الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولو قيل: إن الخطيب إنما ختم ترجمة أبي حنيفة بهذه الرؤيا نظرًا إلى هذا التأويل كعادته في ختم التراجم بالرؤى التي فيها بشارة لأصحابها، كما فعل في ترجمة محمد بن الحسن وغيرها، لكان أقوى بكثير من كثير من دعاوي الأستاذ. والله الموفق.
164 - علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن الدارقطني:
ذكر الأستاذ (ص 167) ما روي عن الدارقطني من نفيه سماع أبي حنيفة من أنس ثم قال: «وهو الذي يستبيح أن يقول: إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ثلاثتهم ضعفاء. وأين هو من محمد بن عبد الله الأنصاري الذي يقول في إسماعيل: ما ولي القضاء من لدن عمر بن الخطاب إلى اليوم أعلم من إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. يعني بالبصرة؟ وأين هو أيضًا من محمد بن مخلد العطار الحافظ الذي ذكر حماد بن أبي حنيفة في عداد الأكابر الذين رووا عن مالك؟ وأين هو أيضًا من هؤلاء الذين أثنوا على أبي حنيفة
…
؟ والدارقطني هو الذي يهذي في أبي يوسف بقوله: أعور بين عميان. وهو الأعمى المسكين بين عُور، حيث ضلَّ في المعتقد، وتابع الهوى في الكلام على الأحاديث واضطرب».
وقال (ص 178): «ومن طرائف صنيع الخطيب أيضًا روايته عن الدارقطني أنه
قال عن أبي يوسف: أعور بين عميان، بعد أن ذكر عنه من رواية البرقاني أنه قال: هو أقوى من محمد بن الحسن. والدارقطني هو الذي يذكر محمد بن الحسن في عداد الثقات الحفاظ حيث يقول في «غرائب مالك» عن حديث الرفع عند الركوع: حدث به عشرون نفرًا من الثقات الحفاظ منهم محمد بن الحسن الشيباني. كما تجد نص هذا النقل منه في «نصب الراية» (1/ 408) كما سبق. وقد اعترف الدارقطني في رواية البرقاني بأن أبا يوسف أقوى من محمد، فيكون أبو يوسف حافظًا ثقةً وفوق الثقة عنده. فإذا قال في بعض المجالس في حق مثله: أعور بين عميان ــ كما حكى الخطيب ــ يكون قوله هذيانًا بحتًا وسفهًا صرفًا. فلو عارضه أحد [1/ 360] أصحابنا قائلًا: بل هو الأعمى بين عُور، ما بعد عن الصواب؛ لأن الله سبحانه أعمى بصيرة هذا المتسافه في صفات الله سبحانه حتى دوَّن في صفات الله سبحانه ما لا يدوِّنه إلا مجسِّم، وهو حديث الشاب الجعد القطط، وحديث الإقعاد الذي يلهج هو به؛ كما أعمى بصيرة كثير من زملائه وهو معهم في الفروع، فإذن هو فاقد البصر في المعتقد كما أنه فاقد البصر في الفروع. ومن يكون فاقد البصرين يكون هو الأعمى بين أناس عُور لم يفقدوا إلا إحداهما بفقدهم التبصر في بعض الفروع فقط. راجع ما ذكره المحدث البارع الشيخ عبد العزيز الفَنْجابي الهندي مؤلف «نبراس الساري في أطراف البخاري» في حاشيته على «نصب الراية» (3/ 8) لتطلع على جلية أمر الدارقطني في الثقة والأمانة، نسأل الله السلامة».
والذي في تلك الحاشية مع إصلاح بعض الأخطاء: «من مارس كتابَه علم أنه قلما يتكلم على الأحاديث، إلا حديثًا خالف الشافعيَّ فيُظهِر عَواره، أو وافقه فيصححه إن وجد إليه سبيلًا. لا أقول: إنه يفعل ذلك بهوى النفس، ولكن إذا كان ثقةً ضعَّفه بعضهم، أو ضعيفًا فيه كلام لبعضهم، أو ضعيفًا وثَّقه بعضهم، أو وجد مجهولًا= لا يترقب، ويُظهر طرفه الموافق لإمامه
…
وهذا محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى القاضي رجل واحد يوثقه في حديث
طهارة المني (ص 46) ويقول: ثقة في حفظه شيء. ويشدِّد القولَ فيه في حديث شَفْع الإقامة (ص 89) ويقول: ضعيف سيّئ الحفظ. وفي حديث القارن يسعى سعيين (ص 273) يقول: رديء الحفظ كثير الوهم، كأنه عليه غضبان وله غائظ»
أقول: أما استباحة أبي الحسن قولَه: «ثلاثتهم ضعفاء» فلم ينفرد بها والكلام في أبي حنيفة أشهر من أن نحتاج إلى ذكره. وحماد ترجمته في «لسان الميزان» (ج 2 ص 346)
(1)
. ودعوى أن ابن مخلد ذكره في الأكابر الذين رووا عن مالك فيها نظر، كما مرَّ في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت
(2)
. فإن ثبت ذلك فكِبَرُ العمر لا يستلزم الثقة في الرواية، وذاك الحديث باطل لم يروه حماد ولا أبوه، فإن كان خفي على ابن مخلد بطلانُه دلَّ ذلك على ضعف نقده، وإن [1/ 361] كان عَرَف ذلك وتسامح فلأن يتسامح في ذكر حماد أقرب. وكذلك إسماعيل ترجمته في «اللسان» (ج 1 ص 398)
(3)
. وقد زعم مصحّحه الحنفي أنه أخرج له أبو داود والترمذي كأنه يزعم أنه هو إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان! وهذا من عجائب هؤلاء القوم!
والأنصاري ــ إن صح أنه قال تلك الكلمة ــ تغير تغيرًا شديدًا في آخر عمره، فلعله قال تلك الكلمة حين تغيره؛ على أنه كان مضطربًا في ميله إلى الرأي، كان
(1)
(3/ 267).
(2)
رقم (34).
(3)
(2/ 114).
يتعصب له حتى يلي القضاء، فإذا ولي
(1)
القضاء قضى بالحديث. وكان بينه وبين معاذ بن معاذ نفرة، ذكروا له قضية لمعاذ بن معاذ فأفتى بخلافها، فلما ولي القضاء قضى بقول معاذ! فقيل له في ذلك فقال:«كنت أنظر في كتب أبي حنيفة، فإذا جاء دخول الجنة والنار لم نجد القول إلا ما قال معاذ» .
وأخرج الدارقطني في «السنن» (ص 214)
(2)
حديثًا من طريق محمد بن موسى الحارثي (الإصطخري)، عن إسماعيل بن يحيى بن بحر الكرماني، عن الليث بن حماد الإصطخري، عن أبي يوسف، عن غورك بسنده. قال الدارقطني:«تفرد به غورك عن جعفر، وهو ضعيف جدًّا، ومن دونه ضعفاء» . فروى الخطيب عن بعضهم أنه لما كانت «السنن» تقرأ على الدارقطني بلغ هذا الموضع فقيل له: إن فيهم أبا يوسف فقال: «أعور بين عميان» يريد أن أبا يوسف وإن كان فيه ضعف ما فهو أحسن حالًا من غورك، والليث بن حماد ومن معهما في السند من الضعفاء.
فأما قوله مرة أخرى: إن أبا يوسف أقوى من محمد، فذلك ــ والله أعلم ــ بالنظر إلى حال محمد مطلقًا؛ فإن من الأئمة من يتكلم في محمد، ومنهم من قوَّاه في روايته عن مالك خاصة، كما قاله الذهبي في «الميزان»
(3)
. فمحمد قويّ في روايته «الموطأ» عن مالك خاصة، فأما في بقية حديثه فيرى الدارقطني أن أبا يوسف أقوى منه.
(1)
(ط): «أولي» .
(2)
(2/ 125).
(3)
(4/ 433).
وأما ما حكاه الزيلعي عن كتاب «غرائب الرواة عن مالك» من قوله: «حدَّث به عشرون نفرًا من الثقات الحفاظ منهم محمد بن الحسن
…
» فالجواب عنه من وجهين:
الأول: ما تقدم أن محمدًا قويّ عندهم فيما يرويه في «الموطأ» عن مالك وليِّن فيما عدا ذلك، فلا مانع أن يعده الدارقطني في ذاك الحديث الذي هو عنده في «الموطأ» عن مالك من جملة الثقات الحفاظ، ثم يليِّنه في سائر شيوخه، ويقول: إن أبا يوسف أقوى منه مع لين أبي يوسف [1/ 362] عنده. غاية الأمر أن كلمات الدارقطني تحتاج إلى تقييد بعضها ببعض، وليس في ذلك ما يضره؛ فإن النصوص الشرعية أنفسها قد تحتاج إلى تقييد بعضها ببعض، على أن سياق كلامه في «الغرائب» يدل على التقييد، ولعله كان مع كلمته الأخرى ما يدل على ذلك.
الوجه الثاني: أن قول المحدث: «رواه جماعة ثقات حفاظ» ثم يعدُّهم لا يقتضي أن يكون كلُّ من ذكره بحيث لو سئل عنه ذاك المحدثُ وحدَه لقال: «ثقة حافظ» . هذا ابن حبان قصد أن يجمع الثقات في كتابه، ثم قد يذكر فيهم من يليِّنه هو نفسه في الكتاب نفسه.
وهذا الدارقطني نفسه ذكر في «السنن» (ص 35)
(1)
حديثًا فيه مسح الرأس ثلاثًا، وهو موافق لقول أصحابه الشافعية، ثم قال: «خالفه جماعة من الحفاظ الثقات
…
» فعدَّهم وذكر فيهم شَريكًا القاضي، وأبا الأشهب جعفر بن الحارث، والحجاج بن أرطاة، وجعفر الأحمر. مع أنه قال
(1)
(1/ 89).
(ص 132)
(1)
: «شريك ليس بالقوي فيما يتفرد به» . وجعفر بن الحارث لم أر له كلامًا فيه، ولكن تكلم فيه غيره من الأئمة كابن معين والنسائي. وحجاج بن أرطاة قال الدارقطني نفسه في مواضع من «السنن»:«لا يحتج به»
(2)
، وفي بعض المواضع:«ضعيف»
(3)
. وجعفر الأحمر اختلفوا فيه. وقال الدارقطني كما في «التهذيب»
(4)
: «يعتبر به» . وهذا تليين كما لا يخفى.
ونحو هذا قول المحدّث: «شيوخي كلهم ثقات» أو «شيوخ فلان كلهم ثقات» . فلا يلزم من هذا أن كل واحد منهم بحيث يستحق أن يقال له بمفرده على الإطلاق: «هو ثقة» . وإنما إذا ذكروا الرجل في جملة من أطلقوا عليهم ثقات، فاللازم أنه ثقة في الجملة، أي له حظ من الثقة. وقد تقدم في القواعد
(5)
أنهم ربما يتجوزون في كلمة «ثقة» ، فيطلقونها على من هو صالح في دينه، وإن كان ضعيف الحديث أو نحو ذلك. وهكذا قد يذكرون الرجل في جملة من أطلقوا [1/ 363] أنهم ضعفاء، وإنما اللازم أن له حظًّا ما من الضعف، كما تجدهم يذكرون في كتب الضعفاء كثيرًا من الثقات الذين تُكُلِّم فيهم أيسر كلام.
هذا كله مع أن الدارقطني لو تناقضت بعض كلماته البتة لم يكن في ذلك ما يبيح سوء الظن به، فإن غيره من الأئمة اتفق لهم ذلك. وما أكثر ما
(1)
(1/ 345).
(2)
(1/ 78).
(3)
(2/ 206).
(4)
(2/ 93).
(5)
(1/ 112 - 113).
تجده من التناقض في كلمات ابن معين، كما تقدم في القواعد
(1)
.
وأما الفَنْجابي الذي يخلع عليه الأستاذ لقب (المحدِّث البارع) وينوِّه بكتابه «نبراس الساري» الذي لا أجحد إفادته وإن كان يتمكن من ترتيبه الطالب العادي، فما يظهر من كلامه أن الدارقطني إنما يصحح ما يوافق مذهب الشافعي وإنما يضعف ما يخالفه، ليس كما قال. وقد تقدم ردُّ الدارقطني خبر مسح الرأس ثلاثًا، وهو موافق لمذهب الشافعي. وذكر (ص 42)
(2)
خبرًا فيه الأمر بغسل الإناء من ولوغ الهر فصحَّحه، وهو خلاف مذهب الشافعي. ولذلك نظائر لا أرى حاجةً لتتبعها.
وأما ما ذكره من اختلافِ ظاهرِ كلامه في ابن أبي ليلى، فذلك لاختلاف مقتضى الحال.
ينبغي أن تعلم أن كلام المحدِّث في الراوي يكون على وجهين:
الأول: أن يُسأل عنه، فيجيل فكره في حاله في نفسه وروايته، ثم يستخلص من مجموع ذلك معنى يحكم به.
الثاني: أن يستقرّ في نفسه هذا المعنى، ثم يتكلم في ذاك الراوي في صدد النظر في حديث خاص من روايته.
فالأول هو الحكم المطلق الذي لا يخالفه حكم آخر مثله إلا لتغير الاجتهاد. وأما الثاني فإنه كثيرًا ما ينحى به نحو حال الراوي في ذاك
(1)
(1/ 106 - 110).
(2)
(1/ 63).
الحديث. فإذا كان المحدث يرى أن الحكم المطلق في الراوي أنه صدوق كثير الوهم، ثم تكلم فيه في صدد حديث من روايته، ثم في صدد حديث آخر وهكذا، فإنه كثيرًا ما يتراءى اختلافٌ ما بين كلماته.
فمن هذا أن الحجاج بن أرطاة عند الدارقطني صدوق يخطئ فلا يحتج بما ينفرد به. واختلفت كلماته فيه في «السنن» فذكره (ص 35)
(1)
في صدد حديث وافق فيه جماعةً من الثقات، فعدَّه الدارقطني [1/ 364] في جملة «الحفاظ الثقات» كما مرَّ
(2)
. وذكره (ص 531)
(3)
في صدد حديث أخطأ فيه وخالف مسعرًا وشريكًا فقال الدارقطني: «حجاج ضعيف» وذكره في مواضع أخرى فأكثر ما يقول: «لا يحتج به» .
وعلى هذا يُنزَّل كلامه في ابن أبي ليلى، فإنه عنده صدوق سيئ الحفظ. ففي (ص 46)
(4)
ذكر حديثًا رواه إسحاق الأزرق، عن شريك، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا في طهارة المني. وذكر أن وكيعًا رواه عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس من قوله. وقد رواه الشافعي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار وابن جريج كلاهما عن عطاء عن ابن عباس من قوله. فالحديث صحيح عن ابن عباس من قوله. وقد رواه وكيع ــ وهو من الثقات الأثبات ــ عن ابن أبي ليلى كذلك. ورواه شريك عن ابن أبي ليلى
(1)
(1/ 78).
(2)
(1/ 607).
(3)
(4/ 250).
(4)
(1/ 124 - 125).
فرفعه. فحال ابن أبي ليلى في هذا الحديث جيدة، لأنه في أثبت الروايتين عنه وافق الأثبات، وفي رواية الأزرق عن شريك عنه رفعه، وقد يحتمل أن يكون الخطأ من الأزرق أو من شريك، فإن الأزرق ربما غلط، وشريكًا كثير الخطأ أيضًا. وقد رواه وكيع عن ابن أبي ليلى على الصواب، فلهذا اقتصر الدارقطني على قوله:«لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك. محمد بن عبد الرحمن هو ابن أبي ليلى ثقة في حفظه شيء» .
وفي (ص 89)
(1)
ذكر حديثًا رواه الجبلان سفيان وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلًا، وخالفهما محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فرواه موصولًا، فحاله في هذا الحديث رديئة، فظهر أثر ذلك في كلمة الدارقطني فقال:«ضعيف سيئ الحفظ» .
وفي (ص 273)
(2)
ذكر أحاديث في القارن يطوف طوافًا واحدًا ويسعى سعيًا واحدًا. وهناك روايات عن علي وابن مسعود أنهما قالا: طوافين وسعيين. ثم ذكر من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي أنه «جمع بين الحج والعمرة فطاف لهم طواف واحد (كذا) وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل» . ولا يخفى ما في هذا من التخليط، فهذا هو الذي أغضب الدارقطني، وغاظه يا
(3)
أستاذ! فلذلك قال: «رديء الحفظ كثير الوهم» . فأين اتباع الهوى وأين
(1)
(1/ 241).
(2)
(2/ 261 - 263).
(3)
مكانها بياض في (ط) ولعله سقط أثناء الطبع.