الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشكلة الاستثمار في البنوك الإسلامية وكيف عالجها الإسلام
المؤلف/ المشرف:
محمد صلاح الصاوي
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
دار المجتمع ̈الأولى
سنة الطبع:
1410هـ
تصنيف رئيس:
فقه
تصنيف فرعي:
بنوك إسلامية ومعاملات مصرفية منظمة
الخاتمة
لقد طوفنا مع هذا البحث بمجالات مختلفة من فقهية وقانونية وميدانية، وعشنا مع قضية الاستثمار بدءا من صيغها الشرعية، ومرورا بصياغاتها المصرفية، وانتهاء بتطبيقاتها العملية في أحد المصارف الإسلامية المعاصرة.
وفي خلال ذلك كله لم نتعسف بحمد الله حكما من الأحكام، ولم نحرف نصا من النصوص عن مواضعه، وما كنا بحاجة إلى ذلك، وفي تراثنا الفقهي مناديح واسعة، وعطاء دائم متجدد بحيث لا يجد الباحث نفسه أسر أجواء خانقة، أو حبيس اجتهادات قاصرة، وإنما هي الإحاطة والخصوبة والشمول.
عشنا في الباب الأول مع عقود الاستثمار الشرعية، كالمضاربة والمشاركة والمرابحة، وتعرفنا على أحكامها الشرعية، وعرضنا لصورة كلية لكل واحد منها، بدءا من التعريف والمشروعية، ثم مرورا بالأركان والشروط، وما يتعلق بكل واحد منها من أحكام، أو يرتبط به من مسائل، ثم انتهاء بتصفية هذا العقد، وما يتعلق بهذه التصفية من أحكام.
وكانت الغاية من هذا الباب أن نبدأ عملنا بالتعرف على أحكام هذه العقود التي يراد إحلالها محل الأنظمة الربوية لتكون بديلا شرعيا في المصارف الإسلامية، وهذه في تقديرنا هي البداية الصحيحة في كل تطوير يراد به إحلال الإسلام محل نظام من النظم الوضعية، أن يبدأ بدراسة الإسلام أولا، ثم يدرس النظام القائم ليعرف مدى ما فيه من مصادمة لأحكام الإسلام، ليتم تعديله وتحريره بما يتفق مع الأحكام والقواعد الإسلامية.
وإنها لخطورة بالغة أن يحدث العكس، وأن تكون البداية من التعرف على دقائق النظم الوضعية، ثم تتلمس لها المخارج والتبريرات الشرعية، فيؤدي ذلك عمليا إلى التصرف في الأحكام الشرعية تصرفا قد يخرج أحيانا إلى حد العبث، لكي نلتقي مع المقررات الوضعية التي تفضل ببيانها السادة الوضعيون، وبذلك نحكم الواقع في الإسلام بدلا من الأصل الحكم وهو تحكيم الإسلام في الواقع ليقر منه ما يشاء، ويستبدل منه ما يشاء، وفقا لأسسه ومبادئه.
ثم عشنا في الباب الرابع مع ضوابط هذا الاستثمار، وكان الهدف من هذه الدراسة أن نستخلص المبادئ الكلية التي يجب أن تتم في إطارها العملية الاستثمارية، لتكون حرما أمام الباحثين والدارسين لا يحل لهم انتهاكه بحال من الأحوال، ثم هم بعد ذلك أحرار في ترتيب المعاملات وفقا لما يحقق المصلحة، ماداموا لم يخرجوا في الجملة عن هذه الإطارات العامة.
ثم عشنا في الباب الثالث مع التخريجات الشرعية للاستثمارات المصرفية لكي نلحقها بعقودها الشرعية، تمهيدا للتعرف على مدى ما فيها من موافقة أو مخالفة للأحكام الشرعية، وقد كان هذا الباب مزلة أقدام، ومدحضة أفهام في تاريخ الكثيرين، وقد رأينا فيه عجبا! مثل من يحاولون تخريج الفائدة على أساس الجعالة! أو على أساس إلحاقها بربا الفضل ثم إخراجها بعد ذلك من نطاق التحريم المستيقن، وغير ذلك مما كشفت عنه الدراسة المتأنية في هذا الباب.
ولقد كان رائدنا في دراسة هذا الباب ألا نفتعل المخارج، أو نختلق التبريرات لإضفاء الشرعية على عمل ما، وإن نضمن مصادمة جوهرية للمقاصد الشرعية – كما حدث ذلك من البعض – وإنما نسير مع هذه الأعمال سير طبيعيا غير متكلف، فنتعرف على حقيقتها ومقاصدها، ثم نردها بعد ذلك – وعلى هذا الأساس – إلى العقود الشرعية التي تناسبها، قاطعين النظر عما يترتب على هذا التخريج من حرمة أو حل، لأن هذه مرحلة لاحقة: مرحلة التصحيح أو المعالجة الإسلامية، وفيها يتم التقويم، ثم التحوير والملاءمة.
وإن افتقاد هذا المنهج يؤدي في تقديري إلى نتائج خطيرة، حيث تسيطر على ذهن الباحث فكرة تصحيح هذه الأعمال ما أمكن، وتلمس أوجه الشرعية لها بأي طريق وإن كان ذلك على حساب دقة النظر الفقهي، بل وإن أدى ذلك إلى إقامة تخريجاته على أساس التخيل والافتراضات، والخروج بها عن المعقول وطبائع الأشياء.
وإن هذه الروح هي التي أدت ببعض الباحثين إلى محاولة تخريج الفائدة على أساس افتراض قيام شركة مضاربة بين المصرف وبين جماعة المودعين، ثم اضطروا بعد ذلك إلى الترخص في أحكام المضاربة الشرعية، حيث لم يروا بأسا بتثبيت العائد الذي يرجع إلى المودع، أو بتضمين المصرف لهذه الأموال المودعة لديه رغم أنه يقوم فيها – بناء على تخريجهم – بدور العامل، ومثله لا يضمن إلا بالتفريط أو العدوان لأن يده على المال يد أمانة.
أجل! لقد اضطروا بناء على هذا التخريج إلى تجاوز أخطر حكمين من أحكام المضاربة، ليستقيم لهم الفائدة بناء على هذا التخريج ولو هدوا إلى الطيب من القول لفتحوا الطريق فعلا أمام هذا التخريج، ولكن بعد الاعتراف بأن الفائدة بصورتها الراهنة تلتحق بنظم القروض الربوية، ولكن إصلاح هذه المعاملة ميسور على أساس قيام شركة مضاربة فعلية بين المصرف وبين المودعين يتم فيها الالتزام بأحكام المضاربة الشرعية، فالربح جزء شائع، ولا ضمان على المصرف إلا بالتفريط أو التعدي، وبذلك نكون قد أحدثنا معالجة حقيقية لهذه النظم لتتفق مع الإسلام، بدلا من هذه التخريجات المجردة التي تعتمد على الافتراضات من ناحية، وعلى تحوير القواعد الشرعية لتتفق مع النظم الوضعية من ناحية أخرى، وفي ذلك ما فيه من شذوذ وتجاوز!
ثم عشنا في الباب الرابع مع الصياغة المصرفية لعقود الاستثمار الشرعية فعرضنا لعقود الاستثمار التي سبق بيانها في الباب الأول، لنبين كيف يمكن الإفادة منها في ترتيب الأعمال المصرفية، آخذين في الاعتبار ما يحتاج إليه العمل المصرفي من وضعية خاصة.
فكان حديثنا في الفصل الأول من هذا الباب عن المضاربة الشرعية، وكيف يمكن الإفادة منها في العمل المصرفي، وفي تنظيم العلاقة بين المصرف وبين جماعة المودعين من ناحية، وبينه وبين جماعة المستثمرين من ناحية أخرى ثم عرضنا لقضيتي الضمان وتثبيت العائد وهما من أخطر مسائل المضاربة في هذا العصر فأوسعناهما بحثا ومناقشة، وعرضنا للاجتهادات المعاصرة في هذين المجالين، فبينا كيف خرج القائلون بها على إجماع الأمة، ورددنا على ذلك بما فتح الله به، وبما نحسبه قولا شافيا كافيا بإذن الله.
ثم تحدثنا في الفصل الثاني عن عقود الاستثمار المباشر، وكيفية الإفادة منها في الأعمال المصرفية، فتعرضنا للمشاركة وصورها المقترحة في العمل، ثم للمرابحة التي فصلنا فيها القول لما شابها في التطبيق من بعض التجاوزات التي قد تخرج بها إلى صورة العينة التي أفتى بحرمتها جمهور الفقهاء، وبينا أن الخلل لم يأت في الترتيب النظري لهذه المعاملة، لاسيما بعد تقرير الخيار للمشتري، وإنما جاء من تجاوزات الممارسة، بعد أن عقدنا مقارنة بين صورة المرابحة وبين صورة العينة، ثم ذكرنا طرفا من الأسباب التي قد تكون أدت من وجهة نظرنا إلى هذه التجاوزات، ثم قدمنا في النهاية بيانا بالخطوات التي يجب أن تسلك في ترتيب هذا العقد حتى يسلم من كل اعتراض.
ثم كان حديثنا عن السلم وكيفية الإفادة منه في هذا المجال، ولا يزال النظر الفقهي المستبصر قادرا على أن يستخلص من هذه العقود الشرعية صورا، وأشكالا جديدة، تنطلق من إطاراتها الشرعية، وتفي بحاجات العمل المصرفي، وتحقق مصالح كل من المصرف وعملائه على حد سواء.
ثم عشنا في الباب الخامس مع المصرف الإسلامي للتنمية نعرف به، ونعرض لأنشطته الاستثمارية فنقومها الواحدة تلو الأخرى في ضوء القواعد الشرعية المقررة، ثم تنتهي إلى تقويم إجمالي للمصرف من الناحيتين الشرعية والاقتصادية.
والحقيقة أنني عشت مع هذا البحث أياما ممتعة أرقب فيها عن كثب دقة الأحكام الشرعية، وعظمة ما تتسم به من شمول وخصوبة ومرونة وعدالة، وأستطيع أن أجمل المعالم الرئيسية لهذه الدراسة في النقاط الآتية:
1 -
إن إجمال القول في الأعمال المصرفية التي تتم في المصارف الربوية أنها إما خدمة مقابل أجر، وإما إقراض نظير فائدة، وعوائدها إما عمولة وإما فائدة.
والأولى لا بأس بها لأن الإجارة جائزة بالاتفاق على أن يكون الأجر مبلغا مقطوعا لا يتكرر إلا بتكرار الخدمة، حتى لا تخفي العمولة في طياتها مآرب ربوية.
وأما الفائدة فهي صريح الربا الذي نزل القرآن بتحريمه، وقد رأينا تهافت جميع التخريجات التي حاول أصحابها تبرير الفائدة على وجه أو على آخر.
2 -
وإن جماع القول في التطوير الإسلامي للعمل المصرفي أنه يبقي الخدمات المأجورة، ويضع لعمولتها من الضوابط ما ينفي عنها شبهة الربا، ويستعيض عن القروض الربوية بعقود الاستثمار الشرعية التي تقوم على فكرة التجربة والمشاركة، أو القرض الحسن الذي قد يرى المصرف الإسلامي تقديمه في بعض الحالات.
3 -
إن عقد المضاربة الشرعية قادر بشيء من التوسع في أحكامه على الوفاء بحاجات العمل المصرفي، وإن جميع الدفوع التي طعن بها البعض في صلاحية هذا العقد للاستثمار الجماعي في المصارف فيها نظر.
4 -
جواز المضاربة المؤقتة، والمضاربة بالدين إن كان على ملأ، والجميع بين الشركة والمضاربة، وإن المضاربة تلزم بالشروع في العمل إلى خلوص المال في إبانه.
5 -
إن تثبيت العائد في عقد المضاربة يفسدها، لأن الأصل في ربح المضاربة أن يكون على الشيوع بين المضارب وبين رب المال، فإذا أضيف إلى تثبيت العائد الذي يناله رب المال فكرة تضمين المصرف لأموال المضاربة، فقد تحولت المعاملة إلى قرض ربوي في حقيقة الأمر، وإن استعيرت لها أسماء أخرى.
6 -
إنه يمكن للمصرف الإسلامي أن يعتمد على بقية عقود الاستثمار كالمشاركة، والمرابحة، والسلم، في ترتيب أعماله الاستثمارية ولا وجه لاعتراض البعض بأن هذه عقود استثمار مباشر لا شأن لها بالأعمال المصرفية، وذلك لأن مفهوم الأعمال المصرفية لم يتفق عليه عالميا حتى هذه اللحظة، ومن ناحية أخرى فإن هذا التنظيم قد نشأ في ديار الحرب وبلاد الكفر، بعيدا عن الواقع الإسلامي، ومقتضيات المصلحة الإسلامية، فلا وجه للتقيد به.
وإذا كنا نأخذ من كلام الفقهاء الأئمة ونرد عليهم بما يحقق المصلحة ويفي بالحاجة، أفلا نرد على الكفار أفكارا تعوقنا عن تحقيق مصالحنا، والتقيد بأحكام شريعتنا؟ إن على المصرف الإسلامي أن يرسم أهدافه، وأن يصل إليها بأي طريق أقره الله ورسوله، سواء اتفق ذلك الطريق مع نظم الكفار أو اختلف عنها، فنحن المسلمون أعلم الناس بمصالحنا وغاياتنا، وأقدر الناس على تحقيقها من خلال أحكام شريعتنا المباركة، وشاهت وجوه أهل الكفر جميعا!
7 -
جواز السلم الحال كما هو مذهب الشافعي رحمه الله، وجواز الاستعاضة عن دين السلم قبل قبضه من المسلم إليه، شريطة ألا يرابح رب السلم مرتين، أي لا يستعيض عنه بما هو أكثر قيمة منه، كما أثر ذلك عن ابن عباس وغيره من أهل العلم، وأن هذا العمل من جنس الوفاء بالدين وليس من جنس البيع.
8 -
أنه لا يجوز لمن اشترى شيئا أن يبيعه قبل قبضه وفقا للراجح من أقوال أهل العلم، وأن لهذا المبدأ دوره الهام في ترتيب العمل في المصرف الإسلامي، حيث يلزمه في عمليات المرابحة ونحوها أن يتولى فعلا شراء السلعة بنفسه، وأن يقبضها فعلا وفقا لما فصلناه من أحكام القبض حتى يتمكن من بيعها إلى الآمر بعد ذلك، وبذلك يغلق باب من أخطر أبواب التلاعب والغرر، وهو ما تقوم به البورصات العالمية من المضاربات الوهمية على صفقات وهمية معدومة، فيثرى بها فريق ويتحطم بها آخرون، واليهود من وراء الكواليس يوجهون المسار، ويجنون الثمار!!
9 -
إن المرابحة المصرفية تختلف في جوهرها عن مسألة العينة التي ذهب إلى حرمتها جمهور الفقهاء، ولكن بشرط أن تتم وفقا للخطوات التي سبق بيانها في الفصل الثاني من الباب الرابع من هذا البحث، وموجزها أن يقوم المصرف بشراء السلعة المقصودة فإذا تم له قبضها، قام ببيعها بعد ذلك لعملية الآمر بالشراء الذي يكون له الحق في القبول أو الرد وفقا لما يحقق مصلحته، ولكن انحرافات التطبيق هي التي حادت بهذه المعاملة عن جادة المشروعية، ولكي يؤمن المصرف موقعه يمكن أن يشترط لنفسه الخيار عن شرائه للسلعة، حتى إذا نكل العميل عن الشراء، قام بردها إلى البائع ولم يخسر شيئا.
10 -
إن النقود الورقية المتداولة اليوم تأخذ أحكام الذهب والفضة في وجوب الزكاة فيها، وفي جريان الربا فيما بينها، بحيث تعتبر عملة كل بلد من البلاد جنسا قائما بذاته، فإن بيعت بعملة من جنسها فقد وجب التماثل والتقابض، وإن بيعت بعملة أخرى لبلد آخر حرم النساء فقط، وحلت الزيادة، كما هي القاعدة في الذهب والفضة، وقد أفتى بذلك جمهور أهل العلم في هذا الزمان.
11 -
إن الوفاء بالوعد واجب في باب الديانة وحسن الخلق، ولا يكون ملزما في باب القضاء إلا إذا أدخله بالوعد في ورطة فإنه حينئذ يجب الوفاء به دفعا للضرر الذي ينبني على عدم الوفاء.
12 -
لا يجوز الإيداع في المصارف الربوية ولو كان بدون فائدة لما يتضمنه هذا العقد من الإعانة على المعصية، فالمصارف لا تحتفظ من هذه الودائع إلا بنسبة الاحتياطي المقررة، ثم تدفع بالباقي إلى قنوات الإقراض الربوي، وهي لا تقنع بالحجم الحقيقي لهذه الودائع، بل تشتق منها ما يزيد على حجمها أضعافا كثيرة، بواسطة ما يسمى بخلق النقود أو إحداث الائتمان.
13 -
إن المصرف الإسلامي للتنمية محاولة على مستوى الحكومات الإسلامية لدعم البنيان الاجتماعي والاقتصادي للدول الإسلامية وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، إلا أنه لم يمض في طريق الشريعة إلى النهاية، فرغم أنه قد أعلن التقيد بأحكام الإسلام في المادة الأولى من اتفاقية تأسيسه إلا أن تتبع النظم التي يرتب على أساسها أنشطته الاستثمارية يشير إلى دلائل خطيرة، فالمصرف يقرض الدول الإسلامية بفائدة قدرها 5ر2 إلى 3% سماها رسم خدمة، وهي تسمية لا تغير من الواقع شيئا، وهو يودع أمواله التي لا يحتاجها عاجلا لدى المصارف الأجنبية ويتقاضى عنها الفوائد الربوية، هذا فضلا عن بعض الأخطاء الثانوية في ترتيب بقية الأنشطة الاستثمارية، ولعل مما ساعد على بقاء هذه الانحرافات إلى اليوم رغم مضي حوالي تسع سنوات على افتتاح المصرف عدم وجود هيئة علمية متفرغة تقوم بأعمال الرقابة الشرعية على أنشطة المصرف، كما هو الحال في بقية المصارف الإسلامية.
ولذلك فإننا نوصي بضرورة أن تتوافر لهذا المصرف الدولي لجنة متخصصة تضم كوكبة من علماء الشريعة من مختلف البلاد الإسلامية تقوم بواجب الرقابة الشرعية على أنشطته المختلفة وتقويمها أولا بأول.
14 -
إن سائر الأحكام الفقهية التي رجحتها في هذا البحث انطلاقا من النظر والمصلحة والتي لم تكن موضعا لنص أو إجماع إنما تمثل رؤيتي الخاصة للمصالح وتقديري لها، وبالتالي فهي لا تلزم المشتغلين في هذا المجال إلا بقدر ما تحقق من المصلحة، ولا يزال الأمر فيها قابلا لكل مراجعة فقهية تستهدف المزيد من الملاءمة، وتحقق المزيد من المصلحة.
وأخيرا فإنني أتوجه إلى المشتغلين بقضية المصارف الإسلامية بهذه التوصيات:
أولا: يجب على من ينتصب للمعالجة الإسلامية للأعمال المصرفية أن يبدأ أولا بدراسة الأحكام الشرعية للعقود التي تنظم هذه الأعمال، حتى يمسك بيديه المشاعل المضيئة التي يشق بها طريقه إلى معالجة هذه الأعمال إسلاميا في ضوء ما تقرر عنده من الأحكام والقواعد الشرعية، وذلك حتى يكون المنطلق هو تقويم هذه الأعمال بالإسلام، وليس هو تطوير الأحكام بما يتفق مع هذه الأعمال.
ثانيا: أن تكون الغاية من البحث هي إحقاق الحق وإبطال الباطل وليس توزيع صكوك الشرعية على أكبر قدر ممكن من هذه الأعمال مهما كان فيها من خلل وتجاوز، فلن يضير الإسلام أن يهدم تسعة أعشار هذه النظم ما دام يملك البديل الأقوم والسبيل الأهدى، ولم يترك الناس سدى أو يرهقهم من أمرهم عسرا، فالأصل هو اتباع الحق بالدليل، وليس الاعتذار عن هذا النظام أو ذاك، وتلمس المخارج له من أي وجه تحت ستار المرونة والتوسعية.
ثالثا: أن نفرق في الأحكام الفقهية بين ما كان منها معتمدا على نص أو إجماع، وبين ما كان منها مراده المصلحة والأقيسة، فالأولى حرم مقدس ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم، والثانية موضع نظر واجتهاد يرجح فيها العلماء في كل عصر ما يرونه مناسبا لحاجاته ومصالحه.
رابعا: أنه حيث يكون مرد الخلاف في مسألة ما إلى تعارض ظاهر بين النصوص، فلا تكفي المصلحة وحدها للترجيح، بل لابد من اعتبار الدليل الأقوى وفقا لضوابط الترجيح المقررة في علم الأصول.
خامسا: إن في فقه أهل السنة غناء، ولسنا في حاجة إلى الاعتماد على فقه أهل البدع كالروافض وغيرهم الذي قد يجر معه ذيولا من بدعهم، فضلا عن اختلاف مناهج الاستنباط، وطرق توثيق النصوص وقبولها بينهم وبين أهل السنة، وإذا اضطررنا إلى الاقتباس من أقوالهم في مناسبة ما فتتعين الإشارة والتنبيه حتى لا تختلط الأمور، فقد لاحظت أن بعض الباحثين ينقل عن بعضهم، ويخلط كلامه بكلامهم، بغير تنبيه ولا بيان، ولهذا المسلك خطورته البالغة.
سادسا: إننا في سعينا إلى تحقيق مركز تنافس متقدم للمصارف الإسلامية، لا ينبغي أن يحملنا الاندفاع والعجلة على التفلت والعدوان على حدود الله، فإن رسالة المصارف الإسلامية إلى أهل الأرض تتمثل في المقام الأول في حمل لواء التطبيق الشرعي والممارسة الإسلامية، والعودة بالاقتصاد الإسلامي إلى حظيرة الكتاب والسنة، فلا يجوز أن تحملها العجلة أو الرغبة في كسب جولة من الجولات على التفريط في هذه الرسالة المقدسة.
سابعا: أنه لابد أن يعاد النظر فيما تروج له المصارف الربوية من نظم ومبادئ تقدمها باعتبارها مكاسب ومغانم، لأن بعضه هذه المكاسب المزعومة تعد في ميزان الإسلام إثما وخطيئة، وتصطدم مع كلياته ومبادئه الأساسية، فما لم يتفطن لذلك فقد يحملنا معترك المنافسة على تبني هذه الأفكار، ثم محاولة تطويع الأحكام الشرعية لإقرارها، فنفقد بذلك استقامة المنهج، ووضوح الهدف، ونكون كمن يدور في حلقة مفرغة.
والقصد أن تكون محاكاتنا بوعي وأن يكون اقتباسنا من تجارب الآخرين منوطا بالنظر الشرعي، الذي ينبغي أن تكون له الهيمنة المطلقة في كل شيء. ومن هنا كانت أهمية أن يواكب اليقظة الإسلامية في مجال المصارف يقظة إسلامية شاملة تهتم ببناء الفرد المسلم، وتصحيح مفاهيمه، وتنقيتها مما شابها من الدخن، لتتفاعل من الممارسة الإسلامية في شتى المجالات فلا يحاكمها إلى مقررات سابقة، ولا يزنها بموازين غريبة مما يؤدي إلى الريبة والتأرجح.
ثامنا: أن يهتم القائمون على أمر المصارف الإسلامية بتوعية العاملين في هذا المجال بحقيقة رسالتهم، وبالدور الهام الذي يناط بهم أداؤه، ثم بالخطوات الشرعية اللازمة لصحة المعاملات التي يمارسها المصرف، مع بيان الغاية من كل هذه الخطوات والأدلة الشرعية على لزومها، وذلك حتى لا يحس العاملون في هذا المجال أنهم في تنفيذ هذه الخطوات أمام سلسلة من الإجراءات الإدارية العادية التي لا تفسير لها إلا البيروقراطية، والتعقيدات الشكلية التي تمليها عليهم الإجراءات الرسمية، ونحو ذلك مما قد يحملهم على التجاوز عن بعض هذه الخطوات، أو التقصير في القيام بها، وقد ينعكس ذلك على العملية كلها بالبطلان من الناحية الشرعية.
وإني لأوصي بأن تفتح كافة المصارف الإسلامية مراكز لتدريب العاملين لديها، تقوم على تدريس التصور الإسلامي للعمل المصرفي، وتتولى شرح العقود الشرعية التي يتم ترتيب العمل على أساسها في المصارف الإسلامية، مع بيان صياغاتها المصرفية، والخطوات التنفيذية اللازمة لذلك، ثم يشترط فيمن يريدون الالتحاق بالعمل لدى المصارف الإسلامية أن يكون قد تخرج في هذه المراكز التي تكفل للمتخرجين فيها حد أدنى من المعرفة الإسلامية بهذا المجال، كما أوصي أن تختار هذه المصارف موظفيها ممن عرفوا بالصلاح والتقوى، فهؤلاء هم الضمان الحقيقي لدقة وأمانة التطبيق الإسلامي في هذا المجال.
وأخيرا فإن النجاح الكبير الذي شهدته المصارف الإسلامية منذ اليوم الأول لافتتاحها إنما يحمل أصدق الأدلة على أن رصيد الفطرة من حب الحق والتطلع إليه لا يزال غضا طريا، وأن أمة الإسلام وإن تعاقبت عليها النظم الجائرة، والحكومات المستبدة فإنها ما فتئت تتطلع إلى ساعة الخلاص، وتنشد حياة الطهر في ظل الاعتصام بالكتاب والسنة، والاستقامة على أمر الله عز وجل، وإنها سوف تحفظ الجميل والنعمة لكل نظام يقودها بالإسلام، بل سوف تتحول بأسرها إلى جنود مخلصين بين يديه، بدلا من هذه الفتن المضطرمة الأوار، والقلاقل التي لا يستقر لها قرار!
فيا حكام الأمة الإسلامية هل لكم في عز الدنيا والآخرة؟ هل لكم في أمر تملكون به العرب وتدين لكم به العجم وتكونون به ملوكا في الجنة؟ هل لكم في منهج يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم؟ إنه الإسلام العظيم إن حفظتموه حفظكم، وإن أضعتموه أضاعكم، إنه كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إن أقمتموه في أمتكم أقام الله لكم ملككم وأصلح ما بينكم وبين رعيتكم، وفتح عليكم بركات من السماء والأرض، وإن اتخذتموه مهجورا، ولم تعرفوا له حقه، فليس إلا ما ترون من ضنك المعيشة، وخراب الذمم، والفتن التي تموج موج البحر!
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهي فيه عن المنكر، ويقام فيه كتابك، ويتفيأ الناس فيه ظلال شريعتك حتى يعود لأمة الإسلام مجدها الغابر، وعزتها السليبة.
إنك ولي ذلك والقادر عليه .. آمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.