الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1/ 6]
2 ـ فصل
من أوسع أودية الباطل: الغلوُّ في الأفاضل. ومِن أمضى أسلحته: أن يرمي الغالي كلَّ من يحاول ردَّه إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم.
يرى بعضُ أهل العلم أن النصارى أولَ ما غلوا في عيسى عليه السلام، كان الغلاة يرمون كلَّ من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك، فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلوّ؛ لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نُسبوا إلى ما هم أشدُّ الناس كراهيةً له، من بغض عيسى وتحقيره، ومَقَتهم الجمهور، وأوذوا؛ فثبَّطهم هذا عن الإنكار، وخلا الجو للشيطان. وقريب من هذا حال الغلاة الروافض، وحال القبوريين، وحال غلاة المقلّدين.
وعلى هذا جرى الأمر في هذه القضية. فإن الأستاذ غلا في أبي حنيفة حتى طعن في غيره من أئمة الفقه وفي أئمة الحديث وثقات رواته، بل تناول بعض الصحابة والتابعين، وأسْكَتَ أهلَ العلم في مصر وغيرها برمي كلّ من يهمُّ أن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداته.
ولما اطلع الأستاذ على "الطليعة" جرَّد على صاحبها ذلك السلاح. ومَن تصفَّح "الترحيب" علم أن ذلك ــ بعد المغالطة والتهويل ــ هو سلاحه الوحيد، فهو يبدئ فيه ويعيد، ونفسه تقول: هل من مزيد! ومع ذلك يضطرب، فمن جهةٍ يقول في "الترحيب" (ص 15):
"أخبار الآحاد على فرض ثقة رواتها لا تناهض العقل ولا النقل المستفيض فضلًا عن المتواتر، وقد ثبتت إمامة أبي حنيفة وأمانته ومناقبه لدى الأمة بالتواتر".
ويقول بعد ذلك: "خبر الآحاد يكون مردودًا عند مصادمته لما هو أقوى منه من أخبار الآحاد فضلًا عن مصادمته لما تواتر".
ويقول (ص 17): "وأما الخبر المصادم لذلك من بين أخبار الآحاد فيُرَدُّ، حيث لا تمكن مناهضته للعقل والخبر المتواتر، على تقدير سلامة رجاله من المآخذ".
ويقول (ص 39): "من المقرّر عند أهل العلم أن صحة السند بحسب الظاهر لا تستلزم صحة المتن".
ويعدُّ حسناتي ذنوبًا، فيقول (ص 99): "وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ، [1/ 7] فلو ذكرها كلّها مع كلام الكوثري
(1)
في موضوع المسألة لنبذ السامعُ نقدَ هذا الناقد في أول نظرة، لما حوت تلك المتون من السخف البالغ الساقط بنفسه من غير حاجة إلى مُسقط، فيكون ذكر المتون قاصمًا لظهره".
ويقول (ص 25): "ولو كان الناقد ذكر في صلب متنه الخبر المتحدَّث عنه، كان القارئ يحكم بكذب الخبر بمجرّد سماعه، لكن عادة الناقد إهمال ذكر المتن إخفاءً لحاله".
ومن جهة أخرى يقول (ص 19): "وعادتي أيضًا في مثل تلك الأخبار تطلُّب ضعفاء بين رجال السَّنَد
(2)
بادئ ذي بدء، ضرورة أن الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات ".
(1)
"التأنيب" مطبوع، والأستاذ أقدر على إعادة طبعه. وسواء أكان مقصودي ما شرحته في أول "الطليعة" في الفصل الأول، أم الغرض الذي يرميني به الأستاذ، أم كلاهما؛ فعلى كل حال لا داعي لي إلى ما اقترحه الأستاذ من نقل كلامه. [المؤلف].
(2)
أرجو من القارئ أن يتدبر قول الأستاذ: "وعادتي
…
"، مع مراجعة "الطليعة" (ص 11 - 43)[المؤلف]. [ص 5 - 31].
ويقول (ص 19): "ومن المضحك تظاهره بأنه لا يعادي النعمان، مع سعيه سعي المستميت في توثيق رواة الجروح، ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله، مع أنه لو ثبتت ثقة حملتها ثبت مقتضاها".
وأقول: أما الباعث لي على تعقُّب "التأنيب" فقد ذكرته في أول "الطليعة"
(1)
، وتقدم شرحه في الفصل الأول
(2)
. وهب أن غرضي ما زعمه الأستاذ، وأنه يلزم من صنيعي تثبيت مقتضى تلك الحكايات، فلا يخلو أن يكون كلامي مبنيًّا على الأصول المألوفة والقواعد المعروفة، أو يكون على خلاف ذلك. فإن كان الأول، فلازم الحقِّ حقٌّ. وإن كان الثاني، ففي وُسْع الأستاذ أن يوضّح فساده بالأدلة المقبولة. فعلى أهل المعرفة أن يحاكموا بين "طليعتي" و"ترحيبه" حتى يتبين لهم أقام بنقض كلامي بأدلة مقبولة عند أهل العلم أم أردف ما في "التأنيب" من تهويل ومغالطة وتمحُّل بمثلها؟ ولم يكد يضيف إلى ذلك إلا رمي مؤلف "الطليعة" ببغض أبي حنيفة! كأنَّ الأستاذ يرى أن تلك المهاجمة لا تُتّقى إلّا بالهوى، فأثاره ما استطاع في نفوس أتباعه الذين يهمه شأنهم، ليضرب به بينهم وبين "الطليعة" و"التنكيل" حجابًا لا تمزِّقه حجة، ولا يزيده الله تعالى بعد استحكامه إلا شدّة.
[1/ 8] والواقع أن مقصودي هو ما شرحته في الفصل السابق، ولذلك أهملتُ ذِكْر المتون لأنها خارجة عن مقصودي. ومع ذلك ففي ذكرها مفاسد:
(1)
(ص 3 - 4).
(2)
(ص 5 - 7).
الأولى: ما أشار إليه الأستاذ في الجملة، وهو أن يطّلع عليها حنفيٌّ متحمّس، فيحمله ذكرُ المتن على أن يعرض عن كلامي البتة، ولا يستفيد إلا بُغض من نُسِب إليه المتن من الأئمة.
الثانية: أن يطلع عليها رجلٌ من خصوم الحنفية، فيجتزئ بذاك المتن، ويذهب يعيب أبا حنيفة غير مبال أصحّ ذاك المتن أم لم يصح.
الثالثة: أن يطلع عليها عامّي لا يميز، فيقع في نفسه أن أئمة السلف كان بعضهم يطعن في بعض، ويكبر ذلك عليه، ويسيء الظنَّ بهم جميعًا.
فإهمال ذكر المتن يمنع هذه المفاسد كلها، ولا يبقى أمام الناظر إلا ما يتعلق بتلك القضايا الخاصة التي ناقشتُ فيها الأستاذ.
والواقع أيضًا أنه لا يلزم من صنيعي تثبيت الذمّ، ولا يلزمني قصد ذلك. ومن تأمّل عبارات الأستاذ في الجهة الأخرى كما قدَّمتها بان له صحة قولي.
وأزيدُ ذلك إيضاحًا وشرحًا وتتميمًا، فأقول: وعامة مناقشتي للأستاذ إنما هي في بعض رجال تلك الأسانيد، وقد وافقته على ضعف جماعة منهم، ولا يلزم من تثبيتي ثقةَ رجلٍ مِن رجال السند، ثبوتُ ثقةِ غيره. بل الأمر أبعد من ذلك، فإن المقالة المسندة، إذا كان ظاهرها الذم أو ما يقتضيه، لا يثبت الذمُّ [بها]
(1)
إلا باجتماع عشرة أمور:
الأول: أن يكون هذا الرجل المعيَّن الذي وقع في الإسناد ووقعت فيه المناقشة ثقة.
(1)
زيادة يستقيم بها السياق.
الثاني: أن يكون بقية رجال الإسناد كلّهم ثقات.
الثالث: ظهور اتصال السند ظهورًا تقوم به الحجة.
الرابع: ظهور أنه ليس هناك علة خفية يتبين بها انقطاع، أو خطأ، أو نحو ذلك مما يوهن الرواية.
الخامس: ظهور أنه لم يقع في المتن تصحيف أو تحريف أو تغيير قد تُوقع فيه الروايةُ بالمعنى.
[1/ 9] السادس: ظهور أن المراد في الكلام ظاهره.
السابع: ظهور أن الذامَّ بنى ذمه على حجة، لا نحو أن يبلِّغه إنسان أن فلانًا قال كذا أو فعل كذا، فيحسبه صادقًا، وهو كاذب أو غالط.
الثامن: ظهور أن الذامَّ بنى ذمه على حجة، لا على أمر حمله على وجه مذموم، وإنما وقع على وجه سائغ.
التاسع: ظهور أنه لم يكن للمتكلم فيه عذر، أو تأويل فيما أنكره الذام.
العاشر: ظهور أن ذلك المقتضي للذمّ لم يرجع عنه صاحبه.
والمقصود بالظهور في هذه المواضع الظهور الذي تقوم به الحجة.
وقد يزاد على هذه العشرة، وفيها كفاية.
فهذه الأمور إذا اختلّ واحدٌ منها لم يثبت الذم، وهيهات أن تجتمع على باطل.
والذي تصدّيتُ لمناقشة الأستاذ فيه إنما يتعلق بالأمر الأول، ولا يلزم
من تثبيته تثبيت الثاني، فضلًا عن الجميع. وقد يلزم من صنيعي في بعض المواضع تثبيت الثاني، لكن لا يلزم من ذلك تثبيت الثالث، فضلًا عن الجميع. وما قد يتفق في بعض المواضع من مناقشتي للأستاذ في دعوى الانقطاع أو التصحيف، فالمقصود من ذلك كشف مغالطته، ولا يلزم من ذلك تثبيت تلك الأمور كلها. وقد يتهم الأستاذ رجلًا في رواية مع علمه بأنه قد توبع متابعة تبيِّن صدقه في تلك الرواية، فيضطرني إلى التنبيه على تلك المتابعة. وقد يشنِّع على الخطيب بإيراده روايةَ مَن فيه كلام في صدد ما زعم أنه المحفوظ عنده، ويتبين لي سقوط الشناعة من هذه الناحية، إما لأنه إنما ذكر رواية ذلك الراوي في المتابعات، وإما لأن الراوي إنما غُمز بأنه يخطئ أو يَهِم، وليس تلك الرواية مما يُخشى فيه الخطأ أو الوهم، فأحتاج إلى بيان ذلك. وكلّ هذا لا يلزم منه تثبيت تلك الأمور كلها، وأذكر هنا مثالًا واحدًا:
قال إبراهيم بن بشّار الرمادي: "سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما رأيت أحدًا أجرأ على الله من أبي حنيفة. ولقد أتاه رجل من أهل خراسان، فقال: يا أبا حنيفة قد أتيتك بمائة ألف مسألة، أريد أن أسألك عنها. قال: هاتها. فهل سمعتم أحدًا أجرأ على الله من هذا! ".
هذه الحكاية [1/ 10] أول ما ناقشت الأستاذ في بعض رجال سندها في "الطليعة"(ص 12 - 20) فإنه خبط في الكلام في سندها إلى الرمادي بما ترى حاله في "الطليعة". وتكلم في الرمادي، وستأتي ترجمته. وزاد في "الترحيب" فتكلم في ابن أبي خيثمة بما لا يضره. وذكر ما قيل أن ابن عيينة اختلط بأخرة، وهو يعلم ما فيه، وستأتي ترجمته. وقد ذكر الأستاذ في
"التأنيب" جوابًا معنويًّا جيدًا، ولكنه مزجه بالتخليط، فقال بعد أن تكلّم في السند بما أوضحت ما فيه في "الطليعة":"وابن عيينة بريء من هذا الكلام قطعًا بالنظر إلى السند".
كذا قال. ثم قال بعد ذلك: "وأما من جهة المتن فتكذِّب شواهدُ الحال الأخلوقةَ تكذيبًا لا مزيد عليه
…
رجل يبعث من خراسان ليسأل أبا حنيفة عن مائة ألف مسألة بين عشية وضحاها، ويجيب أبو حنيفة عنها بدون تلبُّث ولا تريّث".
كذا قال. وليس في القصة أن الرجل سأل عن مسألة واحدة، فضلًا عن مائة ألف. ولا أن أبا حنيفة أجاب عن مسألة واحدة، فضلًا عن مائة ألف، فضلًا عن أن يكون ذلك كلّه بين عشية وضحاها. وكان يمكن الأستاذ أن يجيب بجواب بعيد عن الشَّغَب كأن يقول: يبعد جدًّا أو يمتنع أن تُجمع في ذاك العصر مائة ألف مسألة، ليأتي بها رجل من خُراسان، ليسأل عنها أبا حنيفة. وهذا يدل على أحد أمرين: إما أن يكون السائل إنما أراد: أتيتك بمسائل كثيرة، فبالغ. وإما أن يكون بطَّالًا لم يأت ولا بمسألة واحدة، وإنما قصد إظهار التشنيع والتعجيز، فأجابه أبو حنيفة بذاك الجواب الحكيم. فإن كان الرجل إنما قصد التشنيع أو التعجيز، ففي ذاك الجواب إرغامه. وإن كان عنده مسائل كثيرة نظر فيها أبو حنيفة على حسب ما يتسع له الوقت، ويجيب عندما يتضح له وجه الجواب.
فأما ابن عيينة فكان من الفريق الذين يكرهون أن يفتوا (وقد بين الأستاذ ذلك في "التأنيب"
(1)
) فكأنه كره قول أبي حنيفة: "هاتها"، لما يشعر به من
(1)
(ص 156).
الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة. وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالم ــ إذا سئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه ــ أن يفتي، للأمر بالتبليغ والنهي عن كتمان العلم، ولئلّا يبقى الناسُ حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في [1/ 11] قضاياهم، فيضطرهم ذلك إلى ما فيه فساد العلم والدين.
ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني، وإن حمدنا الفريق الأول حيث يكفّ أحدُهم عن الفتوى مبالغةً في التورُّع واتكالًا على غيره حيث يوجد. فأما الجرأة فمعناها الإقدام، والمقصود هنا كما يوضّحه السياق وغيره: الإقدام على الفتوى؛ فمعنى الجرأة على الله هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله. وهذا إذا كان عن معرفةٍ موثوقٍ بها فهو محمود، وإن كرهه المبالغون في التورُّع كابن عيينة.
وقد جاء عن ابن عمر أنه قال: "لقد كنت أقول: ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمتُ أنه أوتي علمًا"
(1)
. وعنه أيضًا أنه قال: أكثر أبو هريرة. فقيل له: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا
(2)
؟ راجع "الإصابة"
(3)
(ترجمة ابن عباس وترجمة أبي هريرة).
وإقدام أبي حنيفة كان من الضرب المحمود. وقد روى الخطيب نفسه
…
الحكايتين اللتين ذكرهما الأستاذ في "التأنيب". فهذا وغيره يدلّ على
(1)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية": (1/ 320).
(2)
أخرجه أبو داود (1261)، وابن خزيمة (1120)، والبيهقي (3/ 45).
(3)
(4/ 147 و 7/ 441).
بُعد أبي حنيفة عن الجرأة المذمومة. فأما إذا علمنا أن ابن عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة، فإن ذلك يرشدنا إلى حمل تلك المقالة على معنى آخر أدنى إلى الصواب، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى باب عظيم النفع في فهم ما يُنقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض.
وحاصله: أن أكثر الناس مُغْرَون بتقليد من يعظُم في نفوسهم والغلوِّ في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ، والدليل قائم على خلاف قوله في كذا، فدلَّ ذلك على أنه أخطأ، ولا يحلّ لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه= قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه، فالظاهر أنه قد عَرف ما يدفع دليلَكم هذا. فإن زاد المنكرون فأظهروا حُسْن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلوّ متبعيه. خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفَّهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة، فقال:"والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيَّاه تطيعون أم هي". أخرجه البخاري في "الصحيح"
(1)
من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار. [1/ 12] فلم يؤثِّر هذا في كثير من الناس، بل رُوي أن بعضهم أجاب قائلًا:"فنحن مع من شهدْتَ له بالجنة يا عمار"
(2)
.
فلهذا كان من أهل العلم والفضل مَن إذا رأى جماعةً اتبعوا بعض
(1)
(7100، 7101).
(2)
أخرجه الطبري في "تاريخه": (3/ 27) وفي سنده سيف بن عمر الضبّي أخباريّ متروك.
الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم اتباعه فيه ــ إمّا لأنّ حالهم غير حاله، وإما لأنه يراه أخطأ ــ أطلق كلمات يظهر منها الغضُّ مِن ذاك الفاضل، لكي يكفَّ الناس عن الغلوِّ فيه الحامل لهم على اتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه. فمِنْ هذا ما في "المستدرك" (2 ص 329) " .... عن خيثمة قال: "كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في نفر، فذكروا عليًّا، فشتموه، فقال سعد: مهلًا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فقال بعضهم: فوالله إنه كان يبغضك ويُسَمِّيك
(1)
"الأخنس". فضحك سعد حتى استعلاه الضحك، ثم قال: أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه ثم لا تبلغ ذلك أمانته .... ". قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، وأقرَّه الذهبي.
وفي "الصحيحين"
(2)
وغيرهما عن عَليّ رضي الله عنه قال: "ما سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع أبويه إلا لسعد بن مالك (هو سعد بن أبي وقاص) فإني سمعته يقول يوم أحد: "يا سعد ارمِ فداك أبي وأمي".
وتُروى عن عَليّ كلمات أخرى من ذا وذاك. وكان سعد قد قعد عن قتال البغاة، فكان عَليّ إذا كان في جماعة يخشى أن يتّبعوا سعدًا في القعود ربما أطلق غير كاذب كلماتٍ تُوهم الغضَّ من سعد. وإذا كان مع مَن لا يخشى منه القعود، فذكر سعدًا، ذَكَر فضله.
ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكًا من إطلاق كلمات فيها غضٌّ من مالك، مع ما عُرف عن الشافعي من تبجيل
(1)
في المطبوعة: "وسميك". والصواب ما أثبتنا من المستدرك.
(2)
البخاري (4059)، ومسلم (2411).
أستاذه مالك. وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال: "مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين"
(1)
كما يأتي في ترجمة مالك إن شاء الله تعالى
(2)
.
ومنه ما تراه في كلام مسلم في مقدمة "صحيحه"
(3)
مما يظهر منه الغضُّ الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو البخاري، وقد عُرِف عن مسلم تبجيلُه للبخاري.
وأنت إذا تدبّرتَ تلك الكلمات وجدتَ لها مخارج مقبولة، وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد
(4)
.
وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حيّ من "تهذيب التهذيب"
(5)
كلمات قاسية أطلقها بعض [1/ 13] الأئمة فيه مع ما عُرِف من فضله، وفيها:"قال أبو صالح الفراء: ذكرت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئًا من أمر الفتن فقال: ذاك يشبه أستاذه يعني الحسن (بن صالح) بن حيّ، فقلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ قال: لِمَ يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا، فتتبعهم أوزارهم؛ ومن أطراهم كان أضرَّ عليهم".
أقول: والأئمة غير معصومين من الخطأ والغلط، وهم إن شاء الله تعالى
(1)
انظر "تهذيب التهذيب": (10/ 8).
(2)
من كتابنا هذا برقم (183).
(3)
(1/ 28 - 32).
(4)
وقد ذكر المصنف هذا المعنى أيضًا في كتاب "العبادة"(ص 82 - 84).
(5)
(2/ 286).
معذورون مأجورون فيما أخطؤوا فيه، كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بذل الوسع في تحرِّي الحق؛ لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصير يؤاخذون عليه، أو تقصير في زجر أتباعهم عن الغلوِّ في تقليدهم.
على أن الأستاذ إذا أحبَّ أن يسلك هذه الطريق لا يضطر إلى الاعتراف بأن ابن عيينة كان يعتقد أن أبا حنيفة أخطأ في بعض مقالاته، بل يمكنه أن يقول: لعلّ ابن عيينة رأى أناسًا قاصرين عن رتبة أبي حنيفة، يتعاطَون مثل ما كان يقع منه من الإكثار من الفتوى والإسراع بها، غير معترفين بقصورهم، اغترارًا منهم بكثرة ما جمعوا من الأحاديث والآثار؛ فاحتاج ابن عيينة في ردعهم إلى تلك الكلمة القاطعة لشغبهم. والله أعلم.
* * * *