الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع المرابحة للواعد الملزم بالشراء والدور التنموي
المؤلف/ المشرف:
ربيع محمود الروبي
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
جامعة أم القرى - مكة المكرمة ̈بدون
سنة الطبع:
1411هـ
تصنيف رئيس:
فقه
تصنيف فرعي:
مرابحة
الخاتمة والتوصيات
المرابحة الثنائية البسيطة التي أجازها جمهور الفقهاء لا تتماثل مع المرابحة الثلاثية للأمر بالشراء التي تمارس حاليا في المصارف الإسلامية، ومن ثم لا ينسحب عليها تلقائيا حكم الجواز بسبب ما يسبقها من مواعدة، فهي عند الشافعية لا تجوز إلا إذا كان وعدها غير ملزم، فإن ألزم به تحول البيع والوعد معاً إلى بيع مفسوخ، وهي عند المالكية – وهم الأكثر تقبلا لإلزام الوعد عموما – إما مكروهة أو محظورة، ومن ثم لا مجال عندهم للإلزام بمكروه أو محظور، أما إذا انتفت العلاقة بين المواعدة والمرابحة فهي جائزة. وبالنسبة للحنفية والحنابلة فقد أثر عن بعض علمائهم حيلة شرعية بشأنها لتفادي مضار نكول العميل فلم يفتوا بإلزام وعدها.
بيد أن بعض العلماء المعاصرين طالعونا بفتوى تلفيقية تجيز المرابحة ذات المواعدة اعتمادا على الجزء الأول من رأي الشافعي مع بتر الجزء الثاني الذي يجعلها بيعا مفسوخا إذا اقترنت بمواعدة ملزمة، ثم أجازوا إلزام هذه المواعدة اعتمادا على بعض آراء المالكية في لزوم الوعد. وفضلا عن ما في هذا المنحى من مخالفة صريحة لنصوص حديثية وللرأي الراجح، فإن استنباط الحكم على هذا النحو يخالف منطق القياس؛ فالمسألة المفتى بشأنها هي مدى إلزام وعد المرابحة قضاء، وليست أي إلزام بأي وعد، وطالما أن الإلزام بالوعد في ذاته – حتى عند القائلين به – ليس مطلقا (لاستثناء ما أحل حراما وحرم حلالا) فإن وعد المرابحة قد يكون داخلا في هذا الاستثناء، وهذا ما رآه فعلا أئمة الفقه الذين تناولوا هذا الموضوع.
إن حجة هؤلاء الذين أفتوا بالمرجوح وتركوا الراجح كانت التيسير أو ما تصوروه مصلحة، ولذلك انصب هذا البحث على دراسة الآثار الاقتصادية والاجتماعية للمرابحة الملزمة، فتبين منها أن علة الفتوى انطوت في الواقع على محاباة للمصلحة الضيقة للمصرف على حساب مصلحة مجموع العملاء والاقتصاد القومي، أي أنها غلبت جانبا من المصلحة الخاصة على كل المصلحة العامة؛ إذ أفرغ الإلزام بيع المرابحة من محتواه الاقتصادي، فخلا من معظم المهم الإنتاجية للتجارة الحقيقية، وصار في التطبيق عملا مكتبيا لوساطة مالية لا تختلف في بعدها الاقتصادي عن الإقراض الربوي، وبذلك حرم المجتمع والعملاء من الدور الاقتصادي الذي تنطوي عليه المرابحة الحقيقية، وألقى بكل الأعباء والمسؤوليات والمخاطر على العميل وحده.
وأكثر من ذلك أن السهولة التي أضفاها الإلزام على صفقات المرابحة شكلت إغراء انحرف بالمصرف عن مساره الأصلي ودوره الأساسي؛ إذ مكنته من جني كل مغانم التجارة دون التعرض لمغارمها، فلاذ بالمرابحة فرارا من أعباء الاستثمار المباشر والمشاركات والمضاربات والاستصناع والتأجير التمويلي وغيرها من صيغ الاستثمار الإسلامية، على الرغم من أنها أكثر من المرابحة قدرة على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعلى الرغم من أنها تمثل المهام الأساسية للمصرف الإسلامي، ليس أدل على ذلك من أن نصيب المرابحة من إجمالي استثمارات المصارف التي أخذت بإلزام وعدها وصل إلى 97.8% في بعض هذه المصارف، ولم يقل عن 75% في بقيتها.
ومن ثم لو أخذنا بالرأي الراجح الذي يعطي الخيار للطرفين فلن يتمكن المصرف من التهرب من الدور الاقتصادي الحقيقي للمرابحة الجادة، وذلك خشية نكول العميل ومواجهة السوق بصفقة لم تنل ما تستحقه من الدراسة والعناية. إن ربط الغنم بالغرم على هذا النحو فيه من الحوافز ما يشكل المصلحة الحقيقية للمصرف نفسه وللعملاء وللاقتصاد القومي، بل إن هذه المصلحة ستتضاعف أكثر بسبب أن المرابحة الجادة ستنطوي على أعباء ومخاطر، ومن ثم ستفقد الكثير من عوامل التشجيع على ترك وسائل التمويل الأخرى ذات الربحية الاجتماعية العالية. نعم إن الخيار سيزيد من مخاطر نكول العميل، لكن هذه المخاطر لن تنطوي في الغالب على أضرار محققه؛ إذ طالما أن الصفقة أخذت حظها من العناية، وحازت على أجود الأصناف وأقل الأسعار وأفضل الشروط فإن نكول العميل الأصلي لن يحول دون تهافت عشرات العملاء الجدد على شرائها، أما إذا واجه المصرف ظروفا غير عادية يمكن أن تتعرض معها الصفقة للخسارة عند النكول – وهذا أمر طبيعي يجب أخذه في الحسبان – فنوصي باتخاذ كل أو بعض هذه التوصيات:
1 -
يجب أن يتحرز المصرف من التعامل في سلع ضيقة الاستعمال أو غير رائجة أو يجهل كافة أبعاد ظروف تسويقها، وأن يتجنب التعامل مع العملاء غير الجادين أو الذين ثبت عنهم عدم الوفاء بالتزاماتهم.
2 -
يجب أن يتسلح المصرف بالإمكانيات المادية للتاجر وبالجهاز الفني الكفء القادر على دراسة جدوى الصفقات والمشروعات وعلى تصريف السلعة عند النكول.
3 -
يمكن للمصرف أن يستفيد من الحيلة الشرعية التي أفتى بها كل من محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وابن قيم الجوزية – والتي أسماها البعض "بيع المخابرة" حيث يشتري السلعة من المورد مع شرط الخيار لمدة أسبوع مثلا، ثم يعرضها على العميل خلال هذه المهلة. فإن قبلها ألزم بها، وإن رفضها أعيدت للمورد. أما في المرابحات الخارجية فيمكن للعميل أو مندوبه معاينة البضاعة وقبولها أو رفضها قبل أن تشحن.
4 -
يجب ألا يكتفي المصرف بالوساطة التجارية التي يكون فيها مأمورا بالشراء وإنما يتحول تدريجيا إلى منتج وتاجر ذي مهام متعددة ومتكاملة، فيمتلك أو يساهم في شركات إنتاجية، ويكون بائعا أصليا لسلع حصل عليها بالسلم أو الاستصناع، ووكيلا ومسوقاً لمنتجات شركات أخرى، عندئذ لن يبيع ما ليس عنده، ولا مجال للمواعدة أو أضرار النكول.
نعم قد لا تسمح القوانين السائدة والإمكانيات المتاحة الآن أن يمارس المصرف كل هذه المهام بحرية، وقد لا تسمح موارده الذاتية الضئيلة بما تتطلبه من استثمارات طويلة الأجل، لكن في مقدوره أن ينشئ – ولو مستقبلا وتدريجيا – شركات متخصصة – مع المصارف الإسلامية الأخرى أو بمساهمة بعض العملاء – لتولي هذه المهام – (كما أن من مصلحته أن يتحول بعض المودعين إلى مساهمين حتى ينمي موارده الذاتية) وذلك من منطلق أن المصارف الإسلامية هي في الأصل مضارب بالعمل أو مستثمر وليست كالمصارف الربوية وسيطا ماليا.
5 -
من الضروري أن تتعاون المصارف الإسلامية في إنشاء شركات تأمين تعاوني وفقا لأحكام الشريعة لمواجهة أخطار بعض الصفقات، وبقية الاستثمارات الأخرى، كما يجب أن تتعاون في تبادل فائض السيولة لديها حتى لا تعاني منه، أو تحجم عن بعض المشروعات لنقص السيولة.
وإذا جاز أن ندلي برأي في مجال الرقابة الشرعية فنوصي بأمرين: يتعلق أولهما ضوابط الأخذ بالسهل من كل مذهب؛ إن المذهب الفقهي الواحد عندما يتجاوز عن قيد معين قد يتمسك في مقابله بقيد آخر يحول دون الأضرار التي يمكن أن تنجم عن هذا التجاوز، وبالتالي لا يمكن الاستمرار في ترقيع الفتاوى والنظرة الجزئية لموضوع الفتوى، وإنما لابد أن يعاد النظر في مجمل الفتاوى الخاصة بالمعاملة الواحدة في نظرة شمولية تركز على مدى انسجام وانضباط تفاعل هذه الجزئيات، وإلا وقعنا في ممارسة عملية غير منضبطة؛ كما هو حال المرابحة الملزمة وبقية فتاويها. أما الأمر الثاني فيذهب إلى الفصل بين الفتاوى والرقابة الشرعية، إذ من المناسب أن يقتصر عمل هيئة الرقابة الشرعية بالمصرف على التأكد من مدى الالتزام بالقواعد الشرعية والفتاوى المعتمدة. أما الإفتاء فيستحسن أن يسند إلى لجنة متخصصة – مزودة بالمعلومات الاقتصادية الكافية – تنبثق عن مجالس البحوث والإفتاء في الدول الإسلامية، ويجب ألا يكافأ أعضاؤها من المصارف، ولا أن يكونوا مساهمين فيها، ولا يجتمعون في ضيافتها. ومعاذ الله أن نقصد بذلك تشكيكا في نزاهة علمائنا الأفاضل – أثابهم الله – ولكننا أردنا الاستفادة من المنهج الإسلامي في التشريع، فقد علمنا أنه كلما كان الفعل المحرم مغلظا اتسعت حوله – خشية الوقوع فيه – دوائر الخطر والكراهة التحريمية والتنزيهية.
وأخيرا فإن تناولنا للمرابحة الملزمة بالنقد العلمي لا يعني تقليلا من شأن المصارف الإسلامية. فهي مازالت في بداية الطريق، وتحتاج إلى فترة طويلة نسبيا كي تتغلب على العقبات والتحديات التي تواجهها، وتتأهل أكثر لتحقيق الآمال الطموحة المعقودة عليها، ومع ذلك فقد حققت نجاحات طيبة؛ إذ يكفيها أن فتحت أبوابا واسعة للخلاص من المعاملات الربوية، وإنما قصدنا التوجيه إلى الأفضل. ولذلك لن نخشى الاتجاه الذي يجد في كل انتقاد لهذه المصارف هدما لها، فقد يكون الآباء من أشد المنتقدين لسلوكيات أبنائهم، ومع ذلك هم أبعد الناس عن تهمة هدمهم، جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.