الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الثانية
اتهام الصحابة باللغط لما هَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم كتابًا في مرض موته
الحديث الثاني الذي رده صاحب الرسالة: حديث: ما وقع من لغط بين الصحابة رضي الله عنهم لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته أن يكتب لهم كتابًا.
يقول صاحب الرسالة:
«جاء في رواية البخاري من كتاب المرض والطب: (أنه اجتمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ -فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ-، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: إِنَّ النَّبِيَّ قَدْ غَلَبَهُ الوَجَعُ -يعني: يهذي ويتكلم بما لا يعي-، وَعِنْدَنَا الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ. فاختلف الحاضرون وَاخْتَصَمُوا، فأمرهم النبي بالانصراف)
(1)
.
وفي رواية ثانية: أنهم بعد موقفهم المعارض لكتابة الكتاب قالوا له: (ألا نأتيك بالدواة والكتف يا رسول الله؟! فقال: لا، أبعد الذي قلتم؟ ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرًا).
وفي رواية للبخاري -المجلد الثالث- باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم بسنده إلى سعيد بن جبير: أن ابن عباس كان يقول: (لقد اشتد الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخميس فقال: ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَتَنَازَعُوا -وَمَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ نِزَاعٌ-، فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ، أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ -القائل هنا: عمر، كما أوضحتها الرواية الأولى-، فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ. وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ: إِخْرَاج المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَنْ يَجِيزُوا الوُفْودَ التي كانت تأتيه بِمِثْلِ مَا كَانْ يُجِيزُهُمْ. وَسَكَتَ الراوي عَنِ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَ: نَسِيتُهَا)
(2)
. على حدِّ تعبير البخاري». اهـ.
ثم خلص في آخر بحثه إلى رفض الحديث وعدم قبوله، قائلًا:«إن كتاب البخاري ليس قرآنًا منزَّلًا لا يمكن ردّه» .
والجواب:
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أولًا: أن هذا الحديث في أعلى درجات الصحة وأرفعها عند العلماء جميعًا، فهو من الأحاديث المتفق عليها، حيث أخرجه كل من البخاري ومسلم في صحيحهما في مواضع، منها:
1 -
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم، باب كتابة العلم، حديث رقم (114)، فقد قال:«حدثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: (لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ. قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: قُومُوا عَنِّي، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كِتَابِهِ)»
(3)
.
2 -
أخرجه البخاري أيضًا في كتاب الجزية، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، حديث رقم (3168)،
(1)
سيأتي لفظ الحديث بنصه وتخريجه.
(2)
سيأتي لفظ الحديث بنصه وتخريجه.
(3)
صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم (1/ 34)، رقم (114). وستأتي رواية صحيح مسلم مستقلة.
فقد قال: «حدثنا محمد حدثنا ابن عيينة عن سليمان بن أبي مسلم الأحول سمع سعيد بن جبير سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (يَوْمُ الخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ! ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الحَصَى، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ! مَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَتَنَازَعُوا -وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ-، فَقَالُوا: مَا لَهُ أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ، فَقَالَ: ذَرُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. فَأَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ، قَالَ: أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ. وَالثَّالِثَةُ خَيْرٌ، إِمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا وَإِمَّا أَنْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا. قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ
(1)
)»
(2)
.
3 -
أخرجه البخاري أيضًا في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، حديث رقم (4431)، فقد قال:«حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: (يَوْمُ الخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ! اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ فَقَالَ: ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَتَنَازَعُوا -وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ-، فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ، أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ، فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ. وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ، قَالَ: أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ. وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَ: فَنَسِيتُهَا)»
(3)
.
4 -
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يُوصي فيه، حديث رقم (1637)، فقد قال:«حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد -واللفظ لسعيد- قالوا: حدثنا سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: (يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدِي. فَتَنَازَعُوا -وَمَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ-، وَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ، أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ، قَالَ: دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ، أُوصِيكُمْ بِثَلَاثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ. قَالَ: وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتُهَا)»
(4)
.
(1)
قوله: "قال سفيان" يقصد: سفيان بن عيينة، أحد رجال السند. وقوله:"هذا من قول سليمان" يعني: قوله في الحديث: (وَالثَّالِثَةُ خَيْرٌ، إِمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا وَإِمَّا أَنْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا). وسليمان هو: سليمان بن أبي مسلم الأحول، أحد رجال السند أيضًا.
(2)
صحيح البخاري، كتاب الجزية، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب (4/ 99) رقم (3168). وستأتي رواية صحيح مسلم مستقلة.
(3)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته (6/ 9) رقم (4431). وستأتي رواية صحيح مسلم مستقلة.
(4)
صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه (3/ 1257 - 1258) رقم (1637). وقد سبقت رواية صحيح البخاري للحديث.
5 -
أخرجه مسلم أيضًا في كتاب الوصية أيضًا، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يُوصي فيه، حديث رقم (1637)، فقد قال:«حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا وكيع عن مالك بن مِغْوَل عن طلحة بن مُصَرِّف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: (يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ جَعَلَ تَسِيلُ دُمُوعُهُ حَتَّى رَأَيْتُ عَلَى خَدَّيْهِ كَأَنَّهَا نِظَامُ اللُّؤْلُؤِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ -أَوِ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ- أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَهْجُرُ)»
(1)
.
6 -
(2)
.
وبهذا يتبين أن الحديث صحيح ومتفق عليه.
(1)
المصدر السابق، نفس الكتاب والباب ورقم الحديث (3/ 1259). وقد سبقت رواية صحيح البخاري للحديث.
(2)
نفس المصدر السابق والكتاب والباب والجزء والصفحة ورقم الحديث. وهو أيضًا في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته (6/ 9 - 10) رقم (4432).
ثانيًا: ويضاف إلى ذلك: أن هذا الحديث لم يذكره أحد ضمن الأحاديث المنتقدة على الشيخين، لا الدارقطني من قبل ولا أبو مسعود الدمشقي من بعد، ولا غيرهما ممن تكلم على أحاديثهما.
ثالثًا: قول صاحب الرسالة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لما عادوا يسألونه: هل يأتونه بالدواة والكتف: «(ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرًا)» هذه اللفظة دسَّها -صاحب الرسالة- في الحديث، ولم ترد في أي طريق من طرقه، لا في الصحيحين ولا في غيرهما. وإني أتحداه أن يذكر مرجعًا معتمدًا من كتب السُّنَّة يبيِّن فيه اسم الكتاب والباب الذي وردت فيه هذه اللفظة. وهيهات هيهات له ذلك! اللهم إلا في نهج الكذب الذي هو أصح عندهم من "صحيح البخاري" فيُحتمل.
ولم أكن أتوقع من دعيّ العلم هذا أن يصل به الحال إلى أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وينسب إليه شيئًا لم يقله. أفلا يخشى هذا المتجرئ من توعّد النبي صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك متعمدًا بالنَّار، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)
(1)
.
وفي لفظ: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)
(2)
.
والحديث متفق عليه، وهو حديث متواتر، أي: أنه يفيد القطع بحرمة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا، وهذا ما حمل أبا محمد الجويني والد إمام الحرمين أبي المعالي على تكفير من يتعمَّد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم
(3)
.
ولا يبعد عندي بعد أن قرأت الرسالة المذكورة أن يكون صاحبها متشبعًا بفكر الرافضة وإن لم يكن على خطِّهم تمامًا، فإنه يقول بالكثير مما يقولونه ويردده، مما يدلُّ على أنهم يردون موردًا واحدًا، ويصدرون عنه جميعًا.
(1)
صحيح البخاري وصحيح مسلم. وقد تقدم. وتقدم هناك قول النووي والألباني: إنه متواتر.
(2)
صحيح البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 33)، رقم (109).
(3)
شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 69).
وإن من ينظر في حال الطوائف المنتسبة إلى الإسلام يجد الرافضة أشدهم ضررًا وأعظمهم كذبًا، وليس أدلّ على ذلك من استخدامهم للتقية دينًا، ولسبِّ الصحابة رضي الله عنهم وتكفيرهم شعارًا وعقيدة. قال الإمام ابن تيمية مؤكدًا على ذلك -وهو أخبر النَّاس بخبثهم ومكرهم-:«فهم أشد ضررًا على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية، ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة. فليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبًا ولا أكثر تصديقًا للكذب وتكذيبًا للصدق منهم، وسيما النفاق فيهم أظهر منه في سائر الناس»
(1)
(2)
.
وصاحب الرسالة وإن كان قد رفض هذا الحديث ولم يقبله إلا أنه بإثباته لهذه اللفظة فيه يريد أن يبيِّن للنَّاس أنها هي الوصية الثالثة التي نسيها الراوي، وكأنه يلمح بهذا إلى أن الرواة بمن فيهم البخاري قد تمالئوا على حذفها. وعبارته التي ذكرها في آخر الحديث -وهي قوله:«على حدِّ تعبير البخاري» - تدلُّ على ذلك. وليس ما أراده صحيحًا، ولا ما ألمح إليه حقًا، فإن هذه الوصية قد نسيها الراوي فعلًا، وهو سليمان بن أبي مسلم الأحول، كما نصَّ على ذلك البخاري بعد سياقه للحديث
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى (28/ 479).
(2)
نفس المصدر السابق.
(3)
صحيح البخاري (4/ 99). وقد تقدم.
ونصَّ عليه كذلك الحميدي في "مسنده"، حيث جاء في روايته للحديث:«قال سفيان: قال سليمان: لا أدري أذكر سعيد الثالثة فنسيتُها أو سكت عنها»
(1)
.
ولما كانت مبهمة فقد اختلف العلماء في المراد بها، قال ابن حجر: «قال الداودي: "الثالثة: الوصية بالقرآن. وبه جزم ابن التين". وقال المهلب: "بل هي تجهيز جيش أسامة". وقوَّاه ابن بطال: بأن الصحابة لما اختلفوا على أبي بكر في تنفيذ جيش أسامة قال لهم أبو بكر: (إن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك عند موته)
(2)
.
(1)
مسند الحميدي (1/ 458)، رقم (536).
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتُخْلِفَ مَا عُبِدَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُ: مَهْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟! فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَّهَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي سَبْعِمِائَةٍ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي خَشَبٍ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ! رُدَّ هَؤُلَاءِ، تُوَجِّهُ هَؤُلَاءِ إِلَى الرُّومِ وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْ جَرَتِ الْكلَابَ بأَرْجُلِ أَزوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا رَدَدْتُ جَيْشًا وَجَّهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا حَلَلْتُ لِوَاءً عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَّهُ أُسَامَة)، الحديث. الاعتقاد للبيهقي، باب تنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلافة أبي بكر الصديق بعده وبيان ما في الكتاب من الدلالة على صحة إمامته وإمامة من بعده من الخلفاء الراشدين (ص:345)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (2/ 60). وقال السيوطي:«سنده حسن» . جمع الجوامع للسيوطي (14/ 230)، رقم (372).
وعن عروة بن الزبير: (أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: أَنْفِذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ. فَقُبِضُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُسَامَةُ بِالْجُرْفِ، فَكَتَبَ أُسَامَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَعْظَمُ الْحَدَثِ، وَمَا أَرَى الْعَرَبَ إِلا سَتَكْفُرُ، وَمَعِيَ وُجُوهُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحدهُمْ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ نُقِيمَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَسْتَفْتِحَ بِشَيْءٍ أَوْلَى مِنْ إِنْفَاذِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَأَنْ تَخَطَّفَنِيَ الطَّيْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ). الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 50)، ترجمة: أسامة الحب بن زيد رضي الله عنهما، رقم الترجمة (357)، وتاريخ خليفة بن خياط (ص:100)، وتاريخ الرسل والملوك للطبري "المشهور بـ: تاريخ الطبري" (3/ 225). وقال في "صحيح وضعيف تاريخ الطبري" -تحقيق وتخريج وتعليق: محمد بن طاهر البرزنجي- عن رواية الطبري: «إسناده ضعيف» . صحيح وضعيف تاريخ الطبري لمحمد بن طاهر البرزنجي (8/ 26)، حاشية رقم (1). وقال أيضًا في نفس الصفحة عن سند رواية خليفة بن خياط:«إسناد مرسل» . وقال عن رواية ابن سعد: «أخرجه ابن سعد مختصرًا (4/ 67، 68) من روايتين مرسلتين عن عروة، وإسنادهما حسن إلى عروة» . صحيح وضعيف تاريخ الطبري لمحمد بن طاهر البرزنجي (8/ 25)، حاشية رقم (1).
وفي تاريخ خليفة بن خياط: «عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُنْفِذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ، وَإِنَّكَ لَا تَصْنَعُ بِتَفْرِيقِ النَّاسِ عَنْك شَيْئا، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ بِيَدِهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ أَكَلَتْنِي بِهَذِهِ الْقرْيَة لأنقذت هَذَا الْبَعْثَ الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِنْفَاذِهِ» . تاريخ خليفة بن خياط (ص:100 - 101). وقال في "صحيح وضعيف تاريخ الطبري" -تحقيق وتخريج وتعليق: محمد بن طاهر البرزنجي-: «معضل» . صحيح وضعيف تاريخ الطبري لمحمد بن طاهر البرزنجي (8/ 26).
وقال عياض: يحتمل أن تكون هي قوله: (ولَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا)
(1)
؛ فإنها ثبتت في "الموطأ" مقرونة بالأمر بإخراج اليهود»
(2)
.
ثم قال ابن حجر بعد ذلك مباشرة: «يحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)
(3)
»
(4)
.
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا). بهذا اللفظ أخرجه في: مسند البزار (16/ 48)، رقم (9087)، والتمهيد لابن عبد البر (5/ 43). وقال في "أنيس الساري في تخريج وتحقيق الأحاديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري" -أبو حذيفة نبيل بن منصور بن يعقوب بن سلطان البصارة الكويتي-:«حسن» . أنيس الساري في تخريج وتحقيق الأحاديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري لأبي حذيفة نبيل بن منصور بن يعقوب بن سلطان البصارة الكويتي (11/ 1033)، رقم (5717).
(2)
فتح الباري (8/ 135). وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (11/ 94).
(3)
جاء في ذلك عدة روايات، منها: عن أنس رضي الله عنه قال: (كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. حَتَّى جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُغَرْغِرُ بِهَا صَدْرُهُ، وَمَا يَكَادُ يُفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ). مسند أحمد (19/ 209)، رقم (12169)، وسنن ابن ماجة، كتاب الوصايا، باب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/ 900)، رقم (2697). وقال الألباني:«صحيح» . صحيح سنن ابن ماجة للألباني (2/ 363)، رقم (2200).
(4)
فتح الباري (8/ 135). وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (11/ 94).
رابعًا: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الوَجَعُ) ليس معناه: أنه صار يهذي ويتكلم بما لا يعي، كما فسَّره به صاحب الرسالة. فحاشاه رضي الله عنه أن يصدر منه هذا المعنى في حق النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي هو أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه
(1)
، بل كيف يصدر منه وهو رضي الله عنه المُحدَّث
(2)
-أي: الملهم
(3)
- العبقري الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة
(4)
(1)
عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الآنَ يَا عُمَرُ). صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم (8/ 129)،
رقم (6632).
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ). صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (4/ 174)، رقم (3469)، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه (4/ 1864)، رقم (2398). وهو في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
جاء في نهاية الحديث في صحيح مسلم: (قَالَ ابْنُ وَهْبٍ -وهو أحد رجال سند الحديث-: تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ). صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه (4/ 1864)، رقم (2398).
(4)
عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: (أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: عَشْرَةٌ فِي الْجَنَّةِ النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ)، الحديث. مسند أحمد (3/ 174)، رقم (1629)، وسنن ابن ماجة، المقدمة، فضائل العشرة رضي الله عنهم (1/ 48)، رقم (133)، وسنن أبي داود، كتاب السنة، باب في الخلفاء (4/ 212)، رقم (4649)، وسنن الترمذي، أبواب المناقب، باب مناقب عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري رضي الله عنه (5/ 648)، رقم (3748). وقال الألباني:«صحيح» . صحيح سنن ابن ماجة للألباني (1/ 62)، رقم (110).
والعلم
(1)
، والدِّين
(2)
والشهادة
(3)
، وفرار الشيطان منه
(4)
؟!
(1)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: العِلْمَ). صحيح البخاري، كتاب العلم، باب فضل العلم (1/ 28)، رقم (82)، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه (4/ 1859)، رقم (2391).
(2)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: الدِّينَ). صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الجنة في الأعمال (1/ 13 - 14)، رقم (23)، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه (4/ 1859)، رقم (2390).
(3)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ: اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَان). صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا)(5/ 9)، رقم (3675).
(4)
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ). صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (4/ 126)، رقم (3294)، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه (4/ 1863)، رقم (2396).
ولكنه مرض القلب الذي أعمى صاحبنا عن الحق، فجعله يتخبط كالضال الذي لا يعرف أين وجهته. وإنما معنى كلامه رضي الله عنه كما قال ابن حجر: إنه «يشق عليه إملاء الكتاب أو مباشرة الكتابة. وكأن عمر رضي الله عنه فهم من ذلك أنه يقتضي التطويل»
(1)
.
وقال الخطابي: «ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال، لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه، فتجد
(2)
المنافقون بذلك سبيلًا إلى الكلام في الدين»
(3)
.
وقال النووي: «وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره»
(4)
.
وقال أبو بكر البيهقي: «وإنما قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما قال التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه قد غلب عليه الوجع»
(5)
.
خامسًا: ومع وقوف صاحب الرسالة على هذه المعاني الحقّة لكلام عمر رضي الله عنه إلا أنه لم يتوقف عن كيل الاتهامات له، حيث أكد بأن قول القائلين:(مَا شَأْنُهُ، أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ) هو القائل له؛ مستدلًا على ذلك بأن الرواية الأولى قد أوضحت ذلك
(6)
. وليس هذا الاتهام بصحيح، ويعوزه الدليل الصريح. بل الأدلة تدل على خلاف ذلك، وهذه الأدلة هي:
1 -
صيغة الجمع في لفظة: (قَالُوا) تدلُّ على أن المتكلم بذلك أكثر من واحد. ولا يقل قائل: إنه قد يقصد بها التعظيم؛ لأن من يعرف الصحابة رضي الله عنهم وتواضعهم يعلم يقينًا أنهم أبعد النَّاس عن تعظيم أنفسهم.
2 -
أن عمر رضي الله عنه لم يكن في البيت وحده، بل كان معه رجال آخرون.
3 -
أنه لم ينسب أحد من شراح الحديث هذا القول إليه رضي الله عنه، بل جميعهم متفقون على إبهام القائل، وأنه غير عمر رضي الله عنه.
ورجَّح ابن حجر أن «يكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام»
(7)
.
والعجب من حال دعيّ العلم هذا تناقضه الشديد واضطرابه في الحكم على أحاديث الصحيحين! مما يؤكد وهن استدلالاته وخطأ مقولاته، فبينما نراه في هذا الحديث يؤكد على نسبة هذه الأقوال إلى عمر رضي الله عنه مما يعني اعترافًا ضمنيًا منه بصحة الحديث إذا بنا نراه في آخر البحث يرفضه ولا يقبله، مدعيًا بأن كتاب البخاري ليس قرآنًا منزَّلًا لا يمكن ردّه. ولستُ
(1)
فتح الباري لابن حجر (1/ 208).
(2)
كذا في شرح صحيح مسلم للنووي، ولعل الصواب: فيجد.
(3)
شرح صحيح مسلم للنووي (11/ 91). وانظر نص كلام الخطابي في: أعلام الحديث "شرح صحيح البخاري" للخطابي (1/ 223 - 224).
(4)
شرح صحيح مسلم للنووي (11/ 90).
(5)
دلائل النبوة للبيهقي (7/ 184).
(6)
أي: قول عمر رضي الله عنه: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا).
(7)
فتح الباري لابن حجر (8/ 133).
أدري بعد قوله هذا كيف يسوغ له أن يستدل بشيء من أحاديثه، وهو بهذه المنزلة عنده؟!
ولا تتعجبوا؛ فإن هذا ما حدث فعلًا، فقد استدلَّ في رسالته في الصفحة الحادية والثلاثين على وجوب الاستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما أخرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال:(مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُصَلِّي فَدَعَانِي، فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24])
(1)
، الحديث؟
سادسًا: اتفق العلماء على: أنه صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه، ومعصوم صلى الله عليه وسلم كذلك من ترك بيان ما أُمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، كما أنه في المقابل ليس معصومًا صلى الله عليه وسلم من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام، ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهّد من شريعته
(2)
.
وإذا اتضح هذا فليعلم أن قوله: (أَهَجَرَ)؟ -بفتحات- هو على الاستفهام. «وهو أصح من رواية من روى: (هَجَرَ)
(3)
، و (يَهْجُرُ)
(4)
؛ لأن هذا كله لا يصح منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن معنى (هَجَرَ): هذى. وإنما جاء هذا من قائله استفهامًا للإنكار على من قال: لا تكتبوا، أي: لا تتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهجر. وإن صحَّت الروايات الأخرى كانت خطًا من قائلها، قالها بغير تحقيق، بل لِمَا أصابه من الحيرة والدهشة؛ لعظيم ما شاهده من النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحالة الدالة على وفاته وعظيم المصاب به، وخوف الفتن والضلال بعده، وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع.
وقول عمر رضي الله عنه: (حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ) ردٌّ على من نازعه، لا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم. قاله القاضي عياض
(5)
.
(1)
بهذا اللفظ بنصه: صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)} [الحجر:87](6/ 81)، رقم (4703).
(2)
شرح صحيح مسلم للنووي (11/ 90). وقد تقدم نقل الإجماعات فيما عُصم الأنبياء عليهم السلام منه.
(3)
جاءت هذه اللفظة في الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (يَوْمُ الخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ! ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الحَصْبَاءَ، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ يَوْمَ الخَمِيسِ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَتَنَازَعُوا -وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ. وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ. وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ). صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم (4/ 69 - 70)، رقم (3053).
(4)
جاءت هذه اللفظة في الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ جَعَلَ تَسِيلُ دُمُوعُهُ حَتَّى رَأَيْتُ عَلَى خَدَّيْهِ كَأَنَّهَا نِظَامُ اللُّؤْلُؤِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ -أَوِ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ- أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا. فَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَهْجُرُ). صحيح مسلم. وقد تقدم.
(5)
شرح صحيح مسلم للنووي (11/ 92 - 93). وانظر نص كلام القاضي عياض في: إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (5/ 380 - 381).
سابعًا: أن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم ممن امتنع عن إحضار الكتف والدواة ليكتب لهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا رضي الله عنهم عصاةً، كما صورهم صاحب الرسالة؛ لأن أمره هذا عليه الصلاة والسلام لم يكن للوجوب، بل للندب. ويدلُّ عليه: أن طلبه صلى الله عليه وسلم هذا منهم كان في يوم الخميس، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعده إلى يوم الاثنين، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم عاود أمرهم بذلك. ولو كان واجبًا لم يتركهم لاختلافهم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يترك التبليغ لمخالفة من خالف. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم، فإذا عزم امتثلوا
(1)
.
وفَهْمُ الصحابة رضي الله عنهم أجمعين لأمره صلى الله عليه وسلم هذا بأنه ليس للوجوب كفهمهم رضي الله عنهم لقوله صلى الله عليه وسلم لهم: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)
(2)
. حيث تخوف أناس من فوات الوقت فَصَلُّوا في الطريق، وتمسك آخرون بظاهر النص فلم يُصَلُّوا إلا بعد أن وصلوا، فلم يعنِّف عليه الصلاة والسلام أحدًا من الفريقين
(3)
.
وقال البيهقي: «ولو كان ما يريد
(4)
النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم شيئًا مفروضًا لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم؛ لقول الله عز وجل: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه»
(5)
. قال النووي: وهذا «كما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث»
(6)
.
ثامنًا: اختلف العلماء في المراد بالكتاب الذي همَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتبه لهم:
فقيل: أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتابًا ينصّ فيه على الأحكام؛ ليرتفع الاختلاف.
وقيل: بل أراد صلى الله عليه وسلم أن ينصّ على أسامي الخلفاء بعده؛ حتى لا يقع بينهم الاختلاف. قاله سفيان بن عيينة. ويؤيده: أنه صلى الله عليه وسلم قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة رضي الله عنها: (ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ؛ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ)
(7)
. أخرجه مسلم. ومع ذلك لم يكتب.
(1)
فتح الباري لابن حجر (1/ 209).
(2)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)، الحديث. صحيح البخاري، أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً (3/ 15)، رقم (946)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين (3/ 1391)، رقم (1770). وفي رواية مسلم:"الظهر" بدل "العصر".
(3)
تمام الحديث السابق: (فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ. قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ). صحيح البخاري، أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً (3/ 15)، رقم (946)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين (3/ 1391)، رقم (1770). واللفظ لمسلم.
(4)
كذا في دلائل النبوة للبيهقي، ولعل الصواب: مراد.
(5)
دلائل النبوة للبيهقي (7/ 184).
(6)
شرح صحيح مسلم للنووي (11/ 90).
(7)
صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (4/ 1857)، رقم (2387).
قال ابن حجر: «والأول أظهر؛ لقول عمر: (كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا)، أي: كافينا، مع أنه يشمل الوجه الثاني؛ لأنه بعض أفراده»
(1)
.
وبعد هذا التطواف بين أقوال العلماء في معنى هذا الحديث أحب أن أُقرّ عيون الغيورين على السُّنَّة بأن الطعن في أحاديث الصحيحين أو بعضها بهذه الطريقة السخيفة التي سلكها صاحب الرسالة لم يُعهد عن أحد من العلماء الرَّبانيين أبدًا، وإنما عُرف ذلك عن بعض الطوائف كالزنادقة والرافضة قديمًا
(2)
والمستشرقين والمستغربين حديثًا
(3)
. وهذا مما يخفف الألم ويهوّن المصيبة؛ لأن دوافع هؤلاء معلومة لكل أحد، والناس لا يغترون بكلامهم ولا يلقون إليه بالًا؛ لِمَا ظهر لهم من سوء نياتهم وقبح أعمالهم.
فالزنادقة ردُّوا السُّنَّة مطلقًا، ولم يكتفوا بذلك حتى أدخلوا عليها أحاديث ليست منها. قال حماد بن زيد البصري:«وضعت الزَّنَادِقَة على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَة عشر ألف حَدِيث»
(4)
.
وأمَّا الرافضة فقد تقدم أنهم لا يقبلون أي طريق للنقل إلا ما كان عن بعض أهل البيت، وعرَّفوا الحديث الصحيح بأنه:«ما اتصل سنده إلى المعصوم -أي: من الأئمة- بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات حيث تكون متعددة»
(5)
.
(1)
فتح الباري لابن حجر (1/ 209).
(2)
قال الإمام السيوطي: «الزنادقة وطائفة من غلاة الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن» . مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي. وقد تقدم.
(3)
دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور/ محمد مصطفى الأعظمي (1/ 26 - 27)، و (2/ 439)، وما بعدها. فمن المستشرقين: غولدتسيهر، وفنسك، والبرفسير شاخت، ومن المستغربين: أبو ريه، وأحمد أمين، وتوفيق صدقي، وإسماعيل أدهم.
(4)
الموضوعات لابن الجوزي (1/ 38).
وجاء عنه بلفظ: «وَضَعَتِ الزَّنَادِقَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَي عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ» . الضعفاء الكبير للعقيلي (1/ 15)، والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص:431). وقال في "تحرير علوم الحديث" -عبد الله بن يوسف الجديع-: «وإسناده صحيح» . تحرير علوم الحديث عبد الله بن يوسف الجديع (2/ 1043)، حاشية رقم (1).
قال ابن الأمير الصنعاني: «قلت: ومعرفة قدر عددها دليل على تتبع الحفاظ من الأئمة لها ومعرفتهم إياها» . توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار لابن الأمير الصنعاني (2/ 55).
(5)
دراسات في علم الدراية لعلي أكبر غفاري " [كتاب إلكتروني - صفحاته مرقمة آليًا، وليست موافقة في ترقيمها للنسخ المطبوعة] "(ص:29)، ومعجم مصطلحات الرجال والدراية، إصدار: مركز البحوث التابع لمؤسسة دار الحديث، تحت إشراف وتوجيه: محمد كاظم رحمان ستايش " [كتاب إلكتروني - صفحاته مرقمة آليًا، وليست موافقة في ترقيمها للنسخ المطبوعة] "(5/ 27). وانظر: مع الاثني عشرية في الأصول والفروع للدكتور/ علي السالوس (ص:706).
وأمَّا المستشرقون -وهم علماء الكفار الذين اعتنوا بدراسة الإسلام- فلا يُستغرب ذلك منهم؛ لِمَا تنطوي عليه نفوسهم من الكفر والخبث وعدم إرادة الخير للمسلمين، قال تعالى:{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105].
ولكن الذي يدعو للاستغراب في الحقيقة هو: ما صدر من أذنابهم المستغربين في بلاد الإسلام من تشكيك ورفض للسُّنَّة!
ومما قاله أحد هؤلاء الأذناب
(1)
: إن الأحاديث الموجودة حتى في الصحيحين «ليست ثابتة الأصول والدعائم، بل هي مشكوك فيها، ويغلب عليها صفة الوضع»
(2)
!
ولسنا بحمد الله تعالى بعد كل هذا محتاجين أن نُخيّر من قِبَل صاحب الرسالة بين القول بصحة الحديث أو الجزم بمخالفة عمر رضي الله عنه وعصيانه لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالحديث صحيح صحيح، كما تقدم، وعمر رضي الله عنه لم يعصِ ولم يخالف أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال العلماء.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(1)
هو: إسماعيل أدهم. وهو أحد ملاحدة المسلمين في مصر، وقد أعلن إلحاده في كتيب له بعنوان:"لماذا أنا ملحد". وأصيب بالسل، فتعجل الموت، فأغرق نفسه بالاسكندرية منتحرًا، وقد عثر البوليس في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر؛ لزهده في الحياة وكراهيته لها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقبرة المسلمين، ويطلب إحراقها. انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي لمصطفى بن حسني السباعي (ص:237)، والأعلام للزركلي (1/ 310)، ترجمة: إسماعيل أدهم، وموسوعة ويكييديا " [موسوعة إلكترونية] "، عنوان المقال: إسماعيل أدهم.
(2)
قال ذلك في كتابه: مصادر التاريخ الإسلامي، وقد نشره في عام (1353 هـ). انظر: وامحمداه إن شانئك هو الأبتر لسيد بن حسين العفاني (2/ 525). وقد قوبلت هذه الرسالة بنقمة الأوساط الإسلامية، حتى اضطرت الحكومة المصرية بناء على طلب مشيخة الأزهر إلى مصادرة الرسالة من الأيدي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي لمصطفى بن حسني السباعي (ص:237).