم ما يضرهم» . منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/ 472).
(4)
انظر كلامه في هذه المسألة في كتابه: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 328 - 334).
(5)
قال الإمام النووي: «واختلفوا في الصغائر -أي: في عصمة الأنبياء عليهم السلام منها-، فجوزها الأكثرون، ومنعها المحققون وقطعوا بالعصمة منها» . روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي (10/ 205).
(6)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 99 - 100).
وذهب جماعة من أهل التحقيق والنظر من الفقهاء والمتكلمين من أئمتنا إلى: عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، وأن منصب النبوة يجل عن مواقعها وعن مخالفة الله تعالى عمدًا. وتكلموا على الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وتأولوها، وأن ما ذكر عنهم من ذلك إنما هو فيما كان منهم على تأويل أو سهو أو مِن إذن من الله تعالى في أشياء أشفقوا من المؤاخذة بها وأشياء منهم قبل النبوة. وهذا المذهب هو الحق»
(1)
.
وجواب آخر ذكره الشوكاني، حيث قال: «فإن قلت: فما تقول فيما ورد في القرآن الكريم منسوبًا إلى جماعة من الأنبياء وأولهم أبونا آدم عليه السلام، فإن الله يقول:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه:121]؟ قلت: قد قدمنا وقوع الإجماع على امتناع الكبائر منهم بعد النبوة، فلا بد من تأويل ذلك بما يخرجه عن ظاهره بوجه من الوجوه.
وهكذا يُحمل ما وقع من إبراهيم عليه السلام من قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات:89]، وقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63]، وقوله في سارة:(إنها أخته)
(2)
، على ما يخرجه عن محض الكذب؛ لوقوع الإجماع على امتناعه منهم بعد النبوة.
وهكذا في قوله سبحانه وتعالى في يونس عليه السلام: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، لا بد من تأويله بما يُخرجه عن ظاهره. وهكذا ما فعله أولاد يعقوب بأخيهم يوسف.
وهكذا يُحمل ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يستغفر الله في كل يوم، وأنه كان يتوب إليه في كل يوم)
(3)
، على أن المراد: رجوعه من حالة إلى أرفع منها»
(4)
.
فأنت ترى بعد إيراد أقوال أهل العلم في هذه المسألة: أن نسبة الخطأ الصغير غير المُزري بمنصب النبي إلى النبي عليه السلام لا تعدُّ غباءً ولا جهلًا، كما يدَّعيه مؤلف الرسالة. وكيف يكون ذلك غباءً وقد دلَّت ظواهر القرآن والسُّنَّة الصحيحة عليه، كما سبق؟
بل كيف يكون غباءً وقد قال به أئمة جهابذة لا نشكُّ في علمهم وإخلاصهم وفي معرفتهم بحقوق الأنبياء عليهم السلام وقدرهم وعلو مرتبتهم عند ربهم وكرامتهم عليه وما يجوز في حقهم وما لا يجوز؟
بل الغباء حقيقة فيمن يرى ويسمع الحق ثم يمشي مكبًَّا على وجهه لا يلتفت إليه ولا يأخذ به، ويُلقي به وراءه ظِهريًا.
ثالثًا: أن النسيان الذي يطرأ على النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقدح في عصمته؛ لأنه إنما ينسى صلى الله عليه وسلم أولًا ليشرّع لأمته، وينسى ثانيًا لأنه من البشر، ومن خصائص البشر هؤلاء أنهم ينسون، وما سُمي ابن آدم إنسانًا إلا لكثرة نسيانه.
وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي)
(5)
.
(1)
شرح صحيح مسلم للنووي (3 - 4/ 52). وانظر كلام القاضي عياض في هذه المسألة في كتابه: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 328 - 334). وقد لخص النووي تلخيصًا حسنًا في شرحه لصحيح مسلم، وهو التلخيص المذكور.
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ! مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي. ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: لَا تُكَذِّبِي حَدِيثِي، فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ)، الحديث. صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (3/ 80 - 81)، رقم (2217)، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم (4/ 1840)، رقم (2371).
(3)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً). صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة (8/ 67)، رقم (6307).
وعن الأغر المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ). صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (4/ 2075)، رقم (2702).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ). صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (4/ 2075)، رقم (2702).
(4)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 100 - 101).
(5)
صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (1/ 89)، رقم (401)، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1/ 401)، رقم (572).
ثالثًا: أن النسيان الذي يطرأ على النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقدح في عصمته؛ لأنه إنما ينسى صلى الله عليه وسلم أولًا ليشرّع لأمته، وينسى ثانيًا لأنه من البشر، ومن خصائص البشر هؤلاء أنهم ينسون، وما سُمي ابن آدم إنسانًا إلا لكثرة نسيانه.
وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي)
(1)
.
(1)
صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (1/ 89)، رقم (401)، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1/ 401)، رقم (572).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم نسيانه في بعض المواضع، وقد جاء في ذلك:
1 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا، آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا)
(1)
.
2 -
نسي صلى الله عليه وسلم مرةً فصلى إحدى صلاتي العشي ركعتين، ولم يذكِّره بذلك إلَّا أصحابه رضي الله عنهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيِ العَشِيِّ -قَالَ مُحَمَّدٌ
(2)
: وَأَكْثَرُ ظَنِّي العَصْرَ- رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ المَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذُو اليَدَيْنِ فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ. قَالَ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ)
(3)
.
(1)
صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نسيان القرآن وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا (6/ 194)، رقم (5038)، وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول: نسيت آية كذا وجواز قول: أنسيتها (1/ 543)، رقم (788).
(2)
هو: محمد بن سيرين، أحد رجال سند الحديث.
(3)
صحيح البخاري، أبواب ما جاء في السهو، باب من يكبر في سجدتي السهو (2/ 68)، رقم (1229)، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1/ 403)، رقم (573).
3 -
رأى صلى الله عليه وسلم ليلة القدر في المنام ثم أُنسيها، فعن أبي سعد الخدري رضي الله عنه قال:(اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ: إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا -أَوْ نُسِّيتُهَا-)
(1)
الحديث.
قال الإسماعيلي: «النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من القرآن يكون على قسمين:
أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية. وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود في السهو:(إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ)
(2)
.
والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7].
قال -يعني: الإسماعيلي-: فأما القسم الأول فعارض سريع الزوال؛ لظاهر قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر:9].
وأما الثاني فداخل في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة:106]. على قراءة من قرأ بضم أوله من غير همزة»
(3)
.
إذًا: فمثل هذا النسيان وشبهه لا يمتنع وقوعه من الأنبياء عليهم السلام، كما وقع لكليم الله موسى مع عبد الله الخضر عليهما السلام، حيث نسي الشرط الذي اشترطه عليه ثلاث مرات، وهو أنه لا يسأله عن شيء يفعله حتى يكون هو الذي يبيِّنه له، غير أنه عليه السلام كان في كلِّ مرة ينسى ذلك مما حمله على الاعتذار له بقوله:{لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)} [الكهف:73].
لكن هذا النسيان لا يقع منهم عليهم السلام في أصل التبليغ؛ لما تقدم من نقل الإجماع على عصمتهم عليهم السلام فيما يبلغونه عن ربهم، فلا يحصل منهم فيه خطأ ولا جهل ولا نسيان. وقد ذهب إلى هذا أكثر العلماء، بل حُكي الإجماع عليه، وحكى القاضي عياض الإجماع على امتناع السهو والنسيان في الأقوال البلاغية، وخص الخلاف بالأفعال، وأن الأكثرين ذهبوا إلى الجواز
(4)
.
فهل أكثر أهل العلم أغبياء؟ حقًا إن هذا لهو الإفك المبين.
(1)
صحيح البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر (3/ 46)، رقم (2016)، وصحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إِتْبَاعًا لرمضان (2/ 824)، رقم (1167).
(2)
صحيح البخاري وصحيح مسلم. وقد تقدم.
(3)
فتح الباري لابن حجر (9/ 86).
(4)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (2/ 328).