الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
ولأن رواية عائشة لم تُسند إليها، بينما القول بوفاته صلى الله عليه وسلم وهو في حجر سيدنا علي عليه السلام مسند إلى كلٍّ من علي وابن عباس وأم سلمة والشعبي وعلي بن الحسين، وسائر أئمة أهل البيت. فهو أرجح سندًا.
لكن النواصب قاتلهم الله حاولوا إلصاق هذه الأحاديث إلى السيدة عائشة؛ ليحطوا من علي عليه السلام بطمس فضائله».
تلك أهم المطاعن التي وجهها صاحب الرسالة إلى حديث عائشة رضي الله عنها.
والجواب:
الرد على مطاعن صاحب الرسالة في الحديث وإنكاره:
إن المطاعن التي وجهها صاحب الرسالة إلى حديث عائشة رضي الله عنه هي دلائل واضحة على قميص الرفض الذي يلبسه، ورداء الجهل الذي يتزيّا به، ولو كان عنده أثارة من علم أو حظ من إنصاف لم يقدِّم على حديث عائشة رضي الله عنها الأحاديث الواهية وغير الصحيحة، فإن من منهج المحدثين العلمي: إذا تعارض حديثان يُنظَر أولًا في سندهما، فإن كان أحدهما صحيحًا والآخر ضعيفًا قُدِّم الصحيح على الضعيف بالإجماع، وإن كان أحدهما صحيحًا والآخر أصح منه قُدِّم الأصح كذلك إن لم يمكن الجمع بينهما، ولا يُرجع إلى الترجيح بينهما إلا إذا كانا في مرتبة واحدة من القوة وتعذر الجمع بينهما.
فهل الأحاديث التي زعم أنها صحيحة ومتواترة عن آل البيت وغيرهم وجاءت مخالفة لحديث عائشة رضي الله عنها هي من هذا القبيل أو لا؟ سأفصل القول في هذه الأحاديث التي احتج بها فيما يأتي.
الرد على أحاديث صاحب الرسالة التي رد وأنكر بها الحديث:
ذكر صاحب الرسالة بعض الأحاديث والآثار مستدلًا بها على رد وأنكار حديث عائشة رضي الله عنها في أن النبي صلى الله عليه وسلم مات بين سحرها ونحرها. وها أنا أذكرها هنا وأُبين ما فيها، مما يُبين شبهته ويُفندها:
أولًا: الحديث الأول: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (وَالَّذِي أَحْلِفُ بِهِ إِنْ كَانَ عَلِيٌّ لَأَقْرَبَ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عُدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةً وَهُوَ يَقُولُ: جَاءَ عَلِيٌّ؟ جَاءَ عَلِيٌّ؟ مِرَارًا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها: كَأَنَّكَ بَعَثْتَهُ فِي حَاجَةٍ؟ قَالَتْ: فَجَاءَ بَعْدُ. قَالَتْ أَبِي
(1)
سَلَمَةَ: فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ حَاجَةً، فَخَرَجْنَا مِنَ الْبَيْتِ فَقَعَدْنَا عِنْدَ الْبَابِ، وَكُنْتُ مِنْ أَدْنَاهُمْ إِلَى الْبَابِ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَ يُسَارُّهُ وَيُنَاجِيهِ، ثُمَّ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَكَانَ عَلِيٌّ أَقْرَبَ النَّاسِ عَهْدًا)
(2)
.
(1)
كذا في المستدرك للحاكم، والصواب: أم.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الفضائل، فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (6/ 365)، رقم (32066)، ومسند أحمد (44/ 190)، رقم (26565)، والسنن الكبرى للنسائي، كتاب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أحدث الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم (6/ 392)، رقم (7071)، والمستدرك للحاكم، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم (3/ 149)، رقم (4671). وقال محققو مسند أحمد -شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد وآخرون-:«إسناده ضعيف» . مسند أحمد (44/ 190)، حاشية رقم (3). وضعفه الألباني. السلسلة الضعيفة للألباني (10/ 649)، تحت رقم (4945). وقال أيضًا في موضع آخر:«منكر» . السلسلة الضعيفة للألباني (13/ 630)، رقم (6289).
وهذا الحديث يُجاب عليه بالآتي:
1 -
هذا الحديث قال عنه الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وأقره الذهبي بقوله: «صحيح»
(1)
.
وليس كما قالا، وإنما هو حديث ضعيف الإسناد، فقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" والحاكم في "مستدركه" من طريق أحمد بإسناده عن مغيرة عن أم موسى
-وفي "المستدرك": «أبو موسى» ، وهو تصحيف- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت، الحديث.
ومغيرة هو ابن مقسم الضبيّ الكوفي، قال ابن حجر:«ثقة متقن، إلا أنه كان يدلس ولا سيما عن إبراهيم»
(2)
.
قلت: وهو هنا قد دلّس، حيث روى بالعنعنة، فلا يُقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع، كما قال أهل هذا الشأن.
وأمَّا أم موسى فقد قال عنها ابن حجر أيضًا: «سُرِّية علي، قيل: اسمها فاختة، وقيل: حبيبة، مقبولة»
(3)
.
وهذا يعني أنها ضعيفة، إلا إذا تُوبعت فإنه يتقوى حديثها، وحيث لا متابعة هنا ولا شاهد فالحديث ضعيف. هذا من ناحية.
2 -
لا يوجد أي تعارض بين حديث عائشة رضي الله عنها السابق وبين حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا، فإن مراد أم سلمة رضي الله عنها: أن عليًا رضي الله عنه هو أقرب الرجال عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بدليل: أن فاطمة رضي الله عنها كانت موجودة لما قُبض عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال:(لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ -أي: كرب الموت-، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام: وَا كَرْبَ أَبَاهُ! فَقَالَ لَهَا: لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ. فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ. فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام: يَا أَنَسُ! أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ)
(4)
.
(1)
المستدرك للحاكم (3/ 149).
(2)
تقريب التهذيب لابن حجر (ص:543).
(3)
المصدر السابق (ص:759).
(4)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته (6/ 15)، رقم (4462).
3 -
أن أم سلمة رضي الله عنها لم تقل: إن عليًا رضي الله عنه لم يفارق النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات. وغاية ما يدلُّ عليه كلامها: هو اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الذي مات فيه. ولا شك أن هذا قد حصل، وحصل معه كذلك المناجاة والمسارة، فلما انتهى ما أسرّه إليه صلى الله عليه وسلم خرج رضي الله عنه؛ ليُفسح المجال لنسائه صلى الله عليه وسلم اللائي كنّ ينتظرن خارج البيت رضي الله عنه ن.
4 -
ثم على سبيل الفرض: لو أن حديث أم سلمة يتعارض مع حديث عائشة رضي الله عنهما لم يقدم عليه عند المحدثين جميعًا؛ لكون حديث عائشة رضي الله عنها أصح. قال ابن حجر
-وهو يسوق الأحاديث المعارضة لحديث عائشة رضي الله عنها: «ومن حديث أم سلمة قالت: (عَلِيٌّ آخِرُهُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم). والحديث عن عائشة أثبت من هذا، ولعلها أرادت آخر الرجال به عهدًا. ويمكن الجمع: بأن يكون عَلِيٌّ آخرهم عهدًا به، وأنه لم يفارقه حتى مال، فلما مال ظنَّ أنه مات، ثم أفاق بعد أن توجه -أي: خرج-، فأسندته عائشة بعده إلى صدرها فقُبض»
(1)
.
ثانيًا: بقية الأحاديث والآثار التي استدل بها على إنكار حديث عائشة رضي الله عنها كلها أخرجها ابن سعد، كالتالي:
فالحديث الثاني: أخرجه ابن سعد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: (ادْعُوا لِي أَخِي. قَالَ: فَدُعِيَ لَهُ عَلِيٌّ فَقَالَ: ادْنُ مِنِّي. فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَاسْتَنَدَ إِلَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ مُسْتَنِدًا إِلَيَّ وَإِنَّهُ لِيُكَلِّمُنِي حَتَّى إِنَّ بَعْضَ رِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُصِيبُنِي، ثُمَّ نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَقُلَ فِي حِجْرِي)
(2)
.
والحديث الثالث: أخرجه أيضًا ابن سعد عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارَ قَامَ زَمَنَ عُمَرَ فَقَالَ وَنَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا كَانَ آخِرُ ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ عُمَرُ: سَلْ عَلِيًا. قَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ هُنَا. فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَلِيُّ: أَسْنَدْتُهُ إِلَى صَدْرِي فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى مَنْكِبِي فَقَالَ: الصَّلاةَ الصَّلاةَ! فَقَالَ كَعْبٌ: كَذَلِكَ آخِرُ عَهْدِ الأَنْبِيَاءِ وَبِهِ أُمِرُوا وَعَلَيْهِ يُبْعَثُونَ. قَالَ: فَمَنْ غَسَّلَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟! قَالَ: سَلْ عَلِيًّا. قال فسأله فقال: كنت أنا أغسله)
(3)
.
والحديث الرابع: أخرجه أيضًا ابن سعد عن أبي غطفان قال: (سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ أَحَدٍ؟ قَالَ: تُوُفِّيَ وَهُوَ لَمُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِ عَلِيٍّ. قُلْتُ: فَإِنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي
(4)
، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَعْقِلُ؟ وَاللَّهِ لَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ لَمُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي غَسَّلَهُ)
(5)
.
(1)
فتح الباري لابن حجر (8/ 139).
(2)
الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 202). وقال الألباني: «موضوع» . السلسلة الضعيفة للألباني (10/ 646)، رقم (4945).
(3)
الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 201 - 202). وقال الألباني: «موضوع» . السلسلة الضعيفة للألباني (10/ 712)، تحت رقم (4969).
(4)
حديث عائشة رضي الله عنها بهذا اللفظ قد تقدم.
(5)
الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 202). وقال الألباني: «موضوع» . السلسلة الضعيفة للألباني (10/ 710)، رقم (4969).
وأما الآثار فهما أثران:
الأثر الأول: أخرجه أيضًا ابن سعد عن محمد بن علي بن الحسين زين العابدين قال: «قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ»
(1)
.
الأثر الثاني: أخرجه أيضًا ابن سعد عن الشعبي -مع أنه من المنحرفين عن سيدنا علي عليه السلام
(2)
- قال: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ، وَغَسَّلَهُ عَلِيٌّ»
(3)
.
فهذه الأحاديث والآثار التي أوردها صاحب الرسالة أخرجها جميعًا ابن سعد في "الطبقات الكبرى" -كما بينت ذلك في تخريجها في حواشيها-. وهذه الأحاديث والآثار يُجاب عليها بالآتي:
1 -
أنها مدارها كلها على الواقدي، واسمه: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني، قال أحمد بن حنبل: كذاب. وقال الشافعي: كتب الواقدي كلها كذب. وقال النسائي: الكذَّابون المعروفون بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة: الواقدي بالمدينة. وذكر بقيتهم. وقال ابن المديني: إبراهيم بن أبي يحيى كذاب، وهو عندي أحسن حالًا من الواقدي. وقال البخاري: متروك الحديث، تركه أحمد ابن
(4)
المبارك وابن نمير وإسماعيل بن زكريا. وكذلك قال أبو زرعة الرازي وأبو بشر الدولابي والعقيلي وغيرهم
(5)
.
2 -
إضافة إلى العلة السابقة القاضية فلا يسلم حديث من الأحاديث السابقة من راوٍ آخر متروك أو ضعيف أو من انقطاع. ذكر ذلك ابن حجر
(6)
.
(1)
الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 202)، ومسند البزار (9/ 329)، رقم (3886). وقال ابن حجر:«فيه انقطاع» . فتح الباري لابن حجر (8/ 139).
(2)
هكذا قال صاحب الرسالة.
(3)
الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 202). وقال ابن حجر: «فيه الواقدي والانقطاع. وأبو الحويرث -أحد رجال سند الحديث- اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن الحارث المدني، قال مالك: ليس بثقة، وأبوه -يعني: والد أبي الحويرث، وهو أحد رجال سند الحديث- لا يعرف حاله» . فتح الباري لابن حجر (8/ 139).
(4)
كذا في تهذيب التهذيب، والصواب: وابن.
(5)
انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر (9/ 364 - 367). وذكر الذهبي: أنهم اتفقوا على ترك حديثه. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 254)، رقم الترجمة (334).
(6)
قال ابن حجر: «ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ)، وكل طريق منها لا يخلو من شيعي، فلا يلتفت إليهم» . فتح الباري لابن حجر (8/ 139).
فكيف إذًا يُحتج بمثل هذه الأحاديث المتروكة، وتُقدم على أحاديث البخاري؟! أليس هذا هو غاية الجهل والتعصب؟ بل إن من عنده أولويات هذا العلم الشريف يعلم يقينًا أنه لا يجوز الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث الباطلة، فضلًا عن أن يطلق عليها: أحاديث صحيحة ومتواترة.
3 -
استدل صاحب الرسالة على صحة هذه الأحاديث المخالفة لحديث عائشة رضي الله عنها بمجيئها من طريق آل البيت، وذلك في قوله: إن حديث عائشة رضي الله عنها «يخالف الأحاديث الصحيحة والمتواترة التي جاءت عن طريق آل البيت الأطهار» .
وهنا أسأل: هل أيها العلماء المنصفون كل ما جاء عن طريق آل البيت يكون صحيحًا؟ أليس من المحتمل أن يكون في الإسناد إليهم كذاب أو ضعيف أو أي علة أخرى تمنع من قبوله؟ بلى وربّي.
لكن صاحب الرسالة -وهو ذو منهج في الحديث متميز، نسف به جميع قواعد المحدثين- يعتبر أن كل ما جاء عن طريق آل البيت صحيح وحجة، سواء رُوي بسند أو بدون سند، وسواء صح الإسناد إليهم أو لم يصح. وحسبه -كما يقول-: أنه جاء عنهم، وحسبه: أنه رُوي في "نهج البلاغة" الذي هو مرجع آل البيت وموئلهم. فما هو "نهج البلاغة" هذا؟ ومن هو مؤلفه؟
ثالثًا: عزا صاحب الرسالة الأحاديث والآثار التي عارض بها حديث عائشة إلى كتاب "نهج البلاغة". وأقول: كتاب "نهج البلاغة" يحتوي على الكلام المنسوب إلى سيدنا علي رضي الله عنه. وكتاب "نهج البلاغة" هذا:
1 -
خال من الإسناد تمامًا، وعريٌ من أي مصدر. وقد جمعه الشريف الرضي، وقيل: بل جمعه أخوه الشريف المرتضى
(1)
. ورجح الثاني الإمام الذهبي
(2)
.
(1)
قال الذهبي في ترجمة "الشريف المرتضى": «وقد اختلف في كتاب "نهج البلاغة" المكذوب على علي عليه السلام هل هو وضعه أو وضع أخيه الرضي» . تاريخ الإسلام للذهبي (9/ 558)، ترجمة: علي بن الحسين بن موسى الشريف أبو طالب العلوي الموسوي نقيب الطالبيين ببغداد المعروف بالشريف المرتضى ذو المجدين، رقم الترجمة (181).
(2)
قال الذهبي في ترجمة "الشريف المرتضى": «هو جامع كتاب "نهج البلاغة" المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه» ، إلى أن قال:«وقيل: بل جَمْعُ أخيه الشريف الرضي» . سير أعلام النبلاء للذهبي (17/ 589)، ترجمة: المرتضى علي بن حسين بن موسى القرشي، رقم الترجمة (394).
وأيًّا كان جامعه فكتاب مثل هذا بلا إسناد وبينه وبين علي رضي الله عنه أربعة قرون تنقطع فيها أعناق المطي كافية في الحكم عليه بعدم الصحة.
والإسناد عند العلماء جميعًا من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، كما قال عبد الله بن المبارك
(1)
. ولذلك أجمعوا ألا يرووا حديثًا إلا بإسناد، ولا يقبلوه إلا إذا كان ثابتًا. هذا أمر.
2 -
أمر آخر اشتمل عليه كتاب "نهج البلاغة" يحط من قيمته ويقوي الاعتقاد ببطلانه، وهو:
أ- ما احتوى عليه من سب الصحابة رضي الله عنهم والتعريض بهم في غير موضع.
ب- ما فيه كذلك من دقة الوصف وغرابة التصوير ما لم يكن معروفًا في آثار الصدر الأول الإسلامي.
ج- أنه يطوي في جنباته كثيرًا من المصطلحات التي لم يتداولها الناس بعد أن شاعت علوم الحكمة، كـ: الأين، والكيف، إلى ما فيه من لغات علم الكلام وأبحاث الرؤية الإلهية، والحد، وكلام الخالق، وما لم يكن معهودًا كذلك من التقسيمات الرياضية.
د- ما فيه من ادعاء المعرفة بالغيبيات. وهو الأمر الذي يجل قدر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإيمانه الصريح الخالص عن التلبس به أو اصطناعه
(2)
.
وقد كشف الإمام الذهبي حقيقة هذا الكتاب عند ترجمته لمؤلفه الشريف المرتضى، فقد ترجم له بقوله:«على بن الحسين العلوي الحسينى الشريف المرتضى، المتكلم، الرافضي المعتزلي، صاحب التصانيف»
(3)
.
(4)
.
(1)
قال عبد الله بن المبارك: «الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ» . صحيح مسلم. وقد تقدم.
(2)
انظر: مع الاثني عشرية في الأصول والفروع للدكتور/ علي السالوس (ص:218).
(3)
ميزان الاعتدال للذهبي (3/ 124)، ترجمة: على بن الحسين العلوي الحسيني الشريف المرتضى، رقم الترجمة (5827).
(4)
نفس المصدر السابق.
وقال أيضًا في موضع آخر: «هو جامع كتاب "نهج البلاغة" المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه، ولا أسانيد لذلك، وبعضها باطل، وفيه حق، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟ وقيل: بل جَمْعُ أخيه الشريف الرضي»
(1)
.
وهذا الكتاب أيها العقلاء المنصفون مع أن هذا حاله يعتبره الرافضة أصح من "صحيح البخاري"! ويقولون عنه بأنه المعين الصافي والبلسم الشافي والكلام الوافي لكافة العلماء والبلغاء والفصحاء والخطباء! فلا يستغني عنه عندهم إلا متساهل، ولا يقدح في صحته إلا ناصبي جاهل؟!
فمن يا تُرى المتساهل الجاهل؟ الذي يقيم دعواه على علم وبينة أم الذي يقيمها على جهل وعصبية؟
ومن يا تُراه الناصبي؟ أهو الذي يكره كافة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سوى نفر من آل البيت -كما هو حال الرافضة- أم الذي يحب جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمن فيهم آل البيت الكرام من غير إفراط ولا تفريط، كما هو حال أهل السُّنَّة والجماعة
(2)
؟
(1)
سير أعلام النبلاء للذهبي (17/ 589)، ترجمة: المرتضى علي بن حسين بن موسى القرشي، رقم الترجمة (394).
(2)
مذهب أهل السنة والجماعة تولي ومحبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا. وممن ذكر مذهبهم في ذلك:
1 -
ابن قدامة، حيث قال: «ومن السُّنَّة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10]، وقال تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَأِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ). لمعة الاعتقاد لابن قدامة (ص:39). وقد تقدم.
وحديث: (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي)، الحديث أخرجه في: صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقد تقدم.
2 -
وقال أيضًا مبينًا تبرؤ أهل السنة والجماعة مما يقوله المبتدعة في حق الصحابة وأهل البيت: «ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة» . العقيدة الواسطية لابن تيمية (ص:119 - 120). قد تقدم.
ومما يؤكد كلام الإمام الذهبي وغيره في "نهج البلاغة": هذه العبارات التي نقلها صاحب الرسالة منه منسوبة لعلي رضي الله عنه، حيث قال:«وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ»
(1)
(2)
.
فهل يُعقل أن يصدر مثل هذا الكلام الغالي غير المعقول من سيدنا علي رضي الله عنه، وهو العبد التقي النقي الورع الذي حارب الغلاة وحرقهم بالنار، والذي كان يقول رضي الله عنه:(حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)
(3)
؟
الجواب بالطبع: لا، بل لو حلف المرء بالطلاق -وهو لا يجوز- أو حلف بين الركن والمقام أن عليًا رضي الله عنه لم يقله لم يحنث؛ وذلك لما اشتمل عليه من الغلو المفرط الذي خرج عن حد الاعتدال، إذ كيف يصح عنه رضي الله عنه أن يدَّعي أن نفس النبي صلى الله عليه وسلم سالت في كفه ثم أمرَّها على وجهه والله تعالى قد حدَّثنا عن الروح أنها من أمره، وأنه لا يعرف أحد حقيقتها وكُنهِها إلا هو - جل وعلا -، قال سبحانه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء:85]. فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلق على الإطلاق لا يعلم شيئًا عن الروح -وهي: النفس- إلا أنها من أمر الله. فالذي يدعي بعده صلى الله عليه وسلم أنه يعلم منها غير ذلك فهو كاذب، وقد حجب الله عن الإنسان الحي معرفتها ورؤيتها، ولا يراها إلا الميت، وذلك بعد أن تغادر جسده وترتفع إلى السماء، فيتبعها بصره، ولذلك يبقى شاخصًا إليها حتى تُغمض عيناه. أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت:(دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ)
(4)
.
(1)
نهج البلاغة، لأبي الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي (ص:311)، رقم (197).
(2)
نفس المصدر السابق.
(3)
صحيح البخاري معلقًا، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا (1/ 37)، رقم (127).
(4)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر (2/ 634)، رقم (920).
وكيف يصح عنه أيضًا رضي الله عنه أن الملائكة عليهم السلام كانت تعينه في تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم وهم من قضايا الغيب التي لم يطلع عليها إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ ولهذا كان الإيمان بهم عليهم السلام أحد أركان الإيمان الستة التي لا يصح إيمان العبد إلا بها
(1)
. صحيح أن بعضًا من الملائكة عليهم السلام كانوا يتمثلون في صور بشر ويكلمون بعض الناس في الأمم السابقة، لكن ذلك كان نادرًا جدًا، حتى سماه النبي صلى الله عليه وسلم:(أعجوبة). ومن ثمَّ أذن صلى الله عليه وسلم في التحديث بها عنهم عليهم السلام
(2)
. ومثل هذا التكليم والاجتماع لم يحدث في هذه الأمة قط، فنسبته إلى شخص ما لا بد عليه من دليل صحيح من الشرع، وإلا فإنه من الكذب الصريح الذي نربأ بعقولنا أن تصدقه، ونبرأ إلى الله تعالى منه.
أفلستم معي بعد هذا أن حق هذا الكتاب أن يُسمى: نهج الكذب؛ فهو ألصق به وأليق عليه؟ غير أن ذلك لا ينفي كونه كتاب أدب لا يشق له فيه غبار، ولا يُلحق له فيه شأو، وأنه لا مانع من استفادة أهل الاختصاص منه.
(1)
عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال في حديث سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وعلامتها -وفيه-: (قَالَ -يعني: جبريل عليه السلام: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ). صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة (1/ 37)، رقم (8).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: الإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ)، الحديث. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (1/ 19)، رقم (50)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة (1/ 39)، رقم (9).
(2)
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَحَدَّثُوا -وفي رواية تمَّام: حَدِّثُوا- عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَإِنَّهُ كَانَتْ فِيهِمُ الْأَعَاجِيبً. ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ قَالَ: خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَتَوْا مَقْبَرَةً مِنْ مَقَابِرِهُمْ فَقَالُوا: لَوْ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ فَدَعَوْنَا اللَّهَ عز وجل يُخْرِجُ لَنَا بَعْضَ الْأَمْوَاتِ يُخْبِرُنَا عَنِ الْمَوْتِ، قَالَ: فَفَعَلُوا، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ رَجُلٌ رَأْسَهُ مِنْ قَبْرٍ بَيْنَ عَيْنَيْهُ أَثَرُ السُّجُودِ فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ! مَا أَرَدْتُمْ إِلِيَّ؟ فَوَاللهِ لَقَدْ مِتُّ مُنْذُ مِائَةِ سَنَةٍ فَمَا سَكَنَتْ عَنِّي حَرَارَةُ الْمَوْتِ حَتَّى كَانَ الْآنَ، فادْعُوا اللَّهَ أَنْ يُعِيدَنِي كَمَّا كُنْتُ). المنتخب من مسند عبد بن حُميد (ص:349)، رقم (1156)، وفوائد تمَّام (1/ 99 - 100)، رقم (229). وقال الألباني:«صح الحديث» . السلسلة الصحيحة للألباني (6/ 1029)، رقم (2926).