الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعله لولا أن جامعي المسانيد السبعة عشر علموا أن أبا العطوف تالف لوجدنا له في تلك المسانيد عشرات الأحاديث. فمن الواضح أن قول ابن معين في أبي العطوف: «ليس بشيء» إنما محملها الجرح الشديد، فمحاولة الأستاذ أن يعكس القضيةَ قلبٌ للحقائق.
63 - جرير بن عبد الحميد:
راجع «الطليعة» (ص 43 - 46) و (ص 83)
(1)
. واقتصر الأستاذ في «الترحيب» (ص 40) على أنه ليس فيما ذكرتُه ما يجدر التحدُّثُ عنه. كذا قال!
وقال في «التأنيب» (ص 110): «مضطرب الحديث
…
وكان سيئ الحفظ، انفرد برواية حديث الأخرس الموضوع، والكلام فيه طويل الذيل، وليس هو ممن يساق خبرُه في صدد سرد المحفوظ عند النقَلة إلا في مذهب الخطيب».
أقول: أما قوله: «مضطرب الحديث» ، فكلمة لم يقلها أحد قبل الأستاذ، وليس هو ممن يُقبَل منه مثلُ هذا. غايةُ الأمر أن تُعَدَّ دعوى، فما البينة؟ ليس بيده إلا قصة طلاق الأخرس وعليه في ذلك أمران:
الأول: أن القصة تفرَّد بها سليمان بن داود الشاذَكُوني، وليس بثقة. قال البخاري:«فيه نظر» ، وهذه من أشد كلمات الجرح في اصطلاح البخاري، كما مرَّ في ترجمة إسحاق بن إبراهيم الحنيني
(2)
. وقال أبو حاتم: «متروك الحديث» . وقال النسائي: «ليس بثقة» . وقال صالح بن محمد الحافظ: «كان
(1)
(ص 32 - 34 وص 64).
(2)
(رقم 42).
يكذب في الحديث». والكلام فيه كثير. وفي القصة ما يُنكَر، فإن الشاذكوني قال: «قدمتُ على جرير فأُعجب بحفظي، وكان لي مكرِمًا، فقدم يحيى بن معين والبغداديون الذين معه، وأنا ثَمَّ، فرأوا موضعي منه، فقال بعضهم: إن هذا بعثه ابن القطان وعبد الرحمن ليفسد حديثك
…
». وابن القطان وعبد الرحمن هما إماما عصرهما: يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ومن الممتنع أن يكذب يحيى بن معين ورفقته عليهما هذا الكذب الفاحش.
الأمر الثاني: أن القصة لا تفيد اضطرابًا، وإنما تفيد تدليسًا. زعم الشاذكوني أن جريرًا [1/ 217] ذكر أولًا عن مغيرة عن إبراهيم في طلاق الأخرس، ثم ذكره ثانيًا عن سفيان عن مغيرة، ثم ثالثًا عن ابن المبارك عن سفيان، ثم قال:«حدثنيه رجل خراساني عن ابن المبارك» . فلو صحت القصة لما كان فيها إلا التدليس، بإسقاط ثلاثة، ثم بإسقاط اثنين، ثم بإسقاط واحد، ثم ذكره على وجهه. ولهذا قال ابن حجر في «تهذيب التهذيب»
(1)
: «إن صحَّت حكاية الشاذكوني، فجريرٌ كان يدلِّس» . ولم يذكره في طبقات المدلِّسين، لأن القصة لم تصحَّ، وقد ذكر أبو خيثمة جريرًا، فقال:«لم يكن يدلِّس» .
وقول الأستاذ: «كان سيئ الحفظ» لم يقلها أحد قبله أيضًا، وإنما المعروف أن جريرًا كان لا يحدِّث من حفظه إلا نادرًا، وإنما يحدِّث من كُتبه. ولم ينكروا عليه شيئًا حدَّث به من حفظه، وأثنوا على كتبه بالصحة.
(1)
(2/ 76).
فأما ما حكاه العقيلي
(1)
عن أحمد أنه قال: «لم يكن بالذكي، اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول، حتى قدِمَ عليه بَهْزٌ، فعرفه» . فقد ذكر هذا لابن معين فقال: «ألا تراه قد بيَّنها» . يعني أن جريرًا بيَّن لمن يروي عنه أن حديث أشعث وعاصم اختلط عليه حتى ميَّز له بهزٌ ذلك. وعلى هذا فلم يحدِّث عنهما حتى ميَّز له بهزٌ، فكان يحدِّث عنهما ويبيِّن الحال. وهذا هو محض الصدق والنصيحة والضبط والإتقان، فإنه لا يُطلب من المحدِّث أن لا يَشُكَّ في شيء، وإنما المطلوب منه أن لا يحدِّث إلا بما يتقنه؛ فإن حدَّث بما لا يتقنه بيَّن الحالَ، فإذا فعل ذلك فقد أمِنَّا من غلطه، وحصل بذلك المقصود من الضبط.
فإن قيل: فإنه يؤخذ من كلامهم أنه لم يكن يحفظ، وإنما اعتماده على كتبه.
قلت: هذا لا يعطي ما زعمه الأستاذ «أنه كان سيئ الحفظ» . فإن هذه الكلمة إنما تُطلق في صدد القدح فيمن لا يكون جيد الحفظ، ومع ذلك يحدِّث من حفظه فيخطئ، فأما من لا يحدِّث من حفظه إلا بما أجاد حفظه كجرير، فلا معنى للقدح فيه بأنه لم يكن جيِّد الحفظ.
وأما قول الأستاذ: «انفرد برواية حديث الأخرس الموضوع» ، فهذا تقليدٌ من الأستاذ للشاذَكوني، فإنه هو الذي حكم على ذلك الخبر بأنه موضوع، والشاذكوني قد عرفتَ حالَه. فأما الخبر، فإنما حدَّث به جرير عن
(1)
في «الضعفاء» : (1/ 200).
مغيرة قوله، كما في «الميزان»
(1)
عن عثمان بن أبي شيبة، وليس [1/ 218] بموضوع ولا ضعيف، سواء أتوبع عليه جرير أم لم يتابع، فإنه لا يُنكَر لمثل جريرٍ أن يتفرّد بحديث مرفوع، فضلًا عن شيء من قول مغيرة بن مقسم.
وأما قول الأستاذ: «والكلام فيه طويل الذيل» ، فلم يبق إلا كلام الموثِّقين! قال الإمام أحمد:«جريرٌ أقلُّ سقطًا من شريك، وشريك كان يخطئ» . وقال ابن معين نحوه. وقال العجلي والنسائي: «ثقة» .
وقال ابن أبي حاتم
(2)
وقال ابن عمار: «حجة، كانت كتبُه صحاحًا» . وقال أبو أحمد الحاكم: «هو عندهم ثقة» . وقال الخليلي: «ثقة متفق عليه» . وقال اللالكائي: «مجمع على ثقته» . وقال قتيبة: «ثنا جرير الحافظ المقدَّم، لكني سمعته يشتم معاوية علانيةً» .
أقول: لم يبيِّن ما هو الشتم؟ ولم يضرَّه ذلك في روايته، بل أجمعوا على توثيقه كما رأيت، واحتجَّ به صاحبا «الصحيحين» وبقية الستة والناس.
قول الأستاذ: «وليس هو ممن يساق خبره في صدد سرد المحفوظ عند النقلة إلا في مذهب الخطيب» .
(1)
(1/ 396).
(2)
«الجرح والتعديل» : (2/ 506).