الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترتيب الموضوعات الفقهية ومناسباته في المذاهب الأربعة
المؤلف/ المشرف:
عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
جامعة أم القرى - مكة المكرمة ̈الأولى
سنة الطبع:
1408هـ
تصنيف رئيس:
فقه
تصنيف فرعي:
فقه فروع عام موازن
خاتمة البحث
التحليل:
لا شك أن فقهاء الحنفية أسهبوا في ذكر المناسبات بين الأبواب، واعتنوا بها عناية كبيرة، وندر أن يخلو منها مؤلف وبخاصة كتب الشروح.
إن فقهاء الأحناف اتبعوا على الأرجح طريقة الإمام محمد بن الحسن الشيباني في ترتيب أبواب الفقه، والذي يؤيد هذا الاتجاه أمران:
الأول: ارتباط كتب المذهب الحنفي بكتاب محمد بن الحسن الشيباني. يقول الدكتور محمد إبراهيم علي "ارتبط المذهب الحنفي بكتب محمد بن الحسن ارتباطاً وثيقاً يمكن معه القول:
إن المذهب الحنفي هو كتب محمد بن الحسن ". " على أن المراد بظاهر الرواية. وبالأصول في قولهم: هذا ظاهر الرواية، وهو ظاهر المذهب، وهو موافق لرواية الأصول هو الكتب الستة المشهورة للإمام محمد: الجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الصغير، والسير الكبير، والمبسوط، والزيادات ".
الثاني: أنه بالمقارنة بين التبويب الذي سلكه الأحناف في مدوناتهم الفقهية نجد تشابهاً كبيراً بينها وبين كتاب الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني، وهذا ليس غريباً إذا علمنا أن هذا الكتاب بالذات بلغ شأواً كبيراً في الفقه الحنفي حتى " إن حفظه كان شرطاً لتولي القضاء في عهد أبي يوسف، ومن ثم كان هذا الكتاب - الذي جمعه محمد بن الحسن رواية عن أبي يوسف - مع أبي يوسف في السفر والحضر ".
فمن ثم حاول الفقهاء الأحناف إيجاد مناسبات لهذا الترتيب فجاءت طبيعية ومعقولة أحياناً، ومتكلفة أحياناً أخرى. قريبة المأخذ حيناً، وبعيدته حيناً آخر.
ولعل هذا هو الذي حدا بالدكتور عبد الرزاق السنهوري (ت 1391هـ) وهو أحد كبار القانونيين في العصر الحديث إلى اتهام الفقه الإسلامي بعدم مراعاة فكرة معينة في التقديم والتأخير بين أبواب الفقه الإسلامي، وهو حينما يوجه هذه التهمة لا شك أن نظره كان واقعاً على المذهب الحنفي بخاصة، كما أنه يركز نقده على قسم العقود والترتيب بين موضوعاتها؛ لأن هذا القسم هو الذي يهم القانوني من الفقه الإسلامي.
" لم يضع فقهاء الشريعة الإسلامية تقسيماً للعقد في ذاته، بل تناولوا عقوداً أسموها عقداً عقداً، ولم يراعوا في ترتيبها فكرة معينة، أو صلة ظاهرة بين متقدم ومتأخر، ويكفي أن نورد على سبيل المثال كتاباً فقهياً يعتبر من أبرز كتب الفقه الإسلامي، وهو كتاب البدائع للكاساني في الفقه الحنفي، نراه قد تكلم في العقود على الترتيب الآتي:
(1)
الإجازة. (2) الاستصناع. (3) البيع. (4) الكفالة. (5) الحوالة. (6) الوكالة. (7) الصلح. (8) الشركة. (9) المضاربة. (10) الهبة. (11) الرهن. (12) المزارعة. (13) المعاملة. (14)(المساقاة). (15) الوديعة. (16) العارية. (17) القسمة. (18) الوصايا. (19) القرض.
وإذا وقفنا عند هذه العقود التي أوردها الكاساني كان علينا أن نجيب على سؤالين:
(السؤال الأول) كيف نرتب هذه العقود ترتيباً منطقياً نلتزمه في إيرادها عقداً بعد عقد؟
(السؤال الثاني) ألا يوجد في الفقه الإسلامي عقود أخرى غير هذه العقود؟
وبوجه عام هل عرف الفقه الإسلامي مبدأ حرية التعاقد فيجوز بإيجاب وقبول التعاقد على أي أمر لا يخالف النظام العام ولا الآداب ".
لا شك أن النقد هنا متجه إلى الجانب المعنوي الموضوعي، وهذا له أثره الكبير على الناحية الشكلية ترتيباً ومناسبات.
والفقهاء المسلمون بعامة، والحنفية بخاصة لم يهملوا هذا الجانب من حسبانهم ابتداء وانتهاء، بل تأملوه ووضعوا في اعتبارهم معاني وأفكاراً ولكن بطرقهم الخاصة، وحسب وجهات نظرهم التي قد تكون ملائمة لعصورهم وأجيالهم، كما أن نظرتهم في الترتيب بين موضوعاته اتجهت إلى الفقه كلية، وليس إلى قسم دون قسم، يتضح هذا من المناسبات التي ذكرها الأحناف تفصيلاً عند كل موضوع، والتي يمكن تلخيصها وإجمالها في العناصر التالية:
أولاً: الترابط الموضوعي بين بعض الأبواب، مثل موضوعات العبادات وأبوابها، وأبواب الرضاع والطلاق بالنسبة لكتاب النكاح.
ثانياً: التماس علاقة معنوية بين الباب والآخر مثل التقابل كما ورد هذا في المناسبة بين كتاب المأذون، وكتاب الغصب، وبين الأخير وكتاب الشفعة.
أو وجود معنى مشترك بين الباب السابق واللاحق مثل المناسبة بين باب الطلاق وباب الإعتاق، وبين الأخير وكتاب الأيمان وكتاب اللقيط، وكتاب الآبق، وكتاب المفقود مع بعضها جميعاً.
أو حكم مشترك مثل الأيمان والحدود.
أو صفة مشتركة مثل كتاب الحدود وكتاب السير، وكالعلاقة بين كتاب المفقود، وكتاب الشركة.
أو بينها علاقة فيما يتصل بالحق: حق الله، أو حق العباد، أو ما اجتمعا فيه حق الله، أو حق العباد. فيتناسب الباب اللاحق في الذكر مع الباب السابق.
أو تأمل علاقة السببية والمسببية بينها كما هو الأمر بين كتاب الوكالة وكتاب الدعوى، وبين كتاب المكاتب وكتاب الولاء.
أو ملاحظة التدرج في الترقي من أدنى إلى أعلى من حيث قوة المعنى، مثل العلاقة بين كتاب الوديعة، والعارية، والهبة، والإجارة، أو العكس.
أو الاشتراك في عارض طارئ كالعلاقة بين كتاب الإِكراه، وكتاب الحجر.
أو معنى خارجي مستقل كما هو التعليل لإنهاء موضوعات الفقه وكتبه بكتاب الوصايا؛ " لأن آخر أحوال الآدمي في الدنيا الموت والوصية معاملة وقت الموت ".
إلى غير ذلك مما يمكن تتبعه استقراء ً.
لم يكن الترتيب بين أبواب الفقه وموضوعاته في المذاهب الثلاثة المالكية، والشافعية، والحنابلة ليحتاج إلى العناء والجهد الذي كلف فقهاء الحنفية لإيجاد المناسبات والعلاقات. فقد بدت الأبواب الفقهية منسجمة في الغالب تحت أقسامها، متلائمة معها في موضوعاتها، وما بدا منها غريباً في موضعه، شإذا في ترتيبه، فإنه ليس بالكثير، فمن ثم أوجدوا له العلة المناسبة وهذا ما لم يخل واحد منها، ولكن بنسبة محدودة. وهو خاص بوضع باب تحت قسم من الأقسام الرئيسية يبدو أنه غير منسجم ضمن موضوعاته.
وذلك كوضع المالكية باب المسابقة في نهاية باب العبادات، وباب اللعان ضمن أبواب النكاح، وباب الإقرار والاستلحاق ضمن كتاب البيوع، وباب العتق بعد قسم القضاء.
والشافعية في وضع كتاب الوديعة، وكتاب الصدقات بعد كتاب الفرائض والوصايا، وذكر هذين الكتابين بعد كتاب العبادات والمعاملات، ووضع كتاب السير تالياً لكتاب (الجنايات) وقسماً من أقسامه، وذكر كتاب العتق في نهاية الأقسام.
والحنابلة في وضع باب الهبة والعطية، وكتاب الوصايا والفرائض ضمن قسم المعاملات، وذكر كتاب الأطعمة، والذكاة، والصيد، والأيمان، والنذور في قسم الجنايات.
عدا الاختلاف في ترتيب الأقسام الرئيسية بين المذاهب، فقد وضع كل مذهب معنى وأسباباً لتقديم قسم على آخر.
كما يكون السبب أحياناً في ترتيب الأبواب اتباع الأئمة، أو واحد من كبار أصحابهم في ترتيب التأليف كما هو موجود في ترتيب بعض الأبواب عند الحنفية، والشافعية.
والحل المقبول - ولا أدعي أنه المثالي - هو ذاك الذي يجمع بين الأصالة والجدة، يأخذ من القديم المعاني والمضامين، ويقتبس من الجديد الصياغة والتنظيم، فمن ثم يتحقق له عنصر الاستمرارية والبقاء، فيصبح مقبولاً مستساغاً من الأجيال الحاضرة والمستقبلة.
الحل المقترح:
يأخذ الحل الاتجاه في مسارين:
الأول: حل في اتجاه المسار التقليدي الموروث.
الثاني: حل في اتجاه التجديد في الصياغة والتنظيم.
الأول: الحل في اتجاه المسار التقليدي الموروث:
قبل طرحه وعرضه لابد من الوقوف على أسباب هذا التباين والاختلاف بين كتب المذاهب - وإن كان هذا يخضع لاتجاه أرباب كل مذهب، والجانب الفكري الملحوظ لدى مؤلفيهم - فإن للحصر الضيق المحدود لتقسيم الفقه الإسلامي إلى ثلاثة أقسام رئيسية أو أربعة تحت عناوين محدودة قد يكون من أهم الأسباب إن لم يكن أهمها مما أرغم الفقهاء أنفسهم إلى إيجاد بعض المناسبات المتكلفة، والمسوغات الضعيفة المنتحلة لإلحاقها بواحد من تلك الأقسام.
فإذا صح هذا فالحل كله أو أعظمه يعتمد على توسيع التقسيم، بل إيجاد تقسيمات جديدة مستقلة تضاف إلى تلك الأقسام الرئيسية، وحينها تنعدم الحاجة إلى تلك المناسبات فيأخذ كل باب موضعه، والقسم المناسب له؛ إذ يبدو كل شيء طبيعياً منسجماً مع زمرته.
أخذ المبادرة في هذا الاتجاه العلامة الفقيه محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي المتوفي سنة (741هـ) في كتابه المعروف (قوانين الأحكام الشرعية).
الفقه عنده ينقسم تقسيماً موضوعياً إلى قسمين:
العبادات والمعا ملات.
وضمن كل قسم عشرة كتب وهذه هي بداية التقسيم الأساسي، يحتوي كل كتاب على عشرة أبواب فانحصر الفقه عنده في عشرين كتاباً، ومائتي باب.
بهذا التقسيم الواسع الذي أعطاه فسحة في التنظيم استطاع أن يبتكر كتباً جديدة (وليست أبواباً) في التقسيم مكنته أن يضم كل موضوع إلى ما يجانسه، ويضع تحت عنوان كل (كتاب) الأبواب التي تنسجم معه، وبهذا خلص من تكلف وضع بعض الأبواب تحت كتب لا تتلاءم معها إلا بشيء من التكلف.
كان ابن جزي رحمه الله تعالى واعياً لهذه المشكلة في كتب الفقه الإسلامي فمن ثم حاول تفاديها بقدر المستطاع.
"
…
وإنما حصرت الكتب والأبواب في هذا العدد لأنني ضممت كل شكل إلى شكله، وألحقت كل فرع إلى أصله، وربما جمعت في ترجمة واحدة ما يفرقه الناس في تراجم كثيرة، راعياً للمقاربة، والمشاكلة، ورغبة في الاختصار ".
فمنهج الترتيب والتبويب بين أبواب الفقه عند ابن جزي يقوم على أسس:
أولها: ضم كل شيء إلى شكله.
ثانيها: إلحاق كل فرع بأصله.
ثالثها: أن يجمع تحت العنوان الواحد (الكتاب) ما تفرقه الناس في تراجم كثيرة، وهذه هي المشكلة التي يتحدث عنها هذا البحث.
فلا عجب - وقد نهج ابن جزي هذا المنهج، واتجه هذا الاتجاه في الترتيب والتبويب - أن تستجد عنده عناوين جديدة، نتيجة ضم الأبواب المتجانسة من الموضوعات الفقهية لتمثل كتاباً مستقلاً مجموعاً من أبواب متقاربة ومتناسبة، ويستقيم له بذلك المنهج.
إذا ألقينا نظرة فاحصة على قائمة الموضوعات الفقهية في كتابه (القوانين) لحصر الجديد في التبويب نجد أول ما يصافح أنظارنا (القسم الأول في العبادات) وأبواب هذا القسم وموضوعاته هي تلك المألوفة في الكتب الفقهية في المذاهب الأربعة، بدءاً بباب الطهارة، وانتهاء بالجهاد.
أما الإضافة الجديدة في هذا القسم فهو أنه خص الكتاب الثامن لـ (الأيمان والنذور).
الكتاب التاسع: (في الأطعمة، والأشربة، والصيد، والذبائح).
والكتاب العاشر: (في الضحايا، والعقيقة، والختان).
ضم هنا الموضوعات المتشابهة تحت كتاب واحد. فانتظمت ثلاثة كتب رئيسية متميزة عن بعضها البعض، منسجمة الموضوعات، تربط كل مجموعة منها علاقة فقهية واضحة بنظرة عابرة.
ألحق هذه الكتب الثلاثة بالقسم الأول (العبادات) - كما هو منهج المالكية - لأن معنى العبادة فيها واضح، وجانب التعبد فيها أبين وأبرز من أي معنى آخر.
في حين نرى موضوعات هذه الكتب مبعثرة أشتاتاً كلاً، أو بعضاً في مدونات المذاهب الأخرى، متنازعة بين الأقسام المختلفة.
وفي القسم الثاني من تقسيمه للفقه (المعاملات) وهو يتوسع في مدلول هذه الكلمة بما هو أوسع مما عند الأحناف؛ إذ أن هذه الكلمة تشمل عنده كل موضوعات الفقه ما عدا العبادات، نقف في هذا القسم على عناوين كتب جديدة لا نعهدها في المدونات الفقهية مجتمعة كما تصورها بن جزي، هي:
الكتاب الرابع (العقود المشاكلة للبيوع)، ويشرح مقصوده من هذه الكلمة (المشاكلة للبيوع) بقوله:" ووجه المشاكلة بينهما أنها تحتوي على متعاقدين بمنزلة المتبايعين، وعلى عوضين بمنزلة الثمن والمثمون ".
الكتاب السادس (في الأبواب المشاكلة للأقضية).
الكتاب الثامن (في الهبات والأحباس وما شاكلها).
وغالباً ما يأتي اللبس والتداخل في موضوعات هذه الأبواب، إذ تختلف فيها أنظار المؤلفين، ويتباين تبويبهم لها.
هذه العناوين الجديدة، بهذا الجمع والتمييز لم يتوافر بهذه الصورة الشاملة في المدونات الفقهية في مذهب من المذاهب المعروفة. فمن ثم لا يجد الباحث نفسه متطلعاً إلى البحث عن تعليل أو تبرير لوضع هذا الباب ضمن هذا القسم أو ذاك؛ لأنها أتت طبيعية متجانسة متناسبة فجاءت على الأصل، وما جاء على أصله لا يسأل عنه.
الثاني: الحل في اتجاه التجديد في الصياغة والتنظيم:
إن الفقهاء في العصر الحديث فتحوا أعينهم على مناهج جديدة في التأليف الفقهي، ونمط غير مألوف في كتب التراث هو (التنظير الفقهي) لموضوعات الفقه ومسائله؛ إذ تعتمد هذه الطريقة على الحصر الشامل لكليات الموضوع وجزئياته، أسبابه، وشروطه، وأركانه، وتقسيماته في تسلسل منطقي، تربط كافة أطرافه علاقة فقهية معينة يتوخاها الفقيه في دراسته.
وفي تحليل المعنى المقصود من (النظريات الفقهية) يقول الأستاذ مصطفي الزرقا:
" نريد من النظريات الفقهية الأساسية تلك الدساتير والمفاهيم الكبرى، التي يؤلف كل منها نظاماً حقوقياً، موضوعياً، منبثاً في تجاليد الفقه الإسلامي، كانبثاث أقسام الجملة العصبية في نواحي الجسم الإنساني، وتحكم عناصر ذلك النظام في كل ما يتصل بموضوعه من شعب الأحكام.
وذلك كفكرة الملكية وأسبابها، وفكرة العقد وقواعده ونتائجه، وفكرة الأهلية وأنواعها، ومراحلها، وعوارضها، وفكرة النيابة وأقسامها، وفكرة البطلان والفساد والتوقف، وفكرة التعليق والتقييد والإضافة في التصرف القولي، وفكرة الضمان وأسبابه وأنواعه، وفكرة العرف وسلطانه على أساسها صرح الفقه بكامله، ويصادف الإنسان أثر سلطانها في حلول جميع المسائل والحوادث الفقهية .... ".
وبعبارة أخرى مختصرة فالنظرية كما يذكر الدكتور محمد فوزي فيض الله في الاصطلاح الحقوقي المعاصر:
" مفهوم حقوقي عام، يؤلف نظاماً موضوعياً تندرج تحته جزئيات، تتوزع في فروع القانون المختلفة: كنظرية الالتزام، ونظرية الحق، ونظرية الملكية، ونظرية العقد ".
ومما لا شك فيه أن التنظير لموضوعات الفقه الإسلامي بهذا المفهوم يمد الباحث والدارس بتصور واسع، وإدراك للعلاقة المشتركة في كافة الفروع الفقهية في عموم آفاقها وجوانبها، الأمر الذي يساعد على فهم الموضوع، أو النظرية في صورتها الشاملة، وليست أجزاء متفرقة منفصلة قد يستوعبها الدارس جزئية جزئية، ولكن يصعب عليه ربطها، أو إدراك العلاقة والصلة بينها، ولو أدرك هذا وتوصل له فإنما يدركه بعد فترة طويلة من الجهد والممارسة هذا إذا توجه إليها، وإلا فإنه لن يكون لها نصيب من اهتمامات التفكير عنده.
وإيماناً بجدوى هذه الطريقة المنهجية، طريقة التنظير لموضوعات الفقه الإسلامي عكف كبار الفقهاء في العصر الحديث على التأليف حسب مناهجه وطرقه، ووضعوا لبناته الأولى في منهج سوي، وإن عدد المتبنين لهذه الطريقة بين الفقهاء المعاصرين يزداد ويتضاعف عن إيمان وقناعة، ومما تجدر الإشادة به أنه بالإضافة إلى جهود الفقهاء المسلمين المعاصرين في هذا المجال تساندهم مجموعة كبيرة من القانونيين أصحاب الدراسات الشرعية المتينة - والاطلاع الفقهي الواسع، تدفعهم قناعة عميقة بعظمة الفقه الإسلامي وصلاحيته، بل وتميزه على القوانين الأخرى - أسهموا ويسهمون بقدر كبير في هذا المجال مقابلة بين هذه النظريات في الفقه الأجنبي والفقه الإسلامي.
وتزداد مؤلفات هؤلاء وأولئك يوماً بعد يوم، وتمتلىء بها رفوف المكتبات.
والمهم في كل هذا أن تبدأ المؤسسات الجامعية، والمراكز العلمية بالتركيز على هذه الطريقة في مراحل الدراسات العليا ليستوعبها الباحثون الجدد، وتنصهر في أفكارهم حتى يأتي نتاجهم صورة لما قد تبلور لديهم من طرق مستقيمة، ومناهج علمية تتلاءم وأسلوب العصر، وتواكب تقدمه الفكري، كما يكون الاهتمام بكتب التراث الفقهي والعناية به إخراجاً ودراسة اهتماماً متساوياً مع ذلك المنهج الحديث فيجتمع للفقيه المعاصر متانة القديم وأصالته، وروعة الحديث وملاءمته.
وفي ختام هذا العرض والدراسة لا بد من الاعتراف بالجهود المخلصة المبذولة لتيسير الفقه الإسلامي على مستوى الأفراد والجماعات، سواء بعمل الفهارس والكشافات، أو التقنين وإعادة الصياغة، أو التنظير، أو الترتيب، أو المعاجم الفقهية، أو الموسوعية، فكل هذه إسهامات تجلي الصدأ عن هذا التراث الهائل النفيس.
وإن من هذه الجهود الرائدة في هذا المجال مشروع (الموسوعة الفقهية) الذي تتبناه وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، إذ يجري العمل فيها بتصور علمي على مستوى الأعمال الموسوعية العالمية في العصر الحديث، عرضاً، وتنظيماً، وتوثيقاً، وما تقوم به أيضاً من عمل كشافات وفهارس تحليلية لمصادر الفقه الإسلامي.
وإن الشعور بالمشكلة، وتوجه النوايا الصادقة، وتضافر الجهود المخلصة الواعية كفيلة أن تحقق الكثير بما يعيد للفقه الإسلامي مكانته، وتكشف للأجيال أصالته لتحقيق الاستفادة منه.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان