الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: إنما حكى ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه قال: «كان رجلًا صالحًا، وكان في حديثه بعض الغلط»
(1)
. وقد وقفتُ لسعيد على خطأ في إسناد حديث أو حديثين، وذلك لا يضرُّه، وإنما حدُّه أنه إذا خالف مَن هو أثبت منه ترجَّح قولُ الثبت. وقد أثنى عليه الإمامان ابن [1/ 258] مهدي والقطان. وقال ابن معين:«ثنا سعيد بن عامر الثقة المأمون» . ووثقه أيضًا ابن سعد، والعجلي، وابن قانع حافظ الحنفية. وروى عنه الأئمة: ابن المبارك، وأحمد، ويحيى، وإسحاق، وأبو خيثمة، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وغيرهم.
98 - سفيان بن سعيد الثوري:
في «تاريخ بغداد» في ترجمة أبي حنيفة عدة كلمات منسوبة إلى الثوري
(2)
، فيها غضٌّ من أبي حنيفة، تعقَّبها الأستاذ في «التأنيب» بما تعقَّبها. وفي بعض ذلك ما يؤول إلى الطعن في الثوري. فمن ذلك: ما يتعلق بالإرجاء
(3)
، وقد ذكرته في قسم الاعتقاديات
(4)
. ومن ذلك: الروايات في أن أبا حنيفة استتيب من الكفر مرتين
(5)
. جاءت تلك الروايات عن الثوري وجماعةٍ، فتكلم الأستاذ في الروايات بما لا شأن لنا به هنا.
(1)
«الجرح والتعديل» : (4/ 49).
(2)
انظر: (13/ 391، 394، 399، 418، 419، 429، 430، 436، 447، 453).
(3)
(13/ 378، 399).
(4)
(2/ 555 وما بعدها).
(5)
(13/ 391 - 392).
وقال (ص 65): «روى ابن عبد البر بسنده عن عبد الله [بن]
(1)
داود الخُرَيبي الحافظ تكذيبَ استتابته مطلقًا. فليراجع «الانتقاء» ».
أقول: تلك الرواية في «الانتقاء» (ص 150)
(2)
وهي من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي، وقد قال الأستاذ (ص 60):«الكُدَيمي متكلَّم فيه راجع «ميزان الاعتدال» ».
أقول: وراجع أيضًا «تهذيب التهذيب»
(3)
، وحاصل ذلك أن الكُدَيمي ليس بثقة، وقد كذَّبه جماعة.
وقال الأستاذ (ص 66): «وهناك رواية أخرى
…
وذلك ما حدَّثه ابن أبي العوَّام الحافظ (؟ ) عن الحسن بن حمَّاد سجَّادة قال: حدثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم البصري
…
». ثم قال الأستاذ: «وفي ذلك القول الفصل، لأن أبا القاسم بن أبي العوام الحافظ (؟ ) ــ صاحبَ النسائي ــ وسجَّادة وأبا
(4)
قطن كلَّهم من الثقات الأثبات».
أقول: ابن أبي العوام ذكرته في «الطليعة» (ص 27 - 28)
(5)
فراجعها. ولم يتعقب الأستاذ في «الترحيب» ذلك بشيء، وأي قيمة لتوثيق الكوثري! ومع ذلك فلم يدرك سجّادة، لأن سجادة توفي سنة 241، والنسائي نفسه يروي عن رجل عنه. ويظهر أنه إنما وقع في كتاب ابن أبي العوام «حُدِّثْتُ
(1)
سقطت من (ط).
(2)
(ص 287 - المحققة).
(3)
(9/ 539 - 544).
(4)
(ط): «وأبو» خطأ، والمثبت من «التأنيب» .
(5)
(ص 18 - 20).
عن الحسن بن حماد سجادة». فقول الأستاذ: «وذلك ما حُدِّثه» حقُّها أن [1/ 259] تُقرأ هكذا بالبناء للمجهول. فعلى هذا لا يُدرى مَنْ شيخ ابن أبي العوّام، إن كان له شيخ غير نفسه، وصحَّ الخبر عنه.
ومن ذلك أن الخطيب ساق عدة روايات
(1)
عن الثوري والأوزاعي قال: «ما وُلد في الإسلام مولودٌ أشأمُ على هذه الأمة من أبي حنيفة» .
فقال الأستاذ (ص 72): «لو كان هذا الخبر ثبَتَ عن الثوري والأوزاعي لسقطا بتلك الكلمة وحدها في هُوَّة الهوى والمجازفة، كما سقط مذهباهما بعدهما سقوطًا لا نهوض لهما أمام الفقه الناضج. وقد ورد: «لا شؤم في الإسلام» . وعلى فرض أن الشؤم يوجد في غير الثلاث الواردة في السنة، وأن صاحبنا مشؤوم، فمن أين لهما معرفةُ أنه في أعلى درجات المشؤومين؟
…
».
أقول: لم يريدا الشؤم الذي نفاه الشرع، وإنما أرادا الشؤم الذي يُثبته الشرع والعقل. إذا كان في أخلاق الإنسان وأقواله وأفعاله ما من شأنه ديانةً وعادةً وقوعُ الضرر والمصائب بمن يصحبه ويتبعه، ويتعدّى ذلك إلى غيرهم، ووقع ذلك ولم يزل ينتشر، ودلَّت الحالُ على أنه لن يزال في انتشار= صحَّ أن يقال: إنه مشؤوم. وإذا ظُنّ أن ما يَلْحق الأمةَ من الضرر بسبب رجل [أكثر مما يلحقها بسبب رجلٍ]
(2)
آخر= صحَّ أن يقال: إنه لم يولد مولودٌ أشأَمُ على الأمة منه.
كان الثوري والأوزاعي ــ كجمهور الأئمة قبلهما وفي عصرهما ــ يريان
(1)
(13/ 418 - 419).
(2)
زيادة يقتضيها السياق، لعلها سقطت بسبب انتقال النظر.
الإرجاءَ، وردَّ السنة بالرأي، والقولَ ببعض مقالات الجهمية= كلَّ ذلك ضلالةً، من شأنها أن يشتدَّ ضررُها على الأمة في دينها ودنياها، ورَأَيا صاحبَكم وأتباعَه ــ مخطئين أو مصيبين ــ جادِّين في نشر ذلك، ولا تزال مقالاتهم تنتشر وتجُرُّ إلى ما هو شرٌّ منها، حتى جرَّت قومًا إلى القول بأن أخبار الآحاد مردودة مطلقًا، وآخرين إلى ردِّ الأخبار مطلقًا، كما ذكره الشافعي. ثم جرَّت إلى القول بأن النصوص الشرعية لا يُحتجُّ بها في العقائد! ثم إلى نسبة الكذب إلى أنبياء الله عز وجل وإليه سبحانه كما شرحته في قسم الاعتقاديات
(1)
.
شاهدَ الثوريُّ والأوزاعي طرفًا من ذلك، ودلَّتهما الحالُ على ما سيصير إليه الأمرُ، فكان كما ظنَّا. وهل كانت المحنة في زمن المأمون والمعتصم والواثق إلا على يدي أصحابكم ينسبون أقوالهم إلى صاحبكم؟ وفي كتاب «قضاة مصر»
(2)
طرف من وصف ذلك. وهل جرَّ إلى استفحال تلك المقالات إلا تلك المحنة؟ وأيُّ ضَرٍّ نزل بالأمة أشدُّ من هذه المقالات!
[1/ 260] فأما سقوطُ مذهبيهما، فخِيرةٌ اختارها الله تبارك وتعالى لهما. فإن المجتهد قد يخطئ خطأً لا يخلو عن تقصير، وقد يقصِّر في زجر أتباعه عن تقليده هذا التقليدَ الذي نرى عليه كثيرًا من الناس منذ زمان طويل، الذي يتعسَّر أو يتعذَّر الفرقُ بينه وبين اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله= فقد يلحق المجتهدَ كِفْلٌ من تلك التبعات؛ فسلَّم الله تعالى الثوري
(1)
(2/ 464 وما بعدها).
(2)
لمحمد بن يوسف الكندي (ص 445 وما بعدها).
والأوازعي من ذلك.
فأما ما يرجى من الأجر على الاتباع في الحق، فلهما من ذلك النصيبُ الأوفر بما نشراه من السنة علمًا وعملًا. وهذه الأمهات الستُّ المتداوَلة بين الناس حافلةٌ بالأحاديث المروية من طريقهما، وليس فيها لصاحبكم ومشاهير أصحابه حديث واحد! وقد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في «تاريخه الكبير»
(1)
(2)
ص 187: شهدته) ما صُلِّي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ــ يعني: مجلس النعمان» ولهذه الحكاية طرف في «تاريخ بغداد»
(3)
(4)
لابن أبي حاتم وغيرهما.
وقد علمنا كيف انتشر مذهبكم:
أولًا: أولع الناس به لما فيه من تقريب الحصول على الرئاسة، بدون تعب في طلب الأحاديث وسماعها وحفظها والبحث عن رواتها وعللها وغير ذلك؛ إذ رأوا أنه يكفي الرجلَ أن يحصل له طرف يسير من ذلك، ثم يتصرَّف برأيه، فإذا به قد صار رئيسًا!
(1)
(4/ 92).
(2)
في «الأوسط» : (3/ 600) طبع خطأً باسم الصغير.
(3)
(13/ 428).
(4)
(ص 65، 115 - 116).
ثانيًا: وليَ أصحابكم قضاءَ القضاة، فكانوا يحرصون على أن لا يولُّوا قاضيًا في بلد من بلدان الإسلام إلا على رأيهم، فرغب الناس فيه ليتولوا القضاء. ثم كان القضاة يسعون في نشر المذهب في جميع البلدان.
ثالثًا: كانت المحنة على يدي أصحابكم، واستمرت خلافةَ المأمون وخلافةَ المعتصم وخلافةَ الواثق. وكانت قوى الدولة كلُّها تحت إشارتهم، فسعوا في نشر مذهبهم في الاعتقاد وفي الفقه في جميع الأقطار. وعمدوا إلى من يخالفهم في الفقه، فقصدوه بأنواع الأذى. ولذلك تعمدوا [1/ 261] أبا مُسْهِر عبد الأعلى بن مسهر عالمَ الشام وارثَ فقه الأوزاعي
(1)
، والإمامَ أحمد بن حنبل حاملَ راية فقه الحديث
(2)
، وأبا يعقوب البُوَيطي خليفة الشافعي
(3)
، وابنَ عبد الحكم وغيرَه من المالكية بمصر. وفي كتاب «قضاة مصر»
(4)
طرف مما صنعوه بمصر. وفي ذلك يقول الشاعر يمدح قاضيكم بمصر:
ولقد بجستَ العلمَ في طُلَّابه
…
وفجَرتَ منه منابعًا لم تُفْجَرِ
فحميتَ قولَ أبي حنيفة بالهدى
…
ومحمدٍ واليوسفيِّ الأذكرِ
وفتى أبي ليلى وقولَ قريعهم
…
زُفرِ القياسِ أخي الحِجاج الأنظرِ
(1)
تأتي ترجمته [رقم 137]. وقد حُمِل إلى العراق، وهُدِّد بالقتل، ثم أودع السجن حتى مات. [المؤلف].
(2)
قصته معروفة. [المؤلف].
(3)
حُمل من مصر في القيود والأغلال، ثم أُودع السجن مقيدًا إلى أنصاف ساقيه مغلولةً يداه إلى عنقه إلى أن مات. [المؤلف].
(4)
للكندي (ص 445 وما بعدها). وانظر «رفع الإصر عن قضاة مصر» : (2/ 387 وما بعدها) للحافظ ابن حجر.
وحطَمتَ قولَ الشافعيِّ وصَحْبِه
…
ومقالةَ ابنِ عليةٍ لم تُصْحِرِ
ألزقتَ قولَهم الحصيرَ فلم يجُزْ
…
عرضَ الحصيرِ فإنْ بدا لك فاشبُرِ
والمالكيةُ بعد ذكرٍ شائعٍ
…
أخملتَها فكأنَّها لم تُذْكَر
ثم ذكر إكراه علماء مصر على القول بخلق القرآن وغير ذلك. راجع كتاب «قضاة مصر» (ص 452).
رابعًا: غلبت الأعاجم على الدولة، فتعصَّبوا لمذهبكم لعلة الجنسية، وما فيه من التوسع في الرُّخَص والحيل!
خامسًا: تتابعت دول من الأعاجم كانوا على هذه الوتيرة.
سادسًا: قام أصحابكم بدعايةٍ لا نظير لها، واستحلُّوا في سبيلها الكذب حتى على النبي صلى الله عليه وسلم، كما نراه في كتب المناقب.
سابعًا: تمَّمُوا ذلك بالمغالطات التي ضرب فيها الكوثري المثل الأقصى في «تأنيبه» كما شرحتُ أمثلة من ذلك في «الطليعة» وفي هذا الكتاب، ومرَّ بعضها في هذه الترجمة نفسها.
[1/ 262] فأما النضج الذي يدّعيه الأستاذ، فيظهر نموذج منه في قسم الفقهيات، بل في المسألة الأولى منها!
وقد كان خيرًا للأستاذ ولأصحابه ولنا وللمسلمين أن يُطوَى الثوبُ على غَرِّه، ويُقَرَّ الطيرُ على مَكِناتها، ويدعَ ما في «تاريخ بغداد» مدفونًا فيه، ويذَر النزاع الضئيل بين مسلمي الهند مقصورًا عليهم، ويتمثَّل قول زهير
(1)
:
(1)
شرح شعر زهير بن أبي سلمى، صنعة ثعلب (26 - 28).
وما الحربُ إلا ما علمتُمْ وذقتُمُ
…
وما هو عنها بالحديث المُرَجَّمِ
متى تَبعثُوها تَبعثُوها ذميمةً
…
وتَضْرَ إذا أضريتموها فتَضْرَمِ
فتَعْرُكُكُم عَرَكَ الرَّحى بِثفَالها
…
وتَلْقَحْ كِشافًا ثم تُنْتَجْ فتُتْئِمِ
فتنتَجْ لكم غلمانَ أشأمَ كلُّهم
…
كأحمرِ عادٍ ثم تُرضِعْ فتَفْطِمِ
فتُغْلِلْ لكم ما لا تُغِلُّ لأهلها
…
قُرًى بالعراق مِن قفيزٍ ودرهم
وقد جرَّني الغضبُ للسنة وأئمتها إلى طرف مما أكره، وأعوذ بالله من شرِّ نفسي وسيِّئ عملي {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:(10)].
ومن أحب الوقوف على فضائل الثوري والأوزاعي، فليراجع تراجمهما في «تقدمة الجرح والتعديل»
(1)
لابن أبي حاتم، و «تهذيب التهذيب»
(2)
وغير ذلك.
ولنتبرَّك بذكر طرف منها: قال شعبة وابن عيينة وابن معين وغير واحد من الأئمة: «سفيان أمير المؤمنين في الحديث» . وقال عبد الله بن المبارك: «كتبتُ عن ألف ومائة شيخ، ما كتبتُ عن أفضل من سفيان» ، ثم قال:«ما رأيت أفضل من سفيان» . وقال عبد الله بن داود الخُرَيبي: «ما رأيت أفقه من سفيان» .
وقال أبو إسحاق الفَزاري: «ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي
(1)
(ص 55 - 125 و 184 - 218).
(2)
(4/ 111 - 115 و 6/ 238 - 242).