الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الثالثة
حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم منافٍ لعصمته
الحديث الثالث الذي رده صاحب الرسالة: حديث: سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول صاحب الرسالة:
«ورد في "صحيح البخاري" باب هل يعفى عن الذمي إذا سحر؟: وقال ابن وهب: أخبرني يونس عن ابن شهاب: (بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ)
(1)
.
حدثني محمد بن المثنى حدثنا يحيى حدثنا هشام قال: حدثني أبي عن عائشة: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ)
(2)
.
وفي رواية للبخاري أيضًا بلفظ: (حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ)
(3)
». اهـ.
ثم ادَّعى هذا المتعصِّب الجاهل: أن هذا الحديث مُختلق مُوضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن السحر -كما يقول-: "عبارة عن تسليط أرواح شيطانية سفلية على المسحور حتى يتكلم بما لا يعي، ويفعل الشيء وهو لم يفعله".
والجواب:
وأُجيب على هذه الدعاوى بما يلي:
أولًا: أن هذا الذي ادعاه عن هذا الحديث جهل عظيم منه، وتعصُّب مقيت ناشئ عن مرض في القلب طمس على بصره وبصيرته، فأعماه عن رؤية الحق وسلوك طريق أهله. ولو كان ممن يتعاطى هذا العلم مع شيء من الإنصاف لعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المتفق على صحتها لدى الأمة، وذلك لاتفاق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما، كما تقدم، ولخلوِّه أيضًا من أي نقد في سنده أو متنه من قبل أئمة هذا الشأن.
(1)
صحيح البخاري، كتاب الجزية، باب هل يعفى عن الذمي إذا سحر (4/ 101)، بدون رقم.
(2)
المصدر السابق، نفس الكتاب والباب والجزء والصفحة، رقم (3175).
(3)
صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (4/ 122)، رقم (3268)، وصحيح مسلم، كتاب السلام، باب السحر (4/ 1720)، رقم (2189).
ثانيًا: أن السحر ليس فقط كما يقول: "عبارة عن تسليط أرواح شيطانية سفلية على المسحور"، وإنما هو إضافة إلى ذلك:
- منه ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده.
- منه ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانيتها بزعم السحرة
(1)
.
وذكر ابن القيم: أن السحر نوعان: نوع مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة، وآخر -وهو أشد ما يكون من السحر-: انفعال القوى الطبيعية عنها
(2)
.
وهذا النوع الأخير هو الذي أصيب به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان السحر متسلطًا على جسده وجوارحه الظاهرة فقط. قال القاضي عياض: «اعلم -وفقنا الله وإياك- أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد طعنت فيه الملحدة وتذرعت به؛ لِسُخْفِ عقولها وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع. وقد نزَّه الله الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبْسًا، وإنما السحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا يُنكر ولا يقدح في نبوته.
وأما ما ورد من أنه: (كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلُ الشَّيْءَ وَلَا يَفْعَلُهُ)
(3)
فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا.
وإنما هذا فيما يجوز طروّه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ولا فُضِّلَ من أجلها، وهو فيها عُرضة للآفات كسائر البشر. فغير بعيد أن يُخَيَّلَ إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان»
(4)
. إلى أن قال: «فقد استبان لك -من مضمون هذه الروايات
(5)
-: أن السحر إنما تَسَلَّطَ على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله»
(6)
.
(1)
فتح الباري لابن حجر (10/ 222).
(2)
زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (4/ 125).
(3)
صحيح البخاري وصحيح مسلم. وقد تقدم.
(4)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (2/ 411 - 412).
(5)
وهي الروايات التي ذكرها في قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
(6)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (2/ 415).
وقال المازري: «وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث من طريق ثابتة
(1)
، وزعموا أنه يحطّ منصب النبوة ويشكك فيها، وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويز هذا يُعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، ولعله يتخيل إليه جبريل عليه السلام وليس ثَمّ ما يراه، أو أنه أوحى إليه وما أوحي إليه. وهذا الذي قالوه باطل؛ وذلك أن الدليل قد قام على صدقه فيما يبلغه عن الله سبحانه وعلى عصمته فيه، والمعجزة شاهدة بصدقه. وتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان رسولًا مُفضّلًا من أجلها هو في كثير منه عُرضة لما يعترض البشر، فغير بعيد أن يُخَيَّلَ إليه في أمور الدنيا ما لا حقيقة له»
(2)
.
ثالثًا: ثبت في روايات هذا الحديث وغيره: أن الذي كان يُخَيَّلَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفعله ولا يفعله هو: إتيانه للنساء، ومن تلك الروايات:
1 -
في "صحيح البخاري" في كتاب الطب باب هل يَسْتَخْرِجُ السحر (5765): عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ. قَالَ سُفْيَانُ
(3)
: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا)
(4)
.
2 -
أخرج ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُخِّذَ عَنِ النِّسَاءِ وَعَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ)
(5)
، الحديث، وذكر فيه قصة سحره.
والمعتمد في هذا: إنما هو على رواية عائشة رضي الله عنها؛ فإنها أصح. ولا مانع كذلك أن يحبس عليه الصلاة والسلام عن الطعام والشراب؛ فإن السحر كان قد تسلَّط على جوارحه الظاهرة -كما تقدم- حتى أضعفه وأمرضه، فيكون ذلك بسبب هذا.
وبهذا يتضح معنى قول عائشة رضي الله عنها في الرواية الأخرى: (حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ)
(6)
أنه هو: إتيانه للنساء من عدمه. والأحاديث يفسِّر بعضها بعضًا كالآيات، والتفسير بالوارد خير أنواع التفاسير عند العلماء. قال العراقي في فصل "غريب ألفاظ الحديث" من ألفيته:
«وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ
…
كَالدُّخِّ بِالدُّخَانِ لاِبْنِ صَائِدِ»
(7)
(1)
يعني: بسبب آخر.
(2)
المعلم بفوائد مسلم للمازري (3/ 159).
(3)
هو: سفيان بن عيينة أحد رجال سند الحديث.
(4)
صحيح البخاري، كتاب الطب، باب هل يَستخرج السحر (7/ 137)، رقم (5765).
(5)
الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 153). قلت: وسنده ضعيف جدًا.
(6)
صحيح البخاري. وقد تقدم.
(7)
ألفية العراقي (ص:161).
رابعًا: أن قول صاحب الرسالة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه عين الحضرة الوحدانية" هو نفسه الحلول والاتحاد الذي كانت تقول به وتعتقده كثير من فرق الكفر والضلالة، كـ: غلاة الرافضة، والرزامية، والمقنَّعية، والحلمانية، والحلَّاجية، وغيرهم. فإن هؤلاء يزعمون أن روح الإله حلَّت في أشخاص سمّوهم، وقالوا: إن وجود المحدثات هو عين وجود الخالق، ليس غيره ولا سواه
(1)
.
وكان الحلَّاج ومن بعده ابن عربي والتلمساني وابن الفارض وابن سبعين يلهجون بذلك كثيرًا، حتى قال ابن عربي:
«العبد ربٌّ والرب عبدٌ
…
يا ليت شعري من المكلَّف
إن قلتَ عبدٌ فذاك ربٌّ
…
أو قلتَ ربٌّ أنى يكلَّف»
(2)
ومذهب هؤلاء لا يشك مسلم في كفره.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ابن عربي وكتابه "فصوص الحكم"، فأجاب بما يلي:"ما تضمَّنه كتاب "فصوص الحكم" وما شاكله من الكلام فإنه كفر باطنًا وظاهرًا، وباطنه أقبح من ظاهره. وهذا يسمى: مذهب أهل الوحدة، وأهل الحلول، وأهل الاتحاد. وهم يسمون أنفسهم المحققين.
وهؤلاء نوعان: نوع يقول بذلك مطلقًا، كما هو مذهب صاحب "الفصوص" ابن عربي وأمثاله -مثل: ابن سبعين، وابن الفارض، والتلمساني، وأمثالهم- ممن يقول: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، وأن العارفين الذين يرون الحق في كل شيء، بل يرونه عين كل شيء"
(3)
. ثم ساق شيئًا من أقوالهم وأشعارهم في ذلك، ثم قال: «فأقوال هؤلاء ونحوها باطنها أعظم كفرًا وإلحادًا من ظاهرها
…
ولهذا فإن كل من كان منهم أعرف بباطن المذهب وحقيقته كان أعظم كفرًا وفسقًا
…
فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب ووافقهم عليه كان أظهر كفرًا وإلحادًا.
وأما النوع الثاني: فهو قول من يقول بالحلول والاتحاد في معيَّن، كالنصارى الذين قالوا بذلك في المسيح عيسى، والغالية الذين يقولون بذلك في علي بن أبي طالب وطائفة من أهل بيته»
(4)
، وذكر أمثلة أخرى لذلك، ثم قال:«فهذا كله كفر باطنًا وظاهرًا بإجماع كل مسلم. ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين»
(5)
.
والحمد لله رب العالمين.
(1)
الفَرق بين الفِرق وبيان الفرقة الناجية لعبد القاهر البغدادي (ص:241)، ومعجم ألفاظ العقيدة لأبي عبد الله عامر عبد الله فالح (ص:18 - 19).
(2)
عقيدة المسلمين للبليهي (2/ 488).
(3)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (2/ 364 - 365). بتصرف.
(4)
المصدر السابق (2/ 365 - 367).
(5)
المصدر السابق (2/ 368).