الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لموافقته هواهم؟ أم هل يسوغ ردُّ الحق لمخالفته هوى الكوثري؟!
[1/ 416]
فصل
وكما حاول الكوثري الطعن في نسب الشافعي، وفي فصاحته، وفي ثقته، حاول الطعن في فقهه. قال الأستاذ (ص 139) بعد أن ذكر ما روي عن الشافعي أنه قال:«أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كلَّه عليها» ؛ قال الأستاذ: «لأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل. ففي كتاب «الوقف» أخذ بقول شريح القاضي، وجعله أصلًا، ففرَّع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى ردَّها صاحباه. وهكذا فعل في كتاب «المزارعة» حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي، فجعله أصلًا، ففرَّع عليه الفروع. ولكن ما هو من هذا القبيل من مسائل (؟)
(1)
أبي حنيفة ربما لا يبلغ في العدِّ
(2)
عددَ أصابع اليد الواحدة، في حين أن ما عند ذلك العائب من هذا القبيل (؟) بحيث يحار فيه كبار الفقهاء من أهل مذهبه، فتجدهم مضطربين فيما يختارون في المذهب بين قديم المسائل وجديدها، وبين الأجوبة الشفعية المروية عن الإمام التي يقال فيها: فيها قولان. فيَشْكون من عدم مشي الفروع على الأصول، وعدم الاطراد في التأصيل والتفريع، مما ليس هذا موضع شرحه، وله محل آخر».
وذكر (ص 137) قول ابن أبي حاتم عن ابن عبد الحكم: «قال لي محمد بن إدريس الشافعي: نظرتُ في كتبٍ لأصحاب أبي حنيفة فإذا فيها
(1)
علامة الاستفهام هنا وما بعدها من المؤلف، وهي إشارة منه إلى استنكار هذه العبارات!
(2)
الأصل: «العدد» ، فصححته من «التأنيب» . [ن]. وهو على الصواب بخط المؤلف في «تنزيه الإمام الشافعي» (ص 325).
مائة وثلاثون ورقة، فعددت فيها ثمانين ورقة خلاف الكتاب والسنة». قال الأستاذ: «
…
بل أَفرض أن متن الرواية مما أسرَّ به الشافعي إلى محمد بن عبد الحكم على خلاف ما تواتر (؟ ) عن الشافعي أنه قال: «الناس كلهم عيال في الفقه على أبي حنيفة» ، وأنه حمل عن محمد بن الحسن حِمْل جمل من علمه، وأنه أَمَنُّ الناس عليه في الفقه
…
وعلى فَرْض أن أحدَ أصحاب أبي حنيفة أخطأ في غالب مسائل كتيِّب، فماذا على أبي حنيفة من ذلك؟ والشافعي نفسه رجع عما حواه كتاب «الحجة» كلُّه المعروف [1/ 417] بالقديم وأمر بغسله والإعراض عنه
…
ولولا أن الشافعي رأى قديمَه كلَّه مخالفًا للكتاب والسنة لما رجع هذا الرجوع ولا شدَّد
(1)
هذا التشدد
…
وذلك العالم المفروض خطاؤه لم يعترف بعدُ بالخطأ اعتراف الشافعي بخطئه في القديم
…
وها هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
…
ألف كتابًا سماه: «ما خالف فيه الشافعي كتاب الله وسنة رسوله
…
فهل نصدقه فيما يقول بالنظر إلى مبالغة ابن خزيمة في الثناء عليه حيث يقول: ليس تحت قبة السماء أحدٌ أعلم باختلاف الصحابة والتابعين واتفاقهم من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
…
».
وقال (ص 119): «يوجد بين الأئمة من يُرْوَى عنه عدَّة أجوبة في مسألة واحدة كالروايات الست عن مالك في المسح على الخفين، وكالأجوبة المشفَّعة
(2)
في «الأم» للشافعي
…
وأما مذهب أبي حنيفة فلا تجد في مسائل ظاهر الرواية إلا قولًا واحدًا منه في كل مسألة. وأما كتب النوادر فحكم مسائلها في جنب مسائل ظاهر الرواية كحكم القراءات الشاذة
…
على أن قيمة روايات النوادر تقدَّر بأحوال رواتها».
(1)
في «التأنيب» : «تشدّد» .
(2)
يعني المسائل التي للإمام الشافعي فيها قولان، كما سيشرحه المؤلف قريبًا.
أقول: أما كلمة الشافعي الأولى، فقد اعترف الأستاذ بما يوافقها وزيادة، فدلَّ مجموع كلامه على أن لأبي حنيفة كتبًا من كتب الفقه، وهي الأبواب العظيمة فيه ككتاب «الوقف» وكتاب «المزارعة» ، يرى الأستاذ أنها لا تزيد على خمسة كتب بناها أبو حنيفة على ما ليس بحجة، وهو مع ذلك مخالف للحجة، ثم فرَّع فروع تلك الكتب كلّها على ذلك، فأصبحت فروع تلك الكتب كلّها غير مقبولة، ولم يرجع عنها أبو حنيفة، وإنما ردَّها صاحباه من بعده.
وأما كلمة الشافعي الثانية، فقد وقع في لفظها اختلالٌ ما، كما ذكره الأستاذ، وحاصلها أن الشافعي رأى لأصحاب أبي حنيفة كتابًا عدد أوراقه مائة وثلاثون، ثمانون منها مخالف للكتاب والسنة. واعترافُ الأستاذ بالأولى اعترافٌ بإمكان هذه؛ كأن يكون في ذلك الكتاب بعض تلك الكتب المردودة، ككتاب «الوقف» وكتاب «المزارعة» مع كتاب آخر أو أكثر.
وأما مطاعنه في فقه الشافعي فتتلخص
(1)
في أمور:
الأول: أنه رجع عن قديمه وأمر بغسله.
[1/ 418] الثاني: أنه يذكر في المسألة قولَيْن ولا يرجع.
الثالث: أن فروع مذهبه يكثر فيها عدم الجريان على أصوله.
فأما الأول، فالأستاذ يعلم قبل غيره أنه يركب فيه المجازفة الفاحشة والكذب المفضوح، فإنه يعلم أنه لا بدّ أن يكون في القديم كثير من المسائل
(1)
(ط): «فيتلخّص» .
الإجماعية التي لم يخالفها الشافعي أولًا ولا آخرًا؛ وكثير من المسائل التي لم يزل الشافعيُّ موافقًا فيها لمالك، لأن عامة المسائل التي رجع عنها في الجديد كان في القديم موافقًا فيها لمالك؛ وكثير من المسائل التي كان في القديم موافقًا فيها للحنفية واستمرَّ على ذلك في الجديد. فبأيّ دين أم بأيّ عقل يقول الأستاذ:«رجع عما حواه كتابُ «الحجة» كله»؟ ! ! !
أما أمر الشافعي بغسل كتاب «الحجة» وأن لا يُرْوَى عنه، إن صح ذلك، فإنما هو ــ كما يعلم الأستاذ ــ لأنه كان فيه مسائل رجع عنها الشافعي، ولأنه لم يكن تهيّأ له إتقانُ تهذيبه وترتيبه واستيفاء الحجج وإيضاح البيان فيه، وعَلِم أن جميع ما فيه عدا المسائل التي رجع عنها قد ضمَّنه كتبه الجديدة، مع سلامتها من تلك النقائص، وزيادتها لحِجاج وأصول وفروع لا تحصى، فلم ير لبقائه وروايته عنه فائدةً، بل فيه مضرّة ما، كأن يغترَّ بعض أتباعه ببعض المسائل التي رجع عنها، أو يغترَّ مُخالِفُه بما فيه من تقصير في الاحتجاج في بعض مسائل الخلاف، فيتوهّم أنه لا حجة للشافعي إلا ما في ذلك الكتاب. وهذا أمر بغاية الوضوح يخجل صاحبُ العلم من شرحه، ولكن ماذا نصنع بالأستاذ؟ يحاول التلبيس على الجهّال، فيضطرنا إلى أن نشرح القضية كأننا نشرحها لأجهل الناس، ويضيع وقته ووقت غيره، كأنه لا يوقن أنه مسؤول عن عمره فيم أفناه؟
وأما الأمر الثاني، فقد ذكر محققو الشافعية أن ذلك إنما وقع للشافعي في ستة عشر أو سبعة عشر موضعًا، فقد يكون الشافعي يرى رجحان أحد القولين، وإنما لم ينصّ على ذلك ليلجئ أصحابَه إلى النظر والتدبّر، ليكون
ذلك أعْوَن لهم على تحصيل مَلَكة الاجتهاد التي يتمكَّنون بها من النظر لأنفسهم فيما ذكره الشافعي وفيما لم يذكره، وهذا كان مقصوده الأعظم من تأليف الكتب. قال المزني أول «مختصره»
(1)
: «اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى لأقرِّبه على من أراده، مع إعلامِيه نهيَه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر [1/ 419] فيه لدينه ويحتاط لنفسه» . ويقرب من هذا ما تراه في كتب التعليم من إيراد عدة أسئلة بدون حلِّها تمرينًا للطالب لِيُعمِل فكره في حلِّها.
وقد لا يكون تمكَّن في الوقت من استيفاء النظر، ولم تكن القضية واقعة حتى يلزمه وقفُ نفسه عليها حتى يستوفي النظر، فتَرَكها واشتغل بغيرها، ولم يستحل أن يقول شيئًا قبل استيفاء النظر، فيقع في مثل ما ذكره الأستاذ في «التأنيب» (ص 123) عن حفص بن غياث قال:«كنت أجلس إلى أبي حنيفة فأسمعه يُسأل عن مسألة في اليوم الواحد فيفتي فيها بخمسة أقاويل» !
وأما الأمر الثالث، فلا ريب أن في مذهب الشافعي فروعًا يتعسّر تطبيقها على أصوله، ولكن ما فيه من هذا القبيل لا يكادُ يُذكر في جانب ما في مذهب أبي حنيفة. وكلُّ عارفٍ بفقه المذهبين وأصولهما يعرف الحقيقة، وليس هذا موضع بسطها، ومن اطلع على قسم الفقهيات
(2)
من كتابنا هذا اتضح له الأمر.
(1)
(ص 1).
(2)
في المجلد الثاني (ص 3 - 281).
وكذلك ما زعمه الكوثري من حيرة فقهاء الشافعية واضطرابهم، ليس بشيءٍ بالنسبة إلى ما وقع لفقهاء الحنفية، ومن شاء فليطالع كتب الفقه في المذهبين، بل يكفيه أن ينظر أول مسألة من قسم الفقهيات، وهي مسألة ضرورية من مبادئ الطهارة، ارتبك فيها الحنيفة أشد الارتباك. وما ذكره من كتب ظاهر الرواية عندهم ليس بشيء، لأن كتب ظاهر الرواية يقع فيها الاختلاف.
وأما كتاب ابن عبد الحكم، فلم يعترف الشافعية بصدقه، كما اعترف الكوثري وغيره بصدق كلمة الشافعي كما مرّ. والعلمُ باتفاق الصحابة والتابعين واختلافهم لا يستلزم جودةَ النظر وصحةَ الفهم للترجيح فيما اختلفوا فيه، واستنباطِ حكمِ ما لم يُنقل عنهم فيه شيء. والأستاذ وكل ذي معرفة يتحقق أن البون في هذا بين الشافعي وابن عبد الحكم بعيدٌ جدًّا، وإن كان الشافعي غير معصوم عن الخطأ، وابن عبد الحكم غير محجوب البتة عن الإصابة.
وأما ما نُقل عن الشافعي أنه قال: «الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة» فلم يتواتر كما زعم الأستاذ. ولو شئنا لقلنا، ولكننا نقتصر هنا على ما يعترف به الأستاذ، وهو أن أبا حنيفة إذا عرف الأصلَ أحسنَ في التفريع وأجاد، وإذا لم يعرف الأصل أو لم يأخذ به وقع في التخليط كما وقع له في الكتب التي تقدم ذكرها، ويقول الأستاذ: إنها لا تُجاوز الخمسة، فثناءُ [1/ 420] الشافعي بحسب الضرب الأول، وانتقادُه بحسب الضرب الثاني. وأما ما يتعلق بمحمد بن الحسن، فيُعْلَم [ما] فيه مما يأتي.