الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخليلي متأخرجدًّا عن زمن بشار كما مرَّ، ولا ندري إلى ماذا استند في قوله:«رضيَتْه الحنفية بخراسان» . وهَبْه ثبَتَ الرضا، فمَنْ حنفيةُ خراسان في ذلك الزمان؟ وقد يكونون رضوه في رأيه، ولا يدرون ما حاله في الحديث؛ كما رضي أهل المغرب أصبغ بن خليل، وقد مرَّت ترجمته
(1)
.
وقد كان يمكن الأستاذ أن يقول: ذكروا أن أبا زُرْعة الرازي كذّبه، ولا ندري ما الذي اعتمده في تكذيبه. وكلام أبي حاتم يعطي أن بشارًا صدوق إلا أنه مضطرب الحديث. ويقوِّي ذلك رضا حنفية خراسان به، والتصديق يقدَّم على التكذيب المبهم. والله أعلم.
لكن الأستاذ لا يرى لأئمة السنة حقًّا ولا حُرْمة، ولا يرقُبُ فيهم إلًّا ولا ذمة. لا يرعى تقوى ولا تقية، ولا يرى أن في أهل الحق بقية، فيدع للصلح بقية، فلندعه يصرِّح أو يَكْني، وعلى أهلها براقشُ تَجْني!
153 - عبيد الله بن محمد بن حمدان أبو عبد الله ابن بطة العكبري
.
في «تاريخ بغداد» (13/ 413 [441]) عنه: «حدثنا محمد بن أيوب بن المعافى البزاز قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: وضع أبو حنيفة أشياء في العلم مضغُ الماء أحسن منها. وعرضت يومًا شيئًا من مسائله على أحمد بن حنبل، فجعل يتعجب منها، ثم قال: كأنه هو يبتدئ الإسلام» .
قال الأستاذ (ص 148): «من أجلاد الحشوية. له مقام عندهم إلا أنه لا يساوي
(1)
رقم (55).
فلسًا! وهو الذي روى حديث ابن مسعود: «كلم الله تعالى موسى عليه السلام يوم كلَّمه وعليه جبة صوف، وكساء صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي» ، فزاد فيه:«فقال: من ذا العبراني الذي يكلِّمني من الشجرة؟ قال: أنا الله» . والتهمة لاصقه به لا محالة، لانفراده بتلك الزيادة، كما يظهر من طرق الحديث في «لسان [1/ 339] الميزان» وغيره. وما فعل ذلك إلا ليلقي في رُوع السامع أن كلام الله تعالى من قبيل كلام البشر، بحيث يلتبس على السامع كلامه تعالى بكلام غيره. تعالى الله عن مزاعم المشبِّهة في إثبات الحرف والصوت له تعالى. وكُتُبه من شرِّ الكتب، وله طامات».
أقول: أما ذاك الحديث فيظهر أن ابن بطة لم يذكر تلك الزيادة على أنها من الحديث، وإنما ذكرها على جهة الاستنباط والتفسير أخذًا من الحديث ومن قول الله تبارك وتعالى في شأن موسى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]. وقوله عز وجل: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 11 - 12]. وقوله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 8 - 9].
وابن بطة كغيره من أئمة السنة بحق يعتقدون أن الله تبارك وتعالى يتكلم بحرف وصوت.
وقد نقل بعضُ الحنفية اتفاقَ الأشاعرة والماتريدية على أن الله تعالى كلَّم موسى بحرف وصوت، كما نقلته في قسم الاعتقاديات
(1)
. وذكر
(1)
(2/ 553). والذي نقله هو الآلوسي صاحب «روح المعاني» .
الحنفية في كتابهم المنسوب إلى أبي حنيفة باسم «الفقه الأكبر»
(1)
ما لفظه: «وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى» . قال المغنيساوي في «شرحه» : «والله تعالى قادر أن يكلِّم المخلوق من الجهات أو الجهة الواحدة بلا آلة ويسمعه بالآلة كالحرف والصوت لاحتياجه إليها في فهمه كلامه الأزلي، فإنه على ذلك قدير، لأنه على كل شيء قدير» .
وكما يحتاج موسى إلى الحرف والصوت، يحتاج إلى أن يكون بلغته وأن يكون على وجه يأنس به. فعلى كل حال قد دل الكتاب والسنة كالآيات المتقدمة وسياق الحديث على أن الله تعالى كلَّم موسى بحرف وصوت، وظهر بما تقدَّم أنه كلَّمه بلسانه العبراني على الوجه الذي يأنس به. ودلت الآية الثالثة على أن موسى سمع الكلام، فقال في نفسه إن لم يقل بلسانه:«من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟ » فأجيب بقول الله تعالى: {إِنَّهُ
(2)
أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9]. فذكر ابنُ بطة ذلك على وجه الاستنباط والتفسير، واعتمد في رفع الالتباس على [1/ 340] قرينة حالية مع علمه بأن الحديث مشهور؛ فجاء مَن بعده، فتوهَّم أنه ذكر ذاك الكلام على أنه جزء من الحديث. ولابن بطة أسوة فيمن اتفق له مثل ذلك من الصحابة وغيرهم، كقول ابن مسعود مع حديث الطِّيَرة:«وما مِنّا إلّا» ، ومع حديث التشهد: «إذا قلتَ هذا
…
»، ومع حديث آخر: «ومن مات يشرك بالله شيئًا
(1)
(ص 20 - مع شرح المغنيساوي).
(2)
الأصل: «إني» . [ن].
دخل النار». وأمثال هذا كثير، قد أُفردت بالتأليف، كما تراه في الكلام على قسم المدرج من «تدريب الراوي»
(1)
وغيره.
قول الأستاذ: «تعالى الله عن مزاعم المشبّهة في إثبات الحرف والصوت له تعالى» .
جوابه: بل تعالى الله عن العجز والكذب، وتفصيل هذا في قسم الاعتقاديات
(2)
.
قوله: «وكتبه من شر الكتب» .
جوابه: بل شر الكتب ما تضمن تكذيب خبر الله تعالى وخبر رسوله كذلك.
قوله: «وله طامات» .
إن كان يريد ما يتعلق بالعقائد فقد عُلِم جوابه مما مرَّ، وإن أراد ما يتعلق بالرواية فدونك النظرَ فيه:
ذكر الخطيب في «تاريخه»
(3)
ابنَ بطة وحكى أشياء انتقدت عليه في الرواية، فتعقبه ابن الجوزي في «المنتظم»
(4)
وأنحى باللائمة على الخطيب.
(1)
(2/ 322).
(2)
(2/ 552 - 554).
(3)
(10/ 370).
(4)
(7/ 193 - 197).
قال الخطيب في أول الترجمة: «كان أحد الفقهاء على مذهب أحمد بن حنبل
…
أخبرني الحسن بن شهاب بن الحسن العكبري (بها) حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان ابن بطة، حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر بن الخليل بأردبيل، حدثنا رجاء بن مرجَّى بسمرقند
…
». ثم حكى عن عبد الواحد بن علي بن بَرهان، وقد مرَّت ترجمته
(1)
«قال: لم أر في شيوخ أصحاب الحديث ولا في غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة» .
[1/ 341] ثم حكى عن أبي حامد أحمد بن محمد الدَّلْوي وهو أشعري «قال: لما رجع أبو عبد الله ابن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة، فلم يُرَ خارجًا منه في سوق ولا رُئي مفطرًا إلا في يوم الأضحى والفطر. وكان أمّارًا بالمعروف، ولم يبلغه خبر منكر إلا غيَّره ــ أو كما قال» . وفي أواخر الترجمة: «أخبرنا العتيقي قال: سنة 387 فيها توفي بعكبرا أبو عبد الله ابن بطة في المحرم، وكان شيخًا صالحًا مستجاب الدعوة» .
وذكر الخطيب أمورًا انتقدت على ابن بطة فيما يتعلق بالرواية.
الأول: أنه روى عن حفص بن عمر الأردبيلي عن رجاء بن مرجَّى «كتاب السنن» له. فذكر الخطيب أن أبا ذر عَبْد بن أحمد الهروي كتب إليه من مكة أنه سمع نصر الأندلسي ــ قال: وكان يحفظ ويفهم ــ فذكر قصةً حاصلها أنه سمع من ابن بطة «كتاب السنن» لرجاء بن مرجَّى من ابن بطة عن الأردبيلي عن رجاء، فذكر ذلك للدارقطني، فقال: «هذا محال. دخل رجاء بن مرجَّى بغداد سنة أربعين، ودخل حفص بن عمر الأردبيلي سنة
(1)
رقم (149).
سبعين ومائتين، فكيف سمع منه؟ ».
وذكر الخطيب عن ابن برهان قصةً حاصلها: أن ابن بطة ورد بغداد، فحدَّث عن حفص بن عمر الأردبيلي عن رجاء بن مرجَّى بـ «كتاب السنن» قال:«فأنكر ذلك أبو الحسن الدارقطني، وزعم أن حفصًا ليس عنده عن رجاء، وأنه يَصْغُر عن السماع منه، فأبردوا بريدًا إلى (أردبيل)، وكان ابن حفص بن عمر حيًّا هناك، وكتبوا إليه يستخبرونه عن هذا الكتاب، فعاد جوابه بأن أباه لم يرو عن رجاء بن مرجَّى ولا رآه قط، وأنَّ مولده كان بعد موته بسنين» . قال ابن بَرهان: «فتتبع ابنُ بطة النسخ التي كُتبت عنه، وغيَّر الرواية، وجعلها عن ابن الراجيان عن (فتح بن) شُخْرُف
(1)
عن رجاء.
أجاب ابن الجوزي بأن أبا ذرّ أشعري، وأن ابن بَرْهان مبتدع على ما تقدَّم في ترجمتيهما
(2)
.
ولا يخفى سقوط هذا الجواب، فإن أبا ذرّ ثقة كما مرَّ، وابن بَرهان يدلُّ سياقُه للحكاية على أنه صادق فيها، ورواية ابن بطة عن الأردبيلي عن رجاء ثابتة، كما تقدم أن الخطيب روى عن الحسن بن شهاب عن ابن بطة بهذا السند، والحسن بن شهاب حنبلي ثقة. ورجاء توفي ببغداد وكان قد [1/ 342] أقام بها آخر عمره مدة، والأردبيلي توفي سنة 339، وبين وفاتيهما تسعون سنة، يضاف إليها مدة إقامة رجاء ببغداد آخر عمره؛ لأن الأردبيلي
(1)
الفتح بن شُخْرُف الكشي أبو نصر (ت 373). ترجمته في «تاريخ بغداد» : (12/ 384 - 388)، و «تاريخ الإسلام»:(6/ 585 - 586).
(2)
برقم (151، 149).
إنما سمع منه ــ إن كان سمع ــ بسمرقند على ما رواه الخطيب عن الحسن بن شهاب. وأضف إلى ذلك مقدار سنّ الأردبيلي الذي مكَّنه أن يرحل من بلده إلى سمرقند حيث سمع رجاء، وهذان المقداران يمكن حزرهما بعشرين أو ثلاثين سنة تضاف إلى التسعين التي بين الوفاتين. وعلى هذا يكون الأردبيلي بلغ من العمر مائة وبضع عشرة سنة على الأقل، فيكون مولده قريبًا من سنة 220 على الأقل، وهذا باطل حتمًا.
وبيانُه: أن عادة الذهبي في «تذكرة الحفاظ» أن يذكر من مشايخ الرجل أقدمهم، وإنما قال في ترجمة الأردبيلي:«سمع أبا حاتم الرازي، ويحيى بن أبي طالب، وعبد الملك بن محمد الرقاشي، وإبراهيم بن ديزيل»
(1)
. وهؤلاء كلهم ماتوا بعد سنة 274، فهل رحل الأردبيلي وسمع سنة 230، فسمع من رجاء بسمرقند، ثم رقد بعد ذلك أربعين سنة، ثم استيقظ فسمع من الذين سمَّاهم الذهبي؟ !
فالوهم لازمٌ لابن بطة حتمًا، وسببه: أنه ساح في أول عمره، فكان يسمع ولا يكتب، ولم يكن يؤمّل أن يحتاج آخر عمره إلى أن يروي الحديث، ولهذا لم تكن له أصول. وفي «لسان الميزان»
(2)
: «قال أبو ذر الهروي: جهدتُ على أن يخرج لي شيئًا من الأصول فلم يفعل، فزهدتُ فيه» . وبعد رجوعه من سياحته انقطع في بيته مدة، ثم احتاج الناس إلى أن يسمعوا منه، فكان يتذكَّر ويروي على حسب ظنه، فيَهِم. وكأنه سمع «سنن رجاء بن
(1)
«تذكرة الحفّاظ» : (3/ 850 - 851).
(2)
(5/ 342).
مرجَّى» من الأردبيلي عن رجل، فتوهم بأخرة أن الأردبيليَّ رواها عن رجاء نفسه. وقد رجع ابن بطة عن هذا السند لما تبيَّن له أنه وهم. والله أعلم.
الأمر الثاني: ذكر الخطيب عن ابن بَرهان قال: «قال لي الحسن بن شهاب سألت: أبا عبد الله ابن بطة: أسمعت من البغوي حديث علي بن الجعد؟ فقال: لا» . قال ابن بَرْهان: «وكنت قد رأيت في كتب ابن بطة نسخةً بحديث علي بن الجعد قد حكَّكها وكتب بخطه سماعه عليها» .
أقول: تفرد بهذا ابن بَرْهان، ولم يرو ابن بطة حديثَ عليِّ بن الجعد عن البغوي، وابن بَرْهان لا يقبل منه ما تفرّد به، ولعله وَهِم، كأن كان الخط غير خط ابن بطة فاشتبه على ابن برهان. [1/ 343] وكأن يكون ابن بطة إنما كتب «هذا الكتاب من مسموعاتي» أو نحو ذلك، يعني أنه سمعه من غير البغوي، فوهم ابن برهان.
الثالث: ذكر الخطيب عن ابن برهان قال: وروى ابن بطة عن أحمد بن سلمان النجَّاد عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي نحوًا من مائة وخمسين حديثًا، فأنكر ذلك عليه علي بن محمد بن ينال، وأساء القول فيه، وقال: إن النجاد لم يسمع من العطاردي شيئًا، حتى همَّت العامة أن توقع بابن ينال، واختفى. قال: وكان ابن بطة قد خرَّج تلك الأحاديث في تصانيفه، فتتبَّعها، وضرب على أكثرها، وبقي بقيتها على حاله».
أقول: قد مرَّ الكلام في ابن بَرْهان، ولكن دخول الوهم عليه في هذا بعيد. والنجاد يقال: إنه ولد سنة 253، وسمع من الحسن بن مُكْرَم المتوفى سنة 274، ورحل إلى البصرة وسمع بها من أبي داود المتوفى سنة 275.
ووفاة العطاردي سنة 272، فلا مانع من أن يكون النجَّاد سمع من العطاردي. فإن قبلنا ما حكاه ابن برهان عن ابن ينال، فلا مانع من أن يكون للنجَّاد إجازة من العطاردي، ولابن بطة إجازة من النجاد، فروى ابن بطة تلك الأحاديث بحق الإجازة، فكان ماذا؟ فأما حكُّه لبعضها، فلعله وجدها أو ما يغني عنها عنده بالسماع من وجه آخر، فحكَّ ما رواه بالإجازة، وأثبت السماع.
الرابع: قال الخطيب: «حدثني أحمد بن الحسن بن خيرون قال: رأيت كتاب ابن بطة بـ «معجم البغوي» في نسخة كانت لغيره، وقد حكَّك اسمَ صاحبها وكتب اسمه عليها». وفي «لسان الميزان»
(1)
عن ابن عساكر قال: «وقد أراني شيخنا أبو القاسم السمرقندي بعضَ نسخة ابن بطة بـ «معجم البغوي» ، فوجدت سماعه فيه مُصْلَحًا بعد الحكِّ، كما حكاه الخطيب عن ابن خيرون».
أجاب ابن الجوزي بقوله: «أتراه إذا حصلت للإنسان نسخة، فحكَّ اسم صاحبها وكتب سماع نفسه ــ وهي سماعه ــ أن يوجب هذا طعنا؟ » .
أقول: هذا بمقتضى العادة يدلّ أنه لم يكن لابن بطة أصلٌ بسماعه «المعجم» من البغوي، فإنه لو كان له أصل به لكان اسمُه كُتِبَ وقتَ السماع. فإن كان سمع في ذاك الأصل مع آخر؛ فإنه يُكتَب سماعُهما معًا، فما الحاجة إلى الحكِّ ثم الكتابة مرة أخرى؟
(1)
(5/ 342). والمقصود بـ «معجم البغوي» : «معجم الصحابة» وهو مطبوع مرتين، أتمّها في أربعة مجلدات نشرتها مبرّة الآل والأصحاب سنة 1432 هـ.
وقد قال الخطيب: «قال [1/ 344] لي أبو القاسم الأزهري: ابن بطة ضعيف ضعيف ليس بحجة، عندي عنه «معجم البغوي» ولا أخرج عنه في الصحيح شيئًا. قلت له: كيف كان كتابه بـ «المعجم» ؟ فقال: لم نر له أصلًا، وإنما دفع إلينا نسخة طريَّة بخط ابن شهاب، فنسخنا منها، وقرأنا عليه». وتقدم عن أبي ذر الهروي أنه جهد أن يُخرج له ابن بطة شيئًا من أصوله فلم يفعل.
وذكر ابن بطة فيما رواه ابن الجوزي قصة سماعه «المعجم» من البغوي وفيها: «ثم قرأنا عليه «المعجم» في نفر خاص في مدة عشرة أيام أو أقل أو أكثر، وذلك في سنة خمس عشرة أو ست عشرة» والظاهر أنه لو كان أصل سماعه عنده لكان التاريخ مقيدًا فيه فلا يحتاج إلى الشك. فأما قول ابن الجوزي: «قرأت بخط أبي القاسم ابن الفراء
…
قابلت أصل ابن بطة «المعجم» فرأيت سماعه في كل جزء إلا أني لم أر الجزء الثالث أصلًا» = فذاك هو السماع الملْحَق الذي ذكره ابن خيرون وابن عساكر.
فالذي يتحصل أنه لم يكن عند ابن بطة أصل سماعه بـ «المعجم» ، فإما أن يكون كان له أصل فضاع أو تلف، وإما أن يكون سمع في نسخة لغيره لم تَصِرْ إليه، وكأنه ظفر بنسخة أخرى وثِقَ بصحتها، فتسمَّح في الرواية عنها. والله أعلم.
الخامس: ذكر الخطيب عن أبي القاسم التنوخي عن أبي عبد الله بن بكير قال: «ابن بطة لم يسمع «المعجم» من البغوي. وذلك أن البغوي حدَّث به دفعتين: الأولى منها قبل سنة ثلاثمائة (قبل مولد ابن بطة) في مجلس عام، والأخرى بعد سنة ثلاثمائة في مجلس خاص لعلي بن عيسى (الوزير)
وأولاده». قال الخطيب: «وفي هذا القول نظر؛ لأن محمد بن عبد الله بن الشخِّير قد روى عن البغوي «المعجم» ، وكان سماعه بعد الثلاثمائة بسنين عدة. ولعل ابن بكير أراد بالمرتين قبل سنة عشر وثلاثمائة وبعدها
…
ومما يدل على ذلك أن أبا حفص ابن شاهين كان من المكثرين عن البغوي، وكذلك أبو عمر بن حَيَّوَيْه وابن شاذان، ولم يكن عند أحد منهم «المعجم» ، فهذا يدل على أن رواية العامة كانت قبل العشر بسنين عدة».
أجاب ابن الجوزي بأن التنوخي كان معتزليًّا يميل إلى الرفض.
أقول: هو صدوق، ولكن قد دل ما ذكره الخطيب أن سماع ابن الشخِّير كان بعد [1/ 345] الثلاثمائة بسنين عدة على أن البغوي حدَّث بـ «المعجم» دفعة ثالثة، ولعلها كانت لنفرٍ خاص، فلم يقف عليها ابن بكير، ولم يحضرها ابن شاهين وابن حَيَّوَيه وابن شاذان. وقد تكون هناك دفعة رابعة خاصة أيضًا.
وقد ذكر ابن بطة ــ فيما رواه ابن الجوزي ــ قصةً حاصلها: أن أباه بعثه وهو صغير مع شريكٍ له من أهل بغداد، فأدخله على البغوي واسترضوه أن يحدِّثهم بـ «المعجم» في نفر خاص. قال: «ثم قرأنا عليه المعجم
…
» إلى آخر ما تقدم آنفا. وفي القصة: «وأذكره وقد قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني سنة 224
(1)
، فقال المستملي: خذوا، هذا قبل أن يولد كل محدِّث على وجه الأرض! وسمعت المستملي وهو أبو عبد الله بن مهران يقول له: من ذكرت يا ثلث
(2)
الإسلام؟ ». والظاهر أن هذا كان في مجلس
(1)
(ط): «244» خطأ.
(2)
كذا في (ط)، و «المنتظم»:(7/ 196) و «طبقات الحنابلة» : (2/ 145)، ونسخة من «تاريخ دمشق»:(38/ 112). ووقع في نسخة من «تاريخ ابن عساكر» ، و «تاريخ الإسلام»:(8/ 612) للذهبي، و «السير»:(16/ 530): «يا ثَبْت الإسلام» .
عام حدَّث فيه البغوي بأحاديث غير المعجم الذي اختص به ابن بطة ومن معه. ويشهد لذلك أن ابن بطة قد روى عن البغوي أحاديث ليست في «المعجم» كما يأتي. والله أعلم.
السادس: قال الخطيب: شاهدت عند حمزة بن محمد بن طاهر الدقَّاق نسخةً بكتاب محمد بن عُزَيز في (غريب القرآن) وعليها سماع ابن السُّوسَنْجِردي من ابن بطة عن ابن عُزَيز، فسألت حمزة عن ذلك؟ فأنكر أن يكون ابن بطة سمع الكتاب من ابن عُزَيز، وقال: ادَّعى سماعه ورواه».
أقول: ليس هناك ما يدفع دعواه، فقد أدرك ابنَ عُزَيز إدرا كًا بيّنًا.
السابع: قال الخطيب: «قلت: وكذلك ادّعى سماع كتب أبي محمد بن قتيبة ورواها عن شيخ سماه: ابنَ أبي مريم. وزعم أنه دينَوَري حدَّثه عن ابن قتيبة. وابن أبي مريم هذا لا يعرفه أحد من أهل العلم، ولا ذكره سوى ابن بطة. والله أعلم» .
أقول: كأن ابن بطة لقي في سياحته رجلًا دينَوَريًّا ذكر له أنه سمع كتب ابن قتيبة، ويكون هذا الدينوري سياحًا لم يتصدّ للرواية وإنما اتفق أن لقيه ابن بطة في سياحته.
الثامن: ذكر الخطيب عن ابن بَرهان قال: «قال لي محمد بن أبي الفوارس: روى ابن بطة عن البغوي عن مصعب بن عبد الله عن مالك عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم» . قال
(1)
.
أقول: تقدم أن ابن بَرْهان ليس بعمدة، ولعله سمع من [ابن]
(2)
أبي الفوارس يقول: بلغني عن ابن بطة، أو نحو ذلك. ولو روى ابن بطة هذا الحديث لكان الظاهر أن يشتهر عنه وينتشر. ولو صح عنه لحُمِل على الوهم، فإنه سمع من البغوي وهو صغير، ولم يكن له أصول، إنما كان يحمل على حفظه فيَهِم، فيحتمل أن يكون سمع الحديث من البغوي بسند آخر، وسمع منه حديثًا أو أكثر بهذا السند، فوهم.
التاسع: قال الخطيب: «حدثني أحمد بن محمد العتيقي بلفظه من أصل كتابه وكتبه لي بخطه قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان الفقيه (ابن بطة) بعكبرا، حدثنا عبد الله بن محمد البغوي، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، حدثنا مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا» الحديث. وهذا الحديث أيضًا باطل من رواية البغوي عن مصعب. ولم أره عن مصعب عن مالك أصلًا. والله أعلم».
(1)
قال الذهبي معلقًا على هذا الموضع في «السير» : (16/ 531): «قلت: أفحشَ العبارة، وحاشى الرجل من التعمّد لكنه غلط، ودخل عليه إسناد في إسناد» . وبنحوه قال في «تاريخ الإسلام» : (8/ 614). وهو ما خلص إليه المؤلف.
(2)
سقطت من (ط).
أقول: الحديث في «الصحيحين» وغيرهما
(1)
من رواية جماعة عن مالك، ولا يبعد أن يكون عند مصعب أيضًا فلا يرويه عنه إلا البغوي. لكن يبعد جدًّا أن يكون الحديث كان عند البغوي من هذا الوجه العالي، فلا يرويه عنه إلا ابن بطة الذي حُمِل إليه وهو صغير، ولم يطل مقامه عنده. فالحكم بوهم ابن بطة في هذا واضح.
ولَنِعْم ما قال الذهبي في «الميزان»
(2)
: «إمام ذو أوهام
…
ومع قلة إتقان ابنِ بطة في [1/ 347] الرواية كان إمامًا في السنة، إمامًا في الفقه، صاحب أحوال وإجابةِ دعوة
(3)
رضي الله عنه»
(4)
.
وعليك أن لا تقصر نظرك على هذه الأمور، فترى في اجتماعها واستضعافك لبعض الأجوبة ما يحملك على سوء الظن بابن بطة؛ بل ينبغي لك أن تنظر أيضًا إلى حاله في نفسه، وقدِّم قولَ ابن بَرهان المعتزلي نفسه:«لم أر في شيوخ أصحاب الحديث ولا غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة» . وقولَ أبي حامد الدلوي الأشعري: «
…
ولا رئي مفطرًا إلا في يوم الأضحى والفطر. وكان أمَّارًا بالمعروف، لم يبلغه خبرُ منكر إلا غيَّره». وقولَ العتيقي: «
…
كان شيخًا صالحًا مستجاب الدعوة».
(1)
البخاري (100)، ومسلم (2673)، والترمذي (2652)، وأحمد (6511)، وابن ماجه (52).
(2)
(3/ 412).
(3)
(ط): «ودعوة» .
(4)
وقال في «السير» : «قلت: لابن بطة مع فضله أوهام وغلط» . وقال في «العلو للعلي الغفار» (ص 141 طبع الأنصار): «صدوق في نفسه، وتكلموا في إتقانه» . [المؤلف].