الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
نقل السنة بالإسناد المتصل
الإسناد هو أحد ركني الحديث الذي يتوقف عليهما قبول الحديث ورده، وقد كان العلماء في بداية الأمر يتساهلون فيه، فيقبلون الحديث بدونه، حتى كثرت الأهواء بين الناس وتعددت مشاربهم وأوغلوا في الفتن، وقد أدى ذلك إلى ظهور الكذب فيهم، فعند ذلك طالبوا كل محدث بالإسناد، وامتنعوا عن قبول أي حديث لا يشتمل عليه. قال محمد بن سيرين:«لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ»
(1)
.
وأجمع المحدثون على: أن الرواية بالإسناد عن فلان عن فلان إلى منتهاه من الدين الذي أمر الناس به. قال محمد بن سيرين أيضًا: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ»
(2)
.
وقال عبد الله بن المبارك المروزي: «الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ»
(3)
.
والإسناد من خصائص هذه الأمة؛ إذْ أننا لم نجد عند أي أمة من الأمم السابقة فيما يروونه من دينهم: "حدثنا فلان قال: حدثنا فلان، إلى أن يصل الإسناد إلى النبي أو إلى من دونه"، وإنما نجد مثل هذا عند هذه الأمة منذ الصدر الأول إلى اليوم، ونقلت جميع علوم ذلك الصدر فمن بعده إلى نهاية عصر الرواية بالإسناد المتصل، فالقرآن نقل بالإسناد المتواتر، والسنة نقلت بالإسناد المتواتر والآحاد، وحتى الأخبار التاريخية والشواهد اللغوية نقلت بالإسناد. فعند أي أمة من الأمم السابقة نجد مثل هذا؟ قال ابن حزم علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي: «نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خص الله به المسلمين، دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود، ولكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد صلى الله عليه وسلم، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه.
قال: وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق فقط، وأما النقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنصارى.
(1)
صحيح مسلم، المقدمة، باب في أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة (1/ 15)، بدون رقم.
(2)
المصدر السابق، نفس الكتاب والباب (1/ 14)، بدون رقم.
(3)
المصدر السابق، نفس الكتاب والباب (1/ 15)، بدون رقم.
قال: وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبي أصلًا ولا إلى تابع له، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص»
(1)
.
وقال أبو علي الجياني الحسين بن محمد الأندلسي: «خص الله هذه الأمة بثلاثة أشياء ولم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب»
(2)
.
وقال أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس الحنظلي: «لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة»
(3)
.
(4)
.
وبهذا تتجلى لنا أهمية الإسناد، ويمكن أن نجملها فيما يلي:
1 -
أنه من الدين، أي: من حيث الأمر به وطلبه، والرواية به، وعدم جواز تركه إذا لزم.
2 -
أنه من خصائص الأمة الإسلامية.
3 -
أنه يتوقف عليه صحة الحديث من عدمه.
4 -
أنه تتميز به أنواع الحديث المقبول من متواتر وصحيح لذاته وصحيح لغيره وحسن لذاته وحسن لغيره.
5 -
أنه تتميز به أنواع الحديث الضعيف من موضوع ومنكر وشاذ ومعلل ومضطرب ونحو ذلك.
(1)
ذكر قول ابن حزم هذا في: قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث لجمال الدين القاسمي (ص:201).
(2)
نفس المصدر السابق.
(3)
شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص:43).
(4)
المصدر السابق (ص:40).
6 -
أنه يتميز به كلام النبي صلى الله عليه وسلم من غيره، فيعرف بالإسناد كون الحديث مرفوعًا أو موقوفًا أو مقطوعًا.
7 -
أنه يعرف به الإسناد العالي من الإسناد النازل.
8 -
أنه يعرف به قوة الرواة من ضعفهم من حيث تفاوت الضبط والعدالة فيما بينهم.
9 -
أنه تتميز به أنواع كثيرة من علوم الحديث المتعلقة به، كـ: رواية الآباء عن الأبناء وعكسه، ومعرفة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، والإخوة والأخوات، ورواية الأكابر عن الأصاغر، ورواية الأقران والمدبج، والسابق واللاحق، وغير ذلك.