الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
تسمية السنة بـ «الكتاب»
ما يتبادر إلى الذهن عند إطلاق لفظ "كتاب الله" أن المقصود به هو "القرآن الكريم" هذا لا شك فيه، غير أنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية السنة بـ"كتاب الله"، ومن ذلك:
1 -
حديث: (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ). وقضى بالقرآن والسنة، وذلك في قصة العسيف
(1)
التي رواها الشيخان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنهما قَالَا: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا لِي: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ
(2)
، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ -لِرَجُلٍ
(3)
- فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا. فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا)
(4)
.
وفي لفظ في الصحيحين: (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ! عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا)
(5)
.
والرجم والتغريب في السنة وليسا في القرآن. فدل على هذا على: صحة تسمية السنة بكتاب الله.
قال ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني في بيان المراد بـ"كتاب الله" في الحديث: «والمراد بكتاب الله: ما حكم به وكتب على عباده. وقيل: المراد: القرآن. وهو المتبادر.
(1)
العسيف هو: الأجير وزنًا ومعنى. ويطلق أيضًا على: الخادم، والعبد، والسائل. انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (12/ 139).
(2)
الوليدة في الأصل هي: المولودة. وتطلق ويراد بها: الأمة، كما هنا. انظر: فتح الباري لابن حجر (12/ 32).
(3)
هو: أنيس الأسلمي، رجل من أسلم.
(4)
بهذا اللفظ أخرجه في: صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (3/ 184)، رقم (2695)، وكتاب الحدود، باب من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبًا عنه (8/ 171)، رقم (6835)، وكتاب الأحكام، باب هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلًا وحده للنظر في الأمور (9/ 75 - 76)، رقم (7193).
(5)
صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط التي لا تحل في الحدود (3/ 191)، رقم (2724)، كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا (8/ 167 - 168)، رقم (6827)، وصحيح مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى (3/ 1324)، رقم (1697).
وقال بن دقيق العيد: الأول أولى؛ لأن الرجم والتغريب ليسا مذكورين في القرآن إلا بواسطة أمر الله باتباع رسوله
(1)
.
قيل: وفيما قال نظر؛ لاحتمال أن يكون المراد ما تضمنه قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء:15]. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن السبيل: جلد البكر ونفيه، ورجم الثيب. قلت
(2)
: وهذا أيضًا بواسطة التبيين.
ويحتمل أن يراد بكتاب الله: الآية التي نسخت تلاوتها، وهي:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما"
…
وبهذا أجاب البيضاوي، ويبقى عليه التغريب.
وقيل: المراد بكتاب الله: ما فيه من النهي عن أكل المال بالباطل؛ لأن خصمه كان أخذ منه الغنم والوليدة بغير حق، فلذلك قال:(الغَنَمُ وَالوَلِيدَةُ رَدٌّ عَلَيْكَ).
والذي يترجح: أن المراد بكتاب الله: ما يتعلق بجميع أفراد القصة مما وقع به الجواب الآتي ذكره»
(3)
.
قلت: والذي يترجح لي: أن المراد بكتاب الله في هذه القصة هو: القرآن والسنة، ففيهما أمر الله وحكمه وما كتبه على عباده والأمر باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته، وجلد البكر والنهي عن أكل المال بالباطل، وفي السنة وحدها نفي الزاني غير المحصن ورجم الزاني المحصن، والآية المنسوخة الواردة في رجمه قد ثبتت بالسنة، ولم تثبت قرآنًا.
2 -
حديث عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لِأَهْلِهَا، فَأَبَوْا وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي؛ فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ)
(4)
.
(1)
نص كلام الإمام ابن دقيق العيد: «قوله: (إِلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) تنطلق هذه اللفظة على القرآن خاصة، وقد ينطلق "كتاب الله" على حكم الله مطلقًا. والأولى حمل هذه اللفظة على هذا؛ لأنه ذكر فيه التغريب، وليس ذلك منصوصًا في كتاب الله، إلا أن يؤخذ ذلك بواسطة أمر الله تعالى بطاعة الرسول واتباعه» . إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد (2/ 237 - 238).
ولفظة الحديث التي ذكرها ابن دقيق العيد في كلامه السابق - (إِلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) - فأخرجها في: صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب هل يأمر الإمام رجلًا فيضرب الحد غائبًا عنه (8/ 176)، رقم (6859). وهي في صحيح مسلم بلفظ:(إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللهِ). صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى (3/ 1324)، رقم (1697).
(2)
القائل: ابن حجر.
(3)
فتح الباري لابن حجر (12/ 138).
(4)
صحيح البخاري، كتاب المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله (3/ 152)، رقم (2561)، وصحيح مسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (2/ 1141)، رقم (1504).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ) يريد به: القرآن والسنة؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ)؛ لأن هذا اللفظ والحكم ثابت في السنة، وليس في القرآن. وإلى هذا نحا ابن بطّال علي بن خلف القرطبي، حيث قال: «قوله: (كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ)
(1)
معناه: في حكم الله وقضائه من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة»
(2)
.
3 -
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ)
(3)
.
فقوله: (وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ) أي: أصله، ثم بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله.
وقال ابن حجر في معنى قول عمر رضي الله عنه هذا: «أي: في قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء:15]. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد به: رجم الثيب، وجلد البكر، كما تقدم التنبيه عليه في قصة العسيف»
(4)
.
وفي تسمية السنة بـ"كتاب الله" دلالات عظيمة، منها:
1 -
زيادة الاعتناء بها وأهميتها، وعظم شأنها ومكانتها في التشريع الإسلامي، وكونها وحيًا من عند الله عز وجل.
2 -
مساواة أحكامها لأحكام القرآن الكريم، وعدم جواز التفريق بينهما في ذلك.
(1)
كذا في شرح صحيح البخاري لابن بطال، وقد تقدم في لفظ الحديث: أن نصه في الصحيحين: (لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ). وقد تقدم تخريجه في الحاشية السابقة.
وأما لفظة الحديث التي ذكرها ابن بطال - (كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ) - فأخرجها في: مسند أحمد (42/ 321)، رقم (25504)، وسنن ابن ماجة، كتاب العتق، باب المكاتب (2/ 842)، رقم (2521)، والمجتبى من السنن للنسائي "المشهور بـ: سنن النسائي"، كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك (6/ 164)، رقم (3451). وقال الألباني:«صحيح» . صحيح سنن ابن ماجة للألباني (2/ 312)، رقم (2059).
(2)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 79).
(3)
صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت (8/ 169)، رقم (6830)، وصحيح مسلم، كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى (3/ 1317)، رقم (1691).
(4)
فتح الباري لابن حجر (12/ 148).
3 -
وجوب العمل بما ثبت منها كالقرآن الكريم، سواء كان الثابت آحادًا أو متواترًا، وسواء في العقائد والأحكام وغيرهما.
4 -
وجوب التقاضي إليها والحكم بها كما يتقاضى إلى القرآن الكريم ويحكم به.
5 -
وجوب إجلالها واحترامها وتوقيرها، وإن ذلك من إجلال النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره واحترامه.
6 -
حرمة تنقصها وازدرائها، كما يحرم تنقص وازدراء القرآن الكريم.