الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي خيارهم. فوسط الوادي: خير مكان فيه، وكذلك كان نبيّنا صلى الله عليه وسلم من خير مكان في نسب العرب، وأمّته أيضا كذلك جعلت وسطا أي خيارا «1» .
والتوسط اصطلاحا:
أن يتحرّى المسلم الاعتدال ويبتعد عن التطرّف قولا وفعلا بحيث لا يقصّر ولا يغالي، وقال الرّاغب:
التّوسّط: القصد المصون عن الإفراط والتّفريط «2» .
خير الأمور الوسط:
قال ابن الأثير- رحمه الله تعالى- في بيان أفضليّة التّوسّط: كلّ خصلة محمودة لها طرفان مذمومان:
فالسّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتّهوّر، والإنسان مأمور أن يتجنّب كلّ وصف مذموم، وتجنّبه يكون بالتّعرّي منه، والبعد عنه، فكلّما ازداد منه بعدا ازداد إلى الوسط تقرّبا؛ ولذلك فإنّ أبعد الجهات والمقادير والمعاني من كلّ طرفين وسطها، فإذا كان في الوسط، فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان «3» .
التوسط خصيصة لأهل الملة ولأهل السنة:
قال ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: أهل السنّة والجماعة: «الفرقة الناجية» وسط في النّحل كما أنّ ملّة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصّالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النّصارى، ولم يجفوا عنهم كما جفت اليهود. وهم وسط في شرائع دين الله، فلم يحرّموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويثبت ما شاء، كما قالته اليهود. ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله فيأمروا بما شاءوا وينهوا عمّا شاءوا كما يفعله النّصارى. وهم كذلك وسط في باب صفات الله تعالى: فإنّ اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق النّاقصة، والنّصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصّة به، هذا في باب يطول حصره. وأمّا أهل السّنّة والجماعة في الفرق فهم وسط كذلك، فهم في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التّعطيل الّذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطّلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتّى يشبّهوه بالعدم والموات، وبين أهل (التمثيل والتّشبيه) الّذين يضربون له الأمثال ويشبّهونه بالمخلوقات. وأمّا هم: فيؤمنون بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
وأمّا في باب الخلق والأمر، فهم وسط بين المكذّبين بقدرة الله الّذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشّاملة وخلقه لكلّ شيء، وبين المفسدين لدين الله الّذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل فيعطّلون الأمر والنّهي والثّواب والعقاب،
(1) لسان العرب لابن منظور (8/ 4831- 4834) بتصرف، والصحاح للجوهري (3/ 1167- 1168) ، ومقاييس اللغة- لابن فارس (6/ 108) ، ومفردات الراغب (522) .
(2)
استنبطنا التعريف الأول من كتب التفسير والثاني من مفردات الراغب (ص 533) .
(3)
النهاية (5/ 184) . ولسان العرب (8/ 4833) .
فيصيرون بمنزلة المشركين الّذين قالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ (الأنعام/ 148) .
وأمّا أهل السّنّة والجماعة فوسطيّتهم في إيمانهم بأنّ الله على كلّ شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد، ويقلّب قلوبهم، وأنّه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ أمره وأنّه خالق كلّ شيء من الأعيان والصّفات والحركات، كما يؤمنون في الوقت نفسه أنّ العبد له قدرة ومشيئة وعمل وأنّه مختار، ولا يسمّونه مجبورا (أي فيما كلّف به) إذ إنّ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه وتعالى جعل العبد مختارا لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره.
وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيديّة الّذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلّدين في النّار ويخرجونهم من الإيمان بالكلّيّة، ويكذّبون بشفاعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المرجئة الّذين يقولون: إيمان الفسّاق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصّالحة ليست من الدّين والإيمان، ويكذّبون بالوعيد والعقاب بالكلّيّة، فيؤمن أهل السّنّة والجماعة بأنّ فسّاق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الإيمان الواجب الّذي يستوجبون به الجنّة وأنّهم لا يخلّدون في النّار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبّة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان. وهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط بين الغالية الّذين يغالون في عليّ- رضي الله عنه وأهل البيت، فيفضّلون عليّا على أبي بكر وعمر، ويعتقدون أنّه الإمام المعصوم دونهما، وأنّ الصّحابة ظلموا وفسقوا، وكفّروا الأمّة بعدهم كذلك، وربّما جعلوه نبيّا وإلها، وبين الجافية الّذين يعتقدون كفره وكفر عثمان، ويستحلّون دماءهما ودماء من تولّاهما، ويستحبّون سبّ عليّ وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة عليّ رضي الله عنه وإمامته. ووسطيّتهم في سائر أبواب السّنّة راجع لتمسّكهم بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتّفق عليه السّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان «1» .
أمّا ابن القيّم- رحمه الله تعالى- فإنّه يحضّ على الأخذ بالوسط؛ لأنّ فيه النّجاة من الظّلم، فقال: الوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتّفريط هو العدل وهو الّذي عليه بناء مصالح الدّنيا والآخرة، بل حتّى مصلحة البدن لا تقوم إلّا به؛ لأنّه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحّته وقوّته بحسب ذلك، ومثل ذلك الأفعال الطّبيعيّة كالنّوم والسّهر والأكل والشّرب والحركة والرّياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك، إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا «2» .
(1) انتهى بتصرف من مجموع الفتاوى (3/ 370- 375) .
(2)
الفوائد (139) .