الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة العاشرة
اتهام المحدثين بمخالفة القرآن
في قولهم بنسخ القرآن بالسنة
يقول المشكك:
«ويقول تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64].
فيخترع أهل الحديث: الناسخ والمنسوخ»
(1)
.
والجواب:
أولًا: قوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64] هذه اللفظة اجتزأها هذا المشكك من الآية، ومعناها يتضح من سياقها كلها، وليس لوحدها، كما فعل هو باجتزائها، وكأنها لا علاقة لها بما قبلها. وقد فعل هذا من باب الإيهام والتشكيك، لا بقصد إظهار الحق والوقوف عليه.
فالآية من أولها تقول: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس:64]. ومعناها: أن أولياء الله المتقين لهم البشرى في الحياة الدنيا. فما هذه البشرى؟
لقد فسرت بأمرين:
الأول: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. وهذه من المبشرات التي بقيت من النبوة.
الثاني: تبشير الملائكة عليهم السلام له عند احتضاره بالجنة والمغفرة من الله تعالى، كما يدل عليه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت:30 - 32].
(1)
القول بالنسخ أجمع عليه المسلمون إلا من لا يعتد بخلافه، وليس أهل الحديث وحدهم، وممن حكى الإجماع على ذلك:
1 -
الجصاص، حيث قال:«من ينكر النسخ فريقان: أحدهما: اليهود، والآخر: فريق من أهل الملة من المتأخرين لا يعتد بهم» . الفصول في الأصول للجصاص (2/ 215).
2 -
الدبوسي، حيث قال:«قد قال به أهل الإسلام إلا قليلًا لا يعتد بهم قالوا: إنه لا يجوز» . تقويم الأدلة في أصول الفقه للدبوسي (ص:228).
3 -
جلال الدين المحلي، حيث قال:«النسخ واقع عند كل المسلمين» . حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2/ 121).
وأما البشرى لهم في الآخرة فهي البشرى لهم بالجنة والمغفرة والأمن من الفزع الأكبر، قال تعالى:{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الحديد:12].
وقال: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)} [الأنبياء:103].
ثم قال تعالى بعد أن بشرهم بذلك ووعدهم به: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64]، أي: أن هذا الوعد بالبشرى لا يبدله الله ولا يخلفه ولا يغيره، بل هو مقرر مثبت، وكائن لا محالة.
ومثل هذه الآية في المعنى: الآيةُ الأخرى التي في سورة الأنعام: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام:34]. والمعنى: ولا مبدل لكلمات الله التي كتبها الله بالنصر في الدنيا لعباده المرسلين، كما قال في آية أخرى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات:171 - 173].
فالآية لا تدل على ما قصد إليه من عدم وجود النسخ في القرآن الكريم.
ثانيًا: إن هؤلاء المشككين لكون غرضهم فاسدًا يتبعون المتشابه من الآيات، ولا يفسرون القرآن بعضه ببعض، ولا يرجعون إلى أئمة التفسير لمعرفة المقصود من الآية، وإنما يفسرونها على حسب أهوائهم ومشاربهم. وهذا المشكك الذي معنا من هذا الصنف، ولو أنه يعرف آيات القرآن الكريم وأحكامه تمامًا لما نفى الناسخ والمنسوخ فيه، ولما اتهم أهل الحديث زورًا وبهتانًا باختراع هذا العلم من عند أنفسهم. وإلا فأين هو -إن كان منصفًا- من قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة:106]؟
فهذه الآية صريحة في نسخ الله تعالى لما شاء من آيات كتابه وأحكامه، وهي رد على هذا المفتري الذي يقول:"إن أهل الحديث هم الذين اخترعوا الناسخ والمنسوخ"!
فكيف يصنع بهذه الآية الواضحة في لفظها ومعناها، والتي تدل على وقوع النسخ في الكتاب العزيز؟
ثالثًا: وكيف يصنع أيضًا بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء:15]؟
فإن هذه الآية نزلت قبل تشريع الحدود، وهي تبين بمنطوقها حكم الزانية سواءً كانت محصنةً أو بكرًا بأنه الحبس في البيت حتى الموت، ثم نسخ هذا الحكم بالإجماع عند العلماء بآية النور التي شرعت حد الجلد للزاني والزانية غير المحصنين، قال تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور:2]
(1)
.
(1)
قال ابن حزم: «فلما صح بالنص والإجماع أن الحبس والأذى منسوخان عن الزواني والزناة باليقين الذي لا شك فيه بالحدود وجب أن ننظر في الناسخ ما هو؟ فوجدنا الناس قد أجمعوا على أن الحر الزاني والحرة الزانية إذا كانا غير محصنين فإن حدهما مائة جلدة» . المحلى بالآثار لابن حزم (12/ 169).
فهذا النافي للنسخ يلزمه في آية النساء القول بأحد ثلاثة أمور ولا بد، وهي:
1 -
أن يقول بنسخ حكمها في الحبس، ولا محيص له من ذلك.
2 -
ألا يقول به، فيكون ذلك إنكارًا منه لحد مجمع عليه، وهو ردةٌ.
3 -
أن يقول بالجمع بين الحبس حتى الموت وبين الحد؛ هربًا من القول بالنسخ، ولم يقل بذلك أحد من العلماء، حتى قال به هو!
رابعًا: نقل الإمام السيوطي الإجماع على جواز النسخ في القرآن، فقد قال:«النسخ مما خص الله به هذه الأمة لحكم، منها: التيسير، وقد أجمع المسلمون على جوازه، وأنكره اليهود؛ ظنًا منهم أنه بِدَاء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له -أي: غيره-. وهو باطل؛ لأنه بيان مدة الحكم، كالإحياء بعد الإماتة وعكسه، والمرض بعد الصحة وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بِدَاءً، فكذا الأمر والنهي»
(1)
.
والله أعلم.
(1)
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (3/ 67).