الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
27 - أحمد بن علي بن مسلم أبو العباس الأ بَّار
.
في «تاريخ بغداد» (13/ 325): «أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا أحمد بن جعفر بن محمد بن سَلْم الخُتَّلي، حدثنا أحمد بن على الأ بَّار
…
».
أقول: في «تذكرة الحفاظ» للذهبي (ج 2 ص 192)
(1)
: «الأ بَّار الحافظ الإمام أبو العباس أحمد بن علي بن مسلم محدِّث بغداد، يروي
(2)
عن مسدَّد، وعلي بن الجعد، وشيبان بن فرّوخ، وأمية بن بسطام، ودُحيم، وخلق كثير. حدَّث عنه دَعْلَج، وأبو بكر النجَّاد، وأبو سهل بن زياد، والقطيعي، وآخرون. قال الخطيب: كان [ثقة] حافظًا متقنًا حسن المذهب. قال جعفر الخُلْدي: كان الأ بَّار أزهد الناس. استأذن أمّه في الرحلة إلى قتيبة، فلم تأذن له، فلما ماتت رحل إلى بلخ، وقد مات قتيبة، وكانوا يعزُّونه على هذا. قلت:
(1)
(2/ 639) وما بين المعكوفين منه.
(2)
في «التذكرة» : «حدّث» .
وله تاريخ وتصانيف. مات يوم نصف شعبان سنة تسعين ومائتين».
[1/ 158] رأى الأستاذُ في الرواة عن الأ بَّار دَعْلَج بن أحمد السِّجزي، ورأى في ترجمة دَعْلج أنه كان تاجرًا كثير المال كثير الإفضال على أصحاب الحديث وغيرهم، وأنه أخذ عن ابن خزيمة مصنفاته وكان يفتي بقوله= فاستنبط الأستاذ أن دَعْلجًا كان متعصِّبًا لابن خزيمة في الأصول ــ يعني العقائد ــ وفي الفروع، وابن خزيمة عند الأستاذ مجسِّم، وأبو حنيفة عنده منزِّه ــ التنزيه الذي يسمِّيه خصومُه تعطيلًا وتكذيبًا ــ فعلى هذا كان دعلج متعصبًا على أبي حنيفة للعقيدة وللمذهب معًا! ثم استنبط الأستاذ في شأن الأ بَّار أنه جمع ما جَمَعَه في الغضِّ من أبي حنيفة تقرُّبًا إلى دعلج المُثْري المنفق، وأن دعلجًا كان يوسع العطاء للأبّار لأجل ذلك!
فأقول: لا يخفى على عارف بالفقه والحديث أنه يكفي في ردِّ هذه التهمة أن يبيَّن أن الأ بَّار ودَعْلجًا من الحفّاظ المعروفين، روى عنهما أئمة الحديث العارفون بالعدالة والرواية، ووثَّقوهما، وأثنوا عليهما. ولم يطعن أحد في عدالتهما ولا روايتهما، ولم يذكر أحد دعلجًا بتعصب، بل كان فضله وإفضاله كلمة وفاق. ولم يذكر أحدٌ الأ بَّار بحرص على الدنيا كما ذكروا الحارث بن أبي أسامة وعلي بن عبد العزيز البغوي وغيرهما، بل وصفه شيخ الزهاد وراوية أخبارهم جعفر بن محمد بن نصير الخُلْدي بأنه كان أزهد الناس، كما سلف.
ومع هذا فالأ بَّار كان ببغداد، وسُكْنى دَعْلج بها، وحصولُ الثروة له، وما عُرف به من الإنفاق، وتجردُ ابن خزيمة للكلام في العقائد، وأخذُ دَعلجٍ كتبَه واتِّباعُه له= كلُّ ذلك إنما كان بعد وفاة الأ بَّار بمدة. فإن أقدم من سُمِّي
من شيوخ الأ بَّار مسدَّد المتوفى سنة 228، فعليّ بن الجعد المتوفى سنة 230، فأمية بن بسطام المتوفى سنة 231. وبذلك يظهر أن مولد الأ بَّار كان بعد سنة 210، وتوفي سنة 290 كما مرَّ. ومولد دَعْلج سنة 260 بسجستان، وبها نشأ، ثم كان يطوف البلدان لطلب العلم والتجارة.
ويظهر أن أول دخوله بغداد كان في أواخر سنة 282 أو أوائل التي تليها، فإن أعلى من سمع دعلج منه ببغداد ــ كما يؤخذ من ترجمته في «تذكرة الحفاظ»
(1)
ــ محمد بن رِبْح البزَّاز ومحمد بن غالب تمتام، وكانت وفاتهما سنة 283. وقد كان ببغداد الحارث بن أبي أسامة وهو أسنُّ منهما وأعلى إسنادًا وأشهر ذكرًا، وتوفي يوم عرفة سنة 282، ولم يذكروا لدعلج عنه روايةً، ولو أدركه ما فاته.
فعلى هذا أول ما لقي دعلج الأ بَّار سنة 283، وسنُّ الأ بَّار يومئذ نحو [1/ 159] سبعين سنة، وسنُّ دعلج نحو ثلاث وعشرين سنة. ولم يكن دعلج حينئذ ذا ثروة ولا إنفاق، لأنه أقام بعد ذلك بمكة زمانًا، وسمع بها من الحافظ المعمَّر عالي الإسناد علي بن عبد العزيز البغوي المتوفى سنة 286.
وكان البغويُّ بغاية الفقر حتى كان يُضطر إلى أخذ الأجرة على الحديث، ويقول ــ كما في «تذكرة الحفاظ» (ج 2 ص 179)
(2)
ــ: «يا قوم أنا بين الأخشبَين، وإذا ذهب الحُجَّاج نادى أبو قبيس قُعَيقعانَ يقول: من بقي؟
(1)
(3/ 881 - 884).
(2)
(2/ 623).
فيقول: المجاورون. فيقول: أطبِقْ! ». وبقي على ذلك إلى أن مات، إذ لو كَفَّ قبل موته، لكان الظاهر أن يذكر ذلك تلامذتُه الأجلَّاء، وهم كثير، ولهم حرص على أن يدفعوا عن شيخهم ما عِيب به، فيقول واحد منهم أو أكثر: إنما كان يأخذ للضرورة ثم كفَّ عن ذلك. ولو كان دعلج تلك المدةَ قد اتسعت ثروته وإنفاقه لكان جديرًا بأن يعطي شيخه ما يخلِّصه من انطباق الأخشبَين والمشاحَّة على الدرهم والدرهمين.
وفي «تاريخ بغداد» (ج 8 ص 390) قصة من سخاء دعلج، وفي آخرها أنه سُئل عن ثروته وإنفاقه، فقال: «نشأتُ وحفظتُ القرآن وسمعت الحديث، وكنت أتبزَّز، فوافاني رجل من تجار البحر، فقال لي: أنت دعلج بن أحمد؟ فقلت: نعم. فقال: قد رغبتُ في تسليم مالي إليك لتتَّجر فيه، فما سهَّل الله من فائدة فهي بيننا، وما كان من جائحة كانت في أصل مالي. وسلَّم إليّ البرنامجات بألف ألف درهم
…
ولم يزل يتردد إليّ سنة بعد سنة يحمل إليّ مثل هذا، والبضاعة تنمي، فلما كان في آخر سنة اجتمعنا فيها. قال لي: أنا كثير الأسفار في البحر، فإن قضى الله عليّ بما قضاه على خلقه، فهذا المال لك، على أن تتصدَّق منه، وتبني المساجد، وتفعل الخير».
ففي أي سنٍّ ترى اشتهرت أمانة دعلج وديانته وحذقه بالتجارة، حتى يأتمنه تاجرٌ سمع به ولم يعرفه على مثل ذلك المال؟ ويكفيك النظر في عادات الناس، تعلمُ أن الرجل لا يكاد يرسخ في التجارة، ويتوفر رأس ماله، وتسخو نفسه بالإنفاق، إلا بعد الأربعين من عمره، فكيف إذا لاحظتَ أن دعلجًا لم يكن متجرِّدًا للتجارة، بل كان كثير التطواف لسماع الحديث؟ والأ بَّار توفي سنة 290 أي: وسنُّ دعلج ثلاثون سنة، وعاش دعلج بعده فوق
ستين سنة، فإنه توفي سنة 351؛ والظاهر مما ذكروه من أنه أقام بمكة زمانًا أنه لم يسكن بغداد إلا بعد وفاة [1/ 160] الأ بَّار بمدة= فبالنظر فيما تقدم يتبين أنه ليس هناك أدنى قرينة أن يكون دعلج وصل الأ بَّار بفَلْس واحد.
أما ابن خزيمة فإنه توفي سنة 311 أي: بعد وفاة الأ بَّار بإحدى وعشرين سنة، وإنما تجرد للتأليف في العقائد في أواخر عمره. وفي «تذكرة الحفاظ» (ج 2 ص 262)
(1)
عن الحاكم عن جماعة: «لما بلغ ابن خزيمة من السن والرياسة والتفرُّد بهما ما بلغ، كان له أصحاب صاروا أنجم الدنيا .. فلما ورد منصور الطوسي كان يختلف إلى ابن خزيمة للسماع وهو معتزلي
…
واجتمع مع أبي عبد الرحمن الواعظ وقالا: هذا إمام لا يسرع (؟ )
(2)
من الكلام وينهى عنه، وقد نبغ له أصحاب يخالفونه وهو لا يدري، فإنهم على مذهب الكلابية
(3)
…
». ثم ذكر كلامًا فيه أن ذلك الخلاف كان بعد ضيافةٍ عملها ابن خزيمة «في جمادى الأولى سنة تسع» يعني سنة 309، وكأن ذاك الخلاف هو الذي دعا ابن خزيمة إلى التأليف في العقائد. وعلى كلّ حال فالظاهر البيِّن أن أخذَ دعلجٍ كتبَ ابن خزيمة وإفتاءه بقوله إنما كان بعد وفاة الأ بَّار بمدة.
وإنما الثابت أن الأ بَّار كان ساخطًا على أبي حنيفة سخطًا ما، كما يدل عليه جمعه ما جمع، وذلك شأن أهل الحديث في عصره كالبخاري
(1)
(2/ 724).
(2)
كذا وضعها المؤلف استشكالًا للكلمة وهي في «السير» : (14/ 377): «لا يُسْرِع في
…
». وبه يستقيم السياق.
(3)
(ط): «الكلامية» خطأ، والمثبت من «التذكرة» و «السير» .