الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 ــ فصل
المقصود الأهمّ من كتابي هذا هو ردُّ المطاعن الباطلة عن أئمة السنة وثقات رواتها. والذي اضطرني إلى ذلك أن السنة النبوية وما تفتقر إليه من معرفة أحوال رواتها، ومعرفة العربية، وآثار الصحابة والتابعين في التفسير، وبيان معاني السنة والأحكام وغيرها، والفقه نفسه= إنما مدارها على النقل، ومدارُ النقل على أولئك الذين طعن فيهم الأستاذ وأضرابِهم؛ فالطعنُ فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كله، بل في الدين من أصله.
وحسبك أنَّ مِن المقرّر عند أهل العلم: أنه إذا نُقِل عن جماعة من الصحابة القولُ بتحريم شيء، ولم يُنقَل عن أحد منهم أو ممن عاصرهم من علماء التابعين قولٌ بالحِلِّ، عُدَّ ذاك الشيء مُجمعًا على حُرمته، لا يسوغ لمجتهد أن يذهب إلى حِلِّه. فإن ذهب إلى حِلِّه غافلًا عن الإجماع كان قوله مردودًا، أو عالمًا بالإجماع فمِن أهل العلم من يضلِّله، ومنهم من قد يكفِّره.
لكنه لو ثبت عن رجل واحد من الصحابة قولٌ بحلِّ ذلك الشيء كانت المسألة خلافية، لا يُحظَر على المجتهد أن يقول فيها بقول ذلك الصحابي، أو بقول مفصّل يوافق هذا في شيء، وذاك في شيء؛ ولا يحرم على المقلد الذي مذهب إمامه الحرمة أن يأخذ بالحل، إما على سبيل الترجيح والاختيار إن كان أهلًا، وإما على سبيل التقليد المحض إن احتاج إليه.
وثبوتُ ذاك القول عن ذاك الصحابي يتوقَّف على ثقة رجال السند إليه، والعلمُ بثقتهم يتوقّف على توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل لكلٍّ منهم، والاعتدادُ بتوثيق الموثِّق يتوقَّف على العلم بثقته في نفسه وأهليته، ثم على
صحة سند التوثيق إليه، وثقتُه في نفسه تتوقف على أن يوثّقه ثقةٌ عارف، وصحةُ سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والثقة لرجاله، وهلم جرًّا.
والسعيُ في توثيق رجل واحد من أولئك بغير حق، أو الطعنُ فيه بغير حق سعيٌ في إفساد [1/ 5] الدين بإدخال الباطل فيه، أو إخراج الحق منه. فإن كان ذاك الرجل واسع الرواية، أو كثير البيان لأحوال الرواة، أو جامعًا للأمرين كان الأمر أشدَّ جدًّا كما يعلم بالتدبر. ولولا أن أُنسب إلى التهويل لشرحت ذلك، فما بالك إذا كان الطعن بغير حق في عدد كثير من الأئمة والرواة، يترتب على الطعن فيهم ــ زيادةً على محاولة إسقاط رواياتهم ــ محاولةُ توثيق جمٍّ غفير ممن جَرّحوه، وجرحُ جمٍّ غفير ممن وثّقوه.
ففي "التأنيب" الطعن في زُهاء ثلاثمائة رجل، تبيّن لي أن غالبهم ثقات، وفيهم نحو تسعين حافظًا، وجماعةٌ من الأئمة، فكم ترى يدخل في الدين من الفساد لو مشى للأستاذ ما حاوله من جرحهم بغير حق؟! على أن الأمر لا يقف عندهم، فإن الأستاذ يحاول الرد بالاتهام، والتهم غير محصورة، فيمكن كلَّ من يهوى ردَّ شيء من النقل أن يبدي تهمة في رواته وموثّقيهم، فيحاول إسقاطهم بذلك. بل يعدُّ
(1)
الملحدون الإسلامَ نفسَه ذريعةً لاتهام كلّ مَن روى مِن المسلمين ما يثبت النبوة والقرآن ونحو ذلك، ولا يقنعون بالآحاد، بل يساورون المتواترات بزعم التواطؤ والتتابع لاتفاق الغرض.
(1)
في (ط): "يعيد" وعلّق عليها في الهامش: "كذا الأصل، ولعله يتخذ". ولم يرمز بعد التعليق بـ[ن]. وما أثبتناه هو المناسب، ولعله القراءة الصحيحة للكلمة.
ولو كان هذا الطعن من رجل مغمور أو غير مشهور بالعلم أو غير متبوع لهان الخطب، ولكنه من رجل مشهور ينعتُه أصحابه بأمثال ما كُتِب على لوح كتابه "تأنيب الخطيب" الذي طبع تحت إشرافه بتصحيحه: "تأليف الإمام الفقيه المحدث، والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير
…
". ويلي ذلك كلمة الناشر وترجمة المؤلف بتلك الألقاب الضخمة والعبارات الفخمة
(1)
. ويتبعه الحنفية وهم ــ كما يقول ــ السواد الأعظم، ويتابعه في الجملة كلّ مَن تخالف السنةُ هواه من غلاة المقلدين وأتباع المتكلمين وعُبّاد القبور، ويعتضد بكلامه الملحدون.
بلى إن في أفاضل علماء الحنفية أنفسهم جماعة يمقتون تصرف الأستاذ، ولكن تصدهم عن رفع أصواتهم بالإنكار عليه موانع هم أعلم بها. والله المستعان.
* * * *
(1)
مع أنه يشير في (صفحة 14) من "الترحيب" إلى كتب ابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي وعبد الله بن أحمد بن حنبل ويقول: "طبع كثير منها تحت ظلال الحرية
…
بعد نسج هالات من التبجيل حول أسماء مؤلفيها تمهيدًا للإضلال بأقاويلهم"! [المؤلف].