الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة التاسعة والعشرون
اتهام المحدثين بمخالفة القرآن
في قولهم بوقوع الخلق في سبعة أيام لا ستة
يقول المشكك:
«ومما أورده "صحيح مسلم": حديث رقم (2789): باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام، يقول فيه: حدثني
…
عن أبي هريرة قال: (أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي فَقَالَ: خَلَقَ اللهُ عز وجل التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عليه السلام بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ). بما يعني: سبعة أيام كاملة، وعدها واحدًا تلو الآخر.
بينما يقول الله بالقرآن
(1)
في سبعة مواضع بسبع
(2)
آيات أذكر منها: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق:38].
فأين رجال العلم من هذا التناقض؟ أَوَ خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام كما يقول الله أم سبعة أيام كما يقول المزورون على النبي باسم حديث صحيح؟ أم إننا لا نفهم البلاهة التي لا يستطيع فك طلاسمها إلا العلماء المتخصصون؟
وإذا كانوا يفهمون أليس من مسئولية العلماء توضيح ما يفهمونه لنا؛ حتى نفهم ولا نكون مفكرين؟ وقد يحدونا الأمل لاستئصال المخ باعتباره زائدة دودية ملتهبة».
والجواب:
للعلماء المتقدمين والمتأخرين في هذا الحديث ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: مسلك التضعيف والرد، لكن من غير حط ولا تشنيع، كما فعل هذا المشكك الحاقد.
وممن ذهب إلى ذلك:
1 -
البخاري، حيث قال عنه:«قال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب. وهو أصح»
(3)
.
ونقل عنه ابن القيم في "بدائع الفوائد" قوله فيه: «إنه حديث معلول، وأن الصحيح: أنه قول كعب -يعني: كعب الأحبار-»
(4)
.
(1)
كذا في المنشور.
(2)
كذا في المنشور.
(3)
التاريخ الكبير للبخاري (1/ 413)، ترجمة: أيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاري، رقم الترجمة:(1317).
(4)
بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 85).
2 -
ابن تيمية، حيث قال عنه:«حديث معلول، قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره»
(1)
.
وقال أيضًا عمن ضعفه: «وهذا هو الصواب»
(2)
.
وقال أيضًا عنه: «بيّن أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط، وأنه ليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم»
(3)
.
وقال أيضًا عنه في "التوسل والوسيلة": «الحديث المختلف فيه»
(4)
.
3 -
ابن القيم، حيث قال عنه في "المنار المنيف":«وهو في "صحيح مسلم"، ولكن وقع الغلط في رفعه، وإنما هو من قول كعب الأحبار»
(5)
.
4 -
ابن كثير، حيث قال عنه:«اختلف فيه على ابن جريج»
(6)
.
5 -
المعلمي، حيث قال عنه:«في صحة هذه الرواية عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح نظر»
(7)
.
6 -
محمد الأمين الشنقيطي، حيث قال عنه:«يظهر عدم صحته»
(8)
.
7 -
ابن عثيمين، حيث قال عنه:«حديث ليس بصحيح، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم»
(9)
.
المسلك الثاني: مسلك التصحيح للحديث والسكوت؛ لاعتقادهم عدم وجود مخالفة بينه وبين القرآن الكريم في الحقيقة.
وممن ذهب إلى هذا:
1 -
الإمام مسلم الذي خرجه في صحيحه.
2 -
ابن حبان في صحيحه
(10)
.
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/ 235).
(2)
المصدر السابق (18/ 18).
(3)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (2/ 443 - 444).
(4)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية (ص:188).
(5)
المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم (ص:84 - 85).
(6)
البداية والنهاية لابن كثير (1/ 18).
(7)
الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة لعبد الرحمن المعلمي (ص:192).
(8)
نثر الورود شرح مراقي السعود لمحمد الأمين الشنقيطي (1/ 333).
(9)
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (6/ 674).
(10)
صحيح ابن حبان، كتاب التاريخ، باب بدء الخلق (14/ 30)، رقم (6161).
وإخراجه له في صحيحه يدل على صحته عنده؛ فقد صرح في مقدمة صحيحه أنه يذكر فيه الأحاديث الصحيحة فقط -وهذا حسب طريقته هو في تصحيح الأحاديث وإن كان لا يوافقه عليها غيره-، فقال:«وإني لما رأيت الأخبار طرقها كثرت ومعرفة الناس بالصحيح منها قلت لاشتغالهم بكتبة الموضوعات وحفظ الخطأ أو المقلوبات حتى صار الخبر الصحيح مهجورًا لا يكتب والمنكر المقلوب عزيزا يستغرب وأن من جمع السنن من الأئمة المرضيين وتكلم عليها من أهل الفقه والدين أمعنوا في ذكر الطرق للأخبار وأكثروا من تكرار المعاد للآثار؛ قصدًا منهم لتحصيل الألفاظ على من رام حفظها من الحفاظ، فكان ذلك سبب اعتماد المتعلم على ما في الكتاب وترك المقتبس التحصيل للخطاب، فتدبرت الصحاح لأسهل حفظها على المتعلمين، وأمعنت الفكر فيها لئلا يصعب وعيها على المقتبسين» . صحيح ابن حبان (1/ 102 - 103).
3 -
ابن العربي في "أحكام القرآن"
(1)
.
4 -
الزرقاني في "مختصر المقاصد"
(2)
.
5 -
شعيب الأرناؤوط في تخريجه وتحقيقه لـ"صحيح ابن حبان"
(3)
.
المسلك الثالث: مسلك التصحيح والجمع بينه وبين القرآن الكريم؛ لاعتقادهم عدم وجود مخالفة حقيقية بينهما.
ولهؤلاء طريقتان في الجمع:
الأولى: أن هذه الأيام السبعة المذكورة في الحديث غير الأيام الستة المذكورة في القرآن.
وذهب إلى هذا الألباني، حيث قال عنه: «وقد توهم بعضهم أنه مخالف للآية المذكورة في أول الحديث، وهي أول سورة السجدة، وليس كذلك كما كنت بينته فيما علقته على "المشكاة"(5735).
وخلاصة ذلك: أن الأيام السبعة في الحديث هي غير الأيام الستة في القرآن، وأن الحديث يتحدث عن شيء من التفصيل الذي أجراه الله على الأرض، فهو يزيد على القرآن، ولا يخالفه.
وكان هذا الجمع قبل أن أقف على حديث الأخضر
(4)
، فإذا هو صريح فيما كنت ذهبت إليه من
(5)
الجمع.
(1)
قال ابن العربي: «فإن الحديث ثابت» . أحكام القرآن لابن العربي (4/ 83).
(2)
قال الزرقاني: «صحيح» . مختصر المقاصد الحسنة لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني (ص:119)، رقم (412).
(3)
قال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان: «إسناده صحيح على شرط مسلم» . صحيح ابن حبان (14/ 30)، حاشية رقم (1).
(4)
هو: الأخضر بن عجلان، قال الألباني:«وثقه ابن معين وكذا الإمام البخاري والنسائي وابن حبان وابن شاهين كما في "التهذيب"، فهو متفق على توثيقه لولا قول أبي حاتم: "يكتب حديثه". لكن هذا القول إن اعتبرناه صريحًا في التجريح فمثله لا يقبل؛ لأنه جرح غير مفسر، لا سيما وقد خالف قول الأئمة الذي وثقوه، على أنه من الممكن التوفيق بينه وبين التوثيق بحمله على أنه وسط عند أبي حاتم، فمثله حسن الحديث قطعاُ على أقل الدرجات» . مختصر العلو للعلي العظيم للذهبي للألباني (ص:112).
(5)
ساقطة من مختصر العلو للذهبي، ولعل الصواب إضافتها.
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات»
(1)
.
قلت: وحديث الأخضر بن عجلان أخرجه الإمام النسائي في "السنن الكبرى" في كتاب التفسير من طريقه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِي قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! إِنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَوْمَ السَّابِعِ، وَخَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ)
(2)
، الحديث، بنحو رواية مسلم.
وهذا الحديث ذكره الذهبي في كتاب "العُلو"
(3)
، وحسنه الألباني في تعليقه على المختصر، فقال:«الحديث جيد الإسناد»
(4)
.
وهو شاهد لما ذهب إليه الألباني من الجمع؛ إذ بيّن أن السبعة الأيام في الحديث هي غير الستة الأيام التي في القرآن، وأن هذه الأيام السبعة هي تفصيلية لما جرى من خلق في الستة الأيام.
الثانية: أن الآية تتحدث عن خلق السموات والأرض وما بينهما من أفلاك ومجرات وكواكب وأنجم وغيرها في ستة أيام، ولم تتحدث عن خلق ما فيهن، وقد أشار القرآن إلى المغايرة بينهما فقال:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة:120]، وقال:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44].
فدل هذا على: أن ما فيهن من خلق لم يدخل في حساب خلق السماوات والأرض وما بينهما، ومن ذلك خلق آدم عليه السلام الذي وقع في اليوم السابع في آخر ساعة من يوم الجمعة.
إضافة إلى: أن الحديث يتحدث عن تفصيل الخلق على الأرض، ولم يتعرض لتفصيل خلق السماوات الذي جرى في يومين.
ثم إنه لم يتجاوز تفصيل خلق الأرض الأربعة أيام التي ذكرها القرآن، فالتربة خلقت في يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء. وهذه أربعة أيام تتعلق بالأرض.
(1)
مختصر العلو للعلي العظيم للذهبي للألباني (ص:112).
(2)
السنن الكبرى للنسائي، كتاب التفسير، ولم يذكر له بابًا (10/ 213)، رقم (11328).
(3)
العلو للعلي الغفار في إيضاح صحيح الأخبار وسقيمها للذهبي (ص:94).
(4)
مختصر العلو للعلي العظيم للذهبي للألباني (ص:112).
ثم قال: (وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ)، أي: خلق الأنجم والشمس والقمر في هذا اليوم. وهذه تتعلق بيومي خلق السماوات.
ثم قال: (وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ)، أي: نشرها في الأرض، ولم يتحدث عن خلقها في هذا اليوم، فيحتمل أنه خلقها في أحد أيام الأرض الأربعة، ويحتمل في غيرها، ولا يدخل ذلك في حساب الأيام الستة؛ لأنه جرى في السماوات والأرض، أي: فيهن، ولم يدخل في خلق {وَمَا بَيْنَهُمَا} . وخَلْق ما فيهن قد جرى في غير الستة الأيام. والله أعلم.
وبهذا يلتئم الحديث مع الآية، ولا يعارضها. وهو أولى من تضعيفه مع صحة سنده. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148].
والحمد لله رب العالمين.