الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثناء العلماء على الصحيحين وإجماعهم على صحتهما:
قال ابن الصلاح في معرض تقسيمه للصحيح: «هذه أمهات أقسامه، وأعلاها الأول، وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرًا:"صحيح متفق عليه". يطلقون ذلك ويعنون به: اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه، لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه؛ لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول.
وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به. خلافًا لقول من نفى ذلك؛ محتجا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ.
وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويًا، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولًا هو الصحيح؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المنبني على الاجتهاد حجة مقطوعًا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك.
وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها: القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته؛ لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن»
(1)
.
وقال ابن تيمية عن الحديث الصحيح: «إنه يفيد العلم، ويُجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقًا وعملًا بموجبه، والأمة لا تجتمع على ضلالة، فلو كان في نفس الأمر كذب لكانت الأمة قد اتفقت على تصديق الكذب والعمل به. وهذا لا يجوز عليها.
ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث، كجمهور أحاديث البخاري ومسلم، فإن جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائر النَّاس تبع لهم في معرفة الحديث. فإجماع أهل العلم بالحديث على أن هذا الخبر صدق كإجماع الفقهاء على أن هذا الفعل حلال أو حرام أو واجب، وإذا أجمع أهل العلم على شيء فسائر الأمة تبع لهم، فإجماعهم معصوم لا يجوز أن يجمعوا على خطأ؛ حيث قوله صلى الله عليه وسلم:(لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ)
(2)
»
(3)
.
(1)
مقدمة ابن الصلاح (ص:28 - 29).
(2)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي -أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضَلَالَةٍ). سنن الترمذي، أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (4/ 466)، رقم (2167)، والمستدرك للحاكم، كتاب العلم (1/ 201)، رقم (397). وقال الألباني:«صحيح» . صحيح سنن الترمذي للألباني (2/ 458)، رقم (2167).
(3)
علم الحديث لابن تيمية (ص:14).
وقال إمام الحرمين الجويني: «لو حلف انسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق ولا حنثته؛ لإجماع علماء المسلمين على صحتها»
(1)
.
وقال النووي: «اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز: الصحيحان -البخاري ومسلم-، وتلقتهما الأمة بالقبول»
(2)
.
ولا يُفهم من هذا القول للنووي أنه يقارن الصحيحين بكتاب الله أو يجعلهما مثله، كما فهم ذلك صاحب الرسالة الذي سنرد عليه في هذا الفصل، وفهمه هذا هو فهم خاص به لم يسبقه إليه أحد من العلماء. فإن غاية ما في هذه العبارة: الجزم بصحة ما جاء في الكتابين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كالجزم بأن ما بين دفتي المصحف هو كلام الله تعالى، وأنه لا يوجد كتاب بعد القرآن يُمكن أن يُستدل بما فيه كله غير هذين الكتابين.
وما فهمه صاحب الرسالة من عبارة النووي فهم عجيب، إما أن يكون الحامل له: التعصُّب أو الجهل بالأساليب العربية، وأحدهما أسوأ من الآخر.
على أن الإمام النووي قد سبقه إلى استخدام مثل هذه العبارة الإمام الشافعي، وهو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، حيث قال في موطأ الإمام مالك:«ما أعلم شيئًا بعد كتاب الله أصح من "موطأ مالك"»
(3)
.
فهل أخطأ الإمام الشافعي هو الآخر في التعبير وسوَّى بين "الموطأ" وكتاب الله أو قارنه به؟
وما هو جواب صاحب الرسالة على الإمام الشافعي، وهو الذي شهد له الأئمة بفصاحة لسانه وبلاغة بيانه ومتانة أسلوبه؟
(1)
شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 19 - 20).
(2)
المصدر السابق (1/ 14).
(3)
مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 507).
وقال مثله عبد الرحمن بن مهدي، فقد جاء عنه أنه قال:«ما نعرف كتابًا في الإسلام بعد كتاب الله عز وجل أصح من موطأ مالك» . المجروحين من المحدثين لابن حبان (ص:42).
وقال أبو عبد الرحمن النسائي صاحب السنن: «ما في هذه الكتب أجود من كتاب محمد بن إسماعيل البخاري»
(1)
.
وقال الإمام الذهبي عن كتاب الصحيح للإمام البخاري: «وأما جامعه الصحيح فأجل كتب الإسلام، وأفضلها بعد كتاب الله تعالى»
(2)
.
وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير: «وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام»
(3)
.
وقال الحافظ أبو نصر الوايلي السجزي: «أجمع أهل العلم -الفقهاء وغيرهم- أن رجلًا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في كتاب البخاري مما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لا شك فيه أنه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته»
(4)
.
وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: «ما تحت أديم السماء أصح من كتاب
مسلم بن الحجاج في علم الحديث»
(5)
.
ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب، ورجح الجمهور "صحيح البخاري" عليه؛ لمعاني كثيرة، ذكرها النووي وغيره
(6)
.
وهذا الإجماع الذي نقلته عن العلماء على أحاديث الصحيحين يُستثنى منه الأحاديث التي انتقدت عليهما، وتبلغ مائتي حديث، كما ذكر ابن الصلاح وابن تيمية وغيرهما، وقد اتفقا منها على اثنين وثلاثين حديثًا، وانفرد البخاري بثمانية وسبعين حديثًا، ومسلم بالباقي. ولا يعني ذلك أنها ليست بصحيحة كلها، فإن معظم هذه الأحاديث القول فيها قول الشيخين، والراجح فيها رأيهما، كما ذكر ذلك النووي وابن حجر، ولكن لأن الخلاف وقع من العلماء فيها فلم يحصل عليها الاتفاق كبقية أحاديث الكتابين.
(1)
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (2/ 327)، ترجمة: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة أبو عبد الله الجعفي البخاري، رقم الترجمة (374).
(2)
تاريخ الإسلام للذهبي (6/ 142)، ترجمة: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه، رقم الترجمة (409).
(3)
البداية والنهاية لابن كثير (11/ 30).
(4)
مقدمة ابن الصلاح (ص:26).
(5)
تاريخ بغداد (15/ 122)، ترجمة: مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، رقم الترجمة (7041).
(6)
انظر: مقدمة ابن الصلاح (ص:18 - 19)، وشرح صحيح مسلم للنووي (1/ 14).
قال ابن حجر: «ينبغي لكل منصف أن يعلم أن هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب فإن جميعها وارد من جهة أخرى، وهي ما ادعاه الإمام أبو عمر
(1)
ابن الصلاح وغيره من الإجماع على تلقي هذا الكتاب بالقبول والتسليم لصحة جميع ما فيه، فإن هذه المواضع متنازع في صحتها، فلم يحصل لها من التلقي ما حصل لمعظم الكتاب. وقد تعرض لذلك ابن الصلاح في قوله:"إلا مواضع يسيرة انتقدها عليه الدارقطني وغيره"
(2)
. وقال في مقدمة شرح مسلم له: "ما أخذ عليهما -يعني: على البخاري ومسلم- وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما ذكرناه؛ لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول"
(3)
. انتهى». قال ابن حجر: «وهو احتراز حسن»
(4)
.
(1)
كذا في هدي الساري، والصواب: أبو عمرو.
(2)
مقدمة ابن الصلاح (ص:29).
(3)
صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط لابن الصلاح (ص:87).
(4)
هدي الساري لابن حجر (ص:344).