الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الحادية والعشرون
اتهام المحدثين بمخالفة القرآن
في إثباتهم لحد الردة
يقول المشكك:
«يقول تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
فيخترعوا لنا: حد الردة».
وقال أيضًا: «والله لم يرتب عقوبة على المرتدين، وقد ارتد على عهد رسول الله كثيرون فلم يقتلهم.
والجواب:
أولًا: استدلال هذا المشكك بهذه الآيات وغيرها على إنكار حد الردة وعدم تشريعه لكونه لم يذكر في القرآن الكريم استدلال سقيم وعقيم وغير صحيح؛ للآتي:
1 -
هذه الآيات لم تنف حد الردة أبدًا، ولم تتعرض له لا من قريب ولا من بعيد؛ لأنها جميعها تتحدث عن العقوبة الأخروية للمرتد دون العقوبة الدنيوية له.
2 -
قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] ليس فيه إباحة للردة، ولا ترك الحرية لمن شاء في اختيار الكفر، بل هو لفظ سيق مساق التهديد والوعيد الشديد؛ بدليل ما بعده، وهو قوله:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29]، أي: إنا أعتدنا للكافرين والمشركين والمرتدين نارًا عظيمة تحيط بهم من كل الجهات
(1)
.
ولو كان في قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ترك الحرية لهم في اختيار الكفر لكان وعيده سبحانه الشديد لهم بالنار المحدقة بهم من باب التناقض منه، وحاشاه - جل وعلا -! إذ كيف يسمح لهم أولًا بالكفر ثم يعذبهم عليه؟ هذا تناقض، وكلامه سبحانه منزه عن التناقض والتضاد.
(1)
قال ابن كثير: «{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أي: أرصدنا {لِلظَّالِمِينَ} وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، أي: سورها» . تفسير ابن كثير (5/ 154).
ثانيًا: قوله: «وقد ارتد على عهد رسول الله كثيرون فلم يقتلهم» غير صحيح، بل العكس هو الصحيح، والذين قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم على الردة كثيرون، ومنهم:
1 -
العرنيون الذين أسلموا واجتووا المدينة. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ)
(1)
. متفق عليه.
وهذه عقوبة مغلظة؛ لقتلهم وردتهم
(2)
.
2 -
كعب بن الأشرف وأبو رافع بن أبي الحقيق اليهوديان. وقد كانا يؤذيان النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلهما غيلة. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا -يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ: وَأَيْضًا، وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: فَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَه)
(3)
.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ نَائِمٌ)(4).
(1)
صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها (1/ 56)، رقم (233)، وصحيح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب حكم المحاربين والمرتدين (3/ 1297)، رقم (1671).
(2)
قال أبو قلابة -أحد رجال سند الحديث-: (فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ). صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها (1/ 56)، رقم (233).
وفي إحدى روايات البخاري للحديث: (وَأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ؟ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ وَقَتَلُوا وَسَرَقُوا). صحيح البخاري، كتاب الديات، باب القسامة (9/ 10)، رقم (6899). وقائل ذلك هو: أبو قلابة. فتح الباري لابن حجر (12/ 241).
وفي إحدى روايات مسلم: (مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم). صحيح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب حكم المحاربين والمرتدين (3/ 1297)، رقم (1671).
(3)
بهذا اللفظ أخرجه في: صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الكذب في الحرب (4/ 64)، رقم (3031). وهو في صحيح مسلم بأطول من هذا. صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب قتل
كعب بن الأشرف طاغوت اليهود (3/ 1425)، رقم (1801). وقد جاء الحديث بأطول من هذا في: صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف (5/ 90 - 91)، رقم (4037)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود (3/ 1425)، رقم (1801).
(4)
صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قتل المشرك النائم (4/ 63)، رقم (3023). وأخرجه البخاري في موضع سابق بأطول من هذا. صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قتل المشرك النائم (4/ 63)، رقم (3022).
3 -
عبد الله بن خطل. قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ)
(1)
. وكان قد أسلم ثم ارتد
(2)
.
4 -
مِقْيَس بن صُبابة. قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أيضًا. فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ. فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا -وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ- فَقَتَلَهُ، وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ فَقَتَلُوهُ)
(3)
. وكان قد أسلم ثم ارتد أيضًا
(4)
.
(1)
صحيح البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام (3/ 17)، رقم (1846)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام (2/ 989)، رقم (1357).
(2)
قال ابن إسحاق في سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل: «إنما أمر بقتله أنه كان مسلمًا فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا، وبعث معه رجلًا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه وكان مسلمًا، فنزل منزلًا وأمر المولى أن يذبح له تيسًا فيصنع له طعامًا، فنام فاستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركًا» . السيرة النبوية لابن هشام (2/ 409 - 410).
(3)
سنن النسائي، كتاب تحريم الدم، الحكم في المرتد (7/ 105)، رقم (4067). وقال الألباني:«صحيح» . صحيح سنن النسائي للألباني (3/ 93)، رقم (4078).
(4)
جاء في سبب قتل النبي صلى الله عليه وسلم له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إِنَّ مَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ وَجَدَ أَخَاهُ هِشَامَ بْنَ صُبَابَةَ مَقْتُولًا فِي بَنِي النَّجَّارِ، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ، وَقَالَ لَهُ: ائتِ بَنِي النَّجَّارِ فَأَقْرِئْهُمْ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ قَاتِلَ هِشَامٍ أَنْ تَدْفَعُوهُ إِلَى أَخِيهِ فَيَقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا لَهُ قَاتِلًا أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ دِيَتَهُ. فَأَبْلَغَهُمْ الْفِهْرِيُّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِ اللهِ، وَاللهِ مَا نَعْلَمُ لَهُ قَاتِلًا، وَلَكِنَّا نُؤَدِّي إِلَيْهِ دِيَتَهُ. قَالَ: فَأَعْطَوْهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ انْصَرَفَا رَاجِعِينَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ -وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ قَرِيبٌ-، فَأَتَى الشَّيْطَانُ مَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ صَنَعْتَ؟ تَقْبَلُ دِيَةَ أَخِيكَ فَيَكُونُ عَلَيْكَ سُبَّةً، اقْتُلِ الَّذِي مَعَكَ فَيَكُونُ نَفْسٌ مَكَانَ نَفْسٍ وَفَضْلٌ بِالدِّيَةِ، قَالَ: فَرَمَى إِلَى الْفِهْرِيِّ بِصَخْرَةٍ فَشَدَخَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرًا مِنْهَا وَسَاقَ بَقِيَّتَهَا رَاجِعًا إلى مَكَّةَ كَافِرًا). المعجم الأوسط للطبراني (6/ 343)، رقم (6577)، وشعب الإيمان للبيهقي، حشر الناس بعدما يبعثون من قبورهم إلى الموقف الذي بيّن لهم من الأرض (1/ 468 - 469)، رقم (292). وقال الهيثمي عن سند الطبراني:«وفيه الحكم بن عبد الملك، وهو ضعيف» . مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي (6/ 168)، رقم (10235).
5 -
أم ولد الأعمى. فقد كانت تهجو النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلها سيدها وأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها. فعن ابن عباس رضي الله عنهما:(أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ، فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ. فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي وَأَزْجُرُهَا، فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ)
(1)
.
وقول هذا المشكك: «وقد ارتد على عهد رسول الله كثيرون فلم يقتلهم» هو من الاحتجاج بالسنة، وهذا من تناقضه! إذ كيف يحتج علينا بما لا يؤمن به؟!
ثالثًا: أحاديث حد الردة مشهورة، وهي مروية في الصحيحين وغيرهما عن عدة صحابة رضي الله عنهم، ومنهم:
1 -
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
(2)
. وحديثه في "صحيح البخاري".
2 -
أبو هريرة رضي الله عنه
(3)
. وحديثه في "المعجم الأوسط" للطبراني.
(1)
سنن أبي داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 129)، رقم (4361)، وسنن النسائي، كتاب تحريم الدم، الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم (7/ 107)، رقم (4070). وقال الألباني:«صحيح» . صحيح سنن أبي داود للألباني (3/ 44)، رقم (4361).
(2)
عن عكرمة: (أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ. وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ). صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يًعذب بعذاب الله (4/ 61 - 62)، رقم (3017).
(3)
وهو بمعنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ). المعجم الأوسط للطبراني (8/ 275)، رقم (8623). وقال الألباني:«إسناده حسن» . إرواء الغليل للألباني (8/ 125)، تحت رقم (2472).
3 -
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
(1)
. وحديثه في الصحيحين.
4 -
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه
(2)
. وحديثه في الصحيحين أيضًا.
5 -
عثمان بن عفان رضي الله عنه
(3)
. وحديثه في "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"النسائي".
6 -
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
(4)
. وحديثها في "سنن النسائي".
وهذه الأحاديث بطرقها تشهد بثبوت حد الردة، وهي كافية لمن كان له قلب أو عقل أو كان عنده إنصاف -وأراد الله به خيرًا- أن تقنعه ويأخذ بها، ولكن كما قال تعالى:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} [الرعد:33].
(1)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ). صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة:45](9/ 5)، رقم (6878)، وصحيح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم (3/ 1302)، رقم (1676).
(2)
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في حديث إتباع النبي صلى الله عليه وسلم له بمعاذ بن جبل إلى اليمن- قال: (ُثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، قَالَ: انْزِلْ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ). صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (9/ 15)، رقم (6923)، وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (3/ 1456)، رقم (1733).
(3)
وهو بمعنى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه السابق، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ ارْتِدَادٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقُتِلَ بِهِ). مسند أحمد (1/ 491)، رقم (437)، وسنن أبي داود، كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم (4/ 170)، رقم (4502)، وسنن الترمذي، أبواب الفتن، باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (4/ 460)، رقم (2158)، وسنن النسائي، كتاب تحريم الدم، ذكر ما يحل به دم المسلم (7/ 91)، رقم (4019). وقال الألباني:«صحيح» . صحيح سنن أبي داود للألباني (3/ 88)، رقم (4502).
(4)
وهو بمعنى حديث ابن مسعود وعثمان بن عفان رضي الله عنهما السابقين، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوِ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ). مسند أحمد (42/ 308)، رقم (25477)، وسنن النسائي، كتاب تحريم الدم، ذكر ما يحل به دم المسلم (7/ 91)، رقم (4017). وقال الألباني:«صحيح» . صحيح سنن النسائي للألباني (1/ 81)، رقم (4029).
رابعًا: حد الردة كما أنه قد ثبت بالسنة القولية فقد ثبت كذلك بالسنة العملية المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من المرتدين، كما تقدم ذكره.
وكذلك لم يزل المسلمون منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر يقيمون هذا الحد على من ترك دين الإسلام إلى غيره بشروطه المعتبرة.
ومن أشهر الحروب التي وقعت بسبب الردة: الحروب التي شنها الصحابة الكرام رضي الله عنهم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأجمعوا عليها، وسميت في التاريخ بـ"حروب الردة".
ولو كان للعرب الحق أو كان لهم الحرية في ترك دينهم الحق على ما يقول هذا المشكك لما قاتلهم الصحابة رضي الله عنهم حتى أجبروهم على العودة إلى دين الإسلام، ولكان فعلهم هذا تعديًا على حقوقهم، وسفكًا للدماء بغير حق. وهذا من أبطل الباطل.
ومن زعم أن هذه الحروب كانت سياسية فقط فهو جاهل ومغالط، وملبس على الناس.
خامسًا: حد الردة كما أنه من الحدود العملية المشهورة بين المسلمين فإنه يتوافق مع القوانين العادلة المطبقة في أكثر بلدان العالم؛ لأنه حد سببه الخيانة العظمى، وعقوبتها في الأغلب في تلك البلدان هي الإعدام.
والخيانة العظمى هنا في حد الردة جاءت لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمجتمع المسلم.
فليس الإسلام إذًا بدعًا من هذه القوانين العادلة.
سادسًا: أجمع العلماء على أن المرتد عن دين الإسلام إلى الكفر يستتاب، قيل: ثلاثة أيام، وقيل: أكثر من ذلك، فإن تاب وإلا قتل.
وممن نقل الإجماع:
1 -
(1)
.
2 -
ابن قدامة، حيث قال:«وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد»
(2)
.
واختلفوا في المرتدة:
فالجمهور على: أنها كالرجل تقتل
(3)
.
وخالف أبو حنيفة فقال: تحبس وتضرب حتى تعود إلى الإسلام
(4)
.
والله أعلم
(5)
.
(1)
مراتب الإجماع لابن حزم (ص:127).
(2)
المغني لابن قدامة (9/ 3).
(3)
نفس المصدر السابق.
(4)
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني (7/ 134)، والاختيار لتعليل المختار للبلدحي (4/ 149).
(5)
ولمزيد من الفائدة في هذا الموضوع: يراجع كتابنا: "الردة وأثرها على الفرد والمجتمع" للمؤلف، وبتحقيق محقق هذا الكتاب.