الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْأمين مُحَمَّد)
ابْن الرشيد هَارُون بن الْمهْدي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، الْهَاشِمِي، الْقرشِي، العباسي، الْبَغْدَادِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبُو عبد الله، وَقيل: أَبُو مُوسَى.
كَانَ ولي عهد أَبِيه الرشيد؛ فولي الْخلَافَة بعد مَوته.
وَأمه زبيدة بنت جَعْفَر بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، الهاشمية، العباسية.
وَهُوَ ثَالِث خَليفَة تخلف وَأمه هاشمية؛ فَالْأول: عَليّ رضي الله عنه، وَالثَّانِي: الْحسن رضي الله عنه وَالثَّالِث: مُحَمَّد هَذَا.
[و] كَانَ الْأمين [من] أحسن الشَّبَاب [صُورَة] : كَانَ أبيضا، طَويلا، جميلا، ذَا قُوَّة مفرطة، وبطش وشجاعة مَعْرُوفَة، وفصاحة، وأدب، وفضيلة، وبلاغة. لكنه كَانَ سيء التَّدْبِير، كثير التبذير، ضَعِيف الرَّأْي، أرعن لَا يصلح للخلافة.
وَمِمَّا يحْكى عَنهُ من شدته أَنه ضرب أسدا بِيَدِهِ فَقتله، وَهَذَا شَيْء عَجِيب {}
وَأما فَصَاحَته؛ فَإِنَّهُ كتب لطاهر بن الْحُسَيْن لما انتدب لقتاله تعصبا لِلْمَأْمُونِ رقْعَة فِيهَا: يَا طَاهِر مَا قَامَ [لنا] مُنْذُ قمنا قَائِم بحقنا؛ فَكَانَ جَزَاؤُهُ عندنَا إِلَّا السَّيْف؛ فَانْظُر لنَفسك أَو دع.
قَالَ: فَلم يزل طَاهِر [بعد ذَلِك] يتَبَيَّن موقع الرقعة.
وَكَانَت هَذِه الرقعة فِيهَا غَايَة التخذيل؛ فَإِنَّهُ لوح فِيهَا بِأبي مُسلم الْخُرَاسَانِي وَأَمْثَاله الَّذين بذلوا نُفُوسهم فِي النصح؛ فَكَانَ مآلهم إِلَى الْقَتْل.
وَسبب نكبة الْأمين [هَذَا] وخلعه وَقَتله: أَنه لما ولي الْخلَافَة فرق الْأَمْوَال، وانعكف على شرب الْخمر، ومنادمة الْفُسَّاق، وَأرْسل إِلَى الْبِلَاد فَجمع المغاني والطنازين وأجرى عَلَيْهِم الرَّوَاتِب؛ واحتجب عَن الْأُمَرَاء والأعيان.
ثمَّ قسم الْأَمْوَال والجواهر فِي الخصيان وَالنِّسَاء، وَاشْترى عريب الْمُغنيَة بِمِائَة ألف دِينَار.
وَطلب من عَمه إِبْرَاهِيم [بن] الْمهْدي - الْمَعْرُوف بإبن شكْلَة - جَارِيَته؛ فَأبى إِبْرَاهِيم أَن يَدْفَعهَا لَهُ؛ فَركب الْأمين إِلَى منزل عَمه [الْمَذْكُور] ؛ فَأَخذهَا مِنْهُ.
وَلما أصبح عَمه إِبْرَاهِيم جَاءَ إِلَيْهِ فِي زورق؛ فَقَالَ الْأمين: أوسقوا زورق عمي لَهُ دَرَاهِم، فأوسقوه لَهُ؛ فَوسعَ عشْرين ألف ألف دِرْهَم؛ فَقَالَ لَهُ عَمه: وصلني مِنْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عشرُون ألف ألف دِرْهَم؛ فَقَالَ: يَا عَم، وَهل هَذِه إِلَّا خراج بعض الْكُوفَة؟ {فَلَمَّا خرج إِبْرَاهِيم قَالَ: أوسقوا زورق عمي لَهُ دَنَانِير، فأوسقوه؛ فَوسعَ ألف ألف دِينَار}
قلت: أما الثَّانِيَة فعندي فِيهَا شكّ. إنتهى.
وَاسْتمرّ الْأمين على ذَلِك إِلَى أَن بدا لَهُ أَن يخلع أَخِيه الْمَأْمُون من ولَايَة الْعَهْد ويولي ابْنه الصَّغِير عوضه؛ فَامْتنعَ الْمَأْمُون من ذَلِك - وَكَانَ بِالريِّ - وَأخذ فِي تسويفه من وَقت إِلَى وَقت.
فَلَمَّا عزل الْأمين أَخَاهُ الْقَاسِم - الملقب بالمؤتمن - عَمَّا كَانَ الرشيد ولاه [من أَمر الشَّام] وقنسرين والثغور وَولي مَكَانَهُ خُزَيْمَة بن خازم ثمَّ دَعَا الْأمين لإبنه مُوسَى على المنابر ولقبه بالناطق بِالْحَقِّ؛ تنكر الْمَأْمُون عِنْد ذَلِك، وَوَقعت أُمُور يطول شرحها.
وَلَا زَالَ أَمر الْمَأْمُون يقوى، وَأمر الْأمين يضعف، إِلَى أَن حوصر الْأمين بِبَغْدَاد من قبل طَاهِر بن الْحُسَيْن.
وأعجب من هَذَا كُله أَن الْأمين فِي مبدأ أمره كَانَ أرسل لمحاربة أَخِيه الْمَأْمُون عسكرا صُحْبَة عَليّ بن عِيسَى، وَأخذ مَعَه قيد فضَّة؛ ليقيد بِهِ الْمَأْمُون بِزَعْمِهِ.
فَلَمَّا توجه لقِيه طَاهِر بن الْحُسَيْن وهزمه، وَقتل عَليّ بن عِيسَى [الْمَذْكُور] فِي المعركة.
فَلَمَّا جَاءَ خَبره إِلَى الْأمين - وَكَانَ الْأمين يتصيد - فَقَالَ للَّذي أخبرهُ بِكَسْر عساكره وَقتل عَليّ بن عِيسَى: وَيلك، دَعْنِي من ذَلِك؛ فَإِن خادمي كوثر قد صَاد سمكتين، وَأَنا مَا صدت شَيْئا بعد. وَمثل هَذَا أَيْضا لما حوصر.
قَالَ مُحَمَّد بن رَاشد: أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَنه كَانَ مَعَ الْأمين بِمَدِينَة الْمَنْصُور فِي قصر بَاب الذَّهَب، فَخرج الْأمين لَيْلَة من الْقصر من ضيق الْحصار والضنك، فَصَارَ إِلَى الْقصر الْقَرار؛ فطلبني؛ فَأتيت؛ فَقَالَ: مَا ترى طيب هَذِه اللَّيْلَة؛ وَحسن الْقَمَر وضوءه فِي المَاء؛ فَهَل لَك فِي الشَّرَاب؟ !
قلت: شَأْنك؛ فَدَعَا برطل من النَّبِيذ فشربه، ثمَّ سقيت مثله؛ فابتدأت أغنيه من غير أَن يسألني - لعلمي بِسوء خلقه - فغنيت؛ فَقَالَ: مَا تَقول فِيمَن يطرب عَلَيْك؟ فَقلت: مَا أحوجني إِلَى ذَلِك؛ فَدَعَا بِجَارِيَة إسمها ضعفاء، فتطيرت من إسمها، ثمَّ غنت بِشعر النَّابِغَة الْجَعْدِي:
(كُلَيْب لعمرى كَأَن أَكثر ناصرا
…
وأيسر ذَنبا مِنْك ضرج بِالدَّمِ)
فتطير [من ذَلِك]، وَقَالَ: غَنِي غير هَذَا؛ فغنت:
(أبْكِي فراقهم عَيْني فأرقها
…
إِن التَّفَرُّق للأحباب بكاء)
(مَا زَالَ يَغْدُو عَلَيْهِم ريب دهرهم
…
حَتَّى تفانوا وريب الدَّهْر عداء)
(فاليوم أبكيهم جهدي وأندبهم
…
حَتَّى أؤوب وَمَا فِي مقلتي مَاء)
فَقَالَ لَهَا: لعنك الله، أما تعرفين غير هَذَا؟ {فَقَالَت: ظَنَنْت أَنَّك تحب هَذَا.
ثمَّ غنت:
(أما وَرب السّكُون والحرك
…
إِن المنايا كَثِيرَة الشّرك)
(مَا اخْتلف اللَّيْل وَالنَّهَار وَلَا
…
دارت نُجُوم السَّمَاء فِي الْفلك)
(إِلَّا لنقل السُّلْطَان عَن ملك
…
قد زَالَ سُلْطَانه إِلَى ملك)
(وَملك ذِي الْعَرْش دَائِم أبدا
…
لَيْسَ بفان وَلَا بمشترك)
فَقَالَ لَهَا: قومِي، لعنك الله؛ فَقَامَتْ، فتعست فِي قدح بلور لَهُ قيمَة فَكَسرته.
فَقَالَ: وَيحك يَا إِبْرَاهِيم} أما ترى؟ وَالله مَا أَظن [أَمْرِي إِلَّا] قد قرب.
فَقلت: يُطِيل الله عمرك ويعز ملكك؛ فَسمِعت صَوتا من دجلة: قضى الْأَمر الَّذِي فِيهِ تستفتيان؛ فَوَثَبَ الْأمين مغتما، وَرجع إِلَى مَوْضِعه بِالْمَدِينَةِ؛ فَقتل بعد لَيْلَة أَو لَيْلَتَيْنِ.
قلت: كَانَ قَتله بعد أَن خلعه طَاهِر بن الْحُسَيْن بأيام. ثمَّ قَتله طَاهِر [الْمَذْكُور] صبرا فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة بِظَاهِر بَغْدَاد، وطيف بِرَأْسِهِ.
وَكَانَت خِلَافَته أَربع سِنِين وأياما. وبويع بالخلافة بعده أَخُوهُ [الْمَأْمُون]- رَحمَه الله تَعَالَى -.