الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما المخالفة في المذهب والتعصُّب للسنة، فلا يخدش في الرواية، كما مرَّ في القواعد
(1)
.
بقي أن الأستاذ قال بعد ما تقدم: «ويقضي على مختَلَقات الخصوم في هذا الكتاب كثرةُ رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة في «المسانيد السبعة عشر» له
…
فأنَّى تصح رواية ضرب ابن المبارك على حديث أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة!».
أقول: الأستاذ يتذرَّع بهذا إلى الطعن في جماعة من الثقات الأثبات: إبراهيم وغيره، كما يأتي في تراجمهم. وذلك يضطرنا إلى مناقشته هنا، فأقول:
[1/ 90] المسانيد السبعة عشر لأبي حنيفة، منها ما جامِعُه مجروح، وما كان جامعه ثقة ففي أسانيده إلى ابن المبارك مجروح أو أكثر، وما عساه يصح إلى ابن المبارك لا يصح
(2)
حَمْله على أنه مما حدَّث به ابن المبارك قديمًا، فإنه لا يلزم من تركه الروايةَ عن أبي حنيفة قبل أن يموت بأيام يسيرة أن لا يروي الناسُ عنه ما سمعوه قبل ذلك، ولا سيما الذين لم يحضروا أمره بالضرب أولم يعملوا به، والله المستعان.
7 - إبراهيم بن أبي الليث
.
في «تاريخ بغداد» (13/ 417 [447]): «
…
إبراهيم بن أبي الليث قال: سمعت الأشجعي غير مرة
…
».
قال الأستاذ (ص 160): «
…
عنه يقول ابن معين: لو اختلف إليه ثمانون كلهم
(1)
(1/ 71 فما بعدها».
(2)
كذا في (ط)! ولا يستقيم المعنى، وتصح العبارة بحذف «لا» .
مثل منصور بن المعتمر ما كان إلا كذابًا. وكذَّبَه غير واحد».
أقول: ترجمة إبراهيم هذا في «تاريخ بغداد» (ج 6 ص 191). فأما هذه الكلمة التي ذكرها الأستاذ، فإنما رواها الخطيب من طريق أحمد بن محمد بن القاسم بن محرِز
(1)
، وترجمة ابن محرِز هذا في «تاريخ بغداد» (ج 5 ص 83) ليس فيها تعريف بحاله وإنما فيها:«يروي عن يحيى بن معين. حدث عنه [عبد الله بن] جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي» . وكلمة ابن الدَّورقي المذكورة في «اللسان»
(2)
و «التعجيل»
(3)
هي في قصة طويلة رواها الخطيب من طريق أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي الحافظ. والأزدي اتهموه، ونحتاج إلى الاعتذار عن ابن حجر في جزمه بها مع أنها من طريق الأزدي
(4)
. وما في «اللسان» تبعًا لأصله
(5)
أن ابن معين قال في إبراهيم: «ثقة، لكنه أحمق» إنما رواها الخطيب من طريق بكر بن سهل عن عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين. وبكر بن سهل هذا إن كان هو الدمياطي المترجَم في «الميزان» و «اللسان» ــ كما بنيتُ عليه في «الطليعة» (ص 78)
(6)
وتأتي الإشارة إليه في ترجمة الحسن بن الربيع
(7)
ــ ففيه كلام
(1)
انظر «معرفة الرجال» (366) لابن محرز.
(2)
(1/ 337).
(3)
(1/ 273 - 275).
(4)
يعني وقد تقرر أن ابن حجر لا يجزم إلا بما ثبت عنده.
(5)
أي «الميزان» : (1/ 54).
(6)
(ص 60).
(7)
رقم (75).
شديد، وعقَّبها الخطيب بقوله:«وهذا القول من يحيى في توثيقه، كان قديمًا ثم أساء القول فيه بعدُ، وذمَّه ذمًّا شديدًا» .
والذي يتلخَّص من مجموع كلامهم: أنهم لم ينقموا عليه شيئًا في سيرته، وأنه كانت عنده أصول الأشجعي التي لا شك فيها، وكان يذكر أنه سمعها من الأشجعي إلا مواضع كان يعترف أنه لم يسمعها. فقَصَده الأئمة: أحمد، ويحيى، وابن المديني، وغيرهم؛ يسمعون منه كتب الأشجعي. [1/ 91] فكانوا يسمعون منه، ثم حدَّث بأحاديث عن هُشيم وشَريك وغيرهما مِن حِفْظه، فاستنكروا من روايته عن أولئك الشيوخ أحاديث تفرَّد بها عنهم، وكان عندهم أنها مما تفرد به غيرُ أولئك الشيوخ.
منها: حديث رواه عن هشيم، عن يعلي بن عطاء. وكان عندهم أنه من أفراد حماد بن سلمة عن يعلى. فتوقف فيه أحمد لهذا الحديث، حتى بان له أن غير حماد قد حدَّث به. وعذَره أحمدُ في بقية الأحاديث.
وأما ابن معين فشدَّد عليه، وتبعه جماعة. واختلف عن ابن المديني؛ فقيل: لم يزل يحدِّث عنه حتى مات. وقيل: بل كَفَّ بأَخَرةٍ. وقال أبو حاتم: «كان أحمد يُجْمِل القول فيه، وكان يحيى بن معين يحمل عليه، وعبيد الله القواريري (وهو ثقة عندهم من رجال الصحيحين) أحبُّ إليَّ منه»
(1)
. وذكره ابن حبان في «الثقات»
(2)
. وقال أبو داود عن ابن معين: «أفسد نفسه
(1)
«الجرح والتعديل» : (2/ 141).
(2)
لم أجده في المطبوع منه، والمؤلف اعتمد على عزو الحافظ في «اللسان» و «التعجيل» ، فلعلها كانت في نسخته.
في خمسة أحاديث» فذكرها. قال ابن حجر في «التعجيل»
(1)
: «وهذا عندي أَعْدَل الأقوال فيه» .
أقول: قد ظهرت عدالةُ الرجل أولًا، ثم عرضت تلك الأحاديث فاختلفوا فيها، فمنهم مَن عَذَره، ومنهم من رماه بسرقتها. فالذي ينبغي: التوقفُ عن سائر ما رواه عن غير الأشجعي، وقبولُ ما رواه عن الأشجعي، فإن ذلك من أصول الأشجعي باعترافهم جميعًا، ولم ينكروا منها شيئًا. وأحسب أن رواية الإمام أحمد وابنه عبد الله عن إبراهيم، إنما هي مما رواه من كتب الأشجعي. وقد يكون هذا رأي الأستاذ الكوثري، فقد احتجَّ (ص 99): «حدثنا
…
قال حدثني إبراهيم ابن أبي الليث قال حدثني الأشجعي
…
». فأما روايته هنا فهي عن الأشجعي، لكنها حكاية لا يظهر أنها كانت من أصول الأشجعي. والله أعلم.
8 -
إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر أبو إسحاق الفزاري.
في «تاريخ بغداد» (13/ 373 [376]): «
…
سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد. قال إبليس: يا رب، وقال أبو بكر الصديق: يا رب
…
».
قال الأستاذ (ص 40): «الفزاري كان يطلق لسانه في أبي حنيفة ويعاديه، من جهة أنه كان أفتى أخاه على موازرة إبراهيم القائم في عهد المنصور، فقتل في الحرب
…
وحكمُ شهادة العدو في مذهب الشافعي
…
معروف
…
ويقول ابن سعد
(1)
(1/ 275).
في «الطبقات الكبرى» : [1/ 92] كان كثير الغلط في حديثه. ويقول ابن قتيبة في «المعارف» : إنه كان كثير الغلط في حديثه. ومثله في «فهرست محمد بن إسحاق النديم» . لكن ذلاقة لسانه في أبي حنيفة وأصحابه نفعته في رواج رواياته بين أصحاب الأغراض
…
مع أن الواجب فيمن كان كثير الخطأ في حديثه الإعراض عن انفراداته
…
».
وقال الأستاذ (ص 71): «سامح الله أبا إسحاق الفزاري كأنه فَقَد اتزانه من فَقْد أخيه، فأصبح يطلق لسانه في فقيه الملة في كل مجلس ومحفل، حتى في مجلس الرشيد، كما تجد ذلك في «تقدمة الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم .... غاية ما فعل أبو حنيفة أن أفتى أخاه بما أراه الله حين استفتاه».
وقال الأستاذ (ص 73): «إنما شأنه في السير والمغازي، ولم يكن ابن سعد يرضاه فيها، ويذكره بكثرة الغلط، وابن سعد ذلك الإمام الكبير في السير والمغازي
…
».
وقال (ص 77): «قال ابن سعد في الفزاري: كان ثقة فاضلًا صاحب سنة وغزو، كثير الخطأ في حديثه» .
أقول: مدار كلام الأستاذ في أبي إسحاق على أمرين:
الأول: قوله: إنه كان يعادي أبا حنيفة لإفتائه أخاه بالخروج، فخرج، فقتل.
الثاني: كثرة الخطأ.
فأما العداوة فيحاول الأستاذ أن يجعلها عداوة دنيوية لأجل الفتوى، مع أن ذكر الفتوى لم يقع إلا في روايةٍ ذُكِرت في «تاريخ بغداد» (13/ 384 [397]) في سندها يزيد بن يوسف الشامي، فتكلم الأستاذ فيها (ص 70):
قال: «يزيد بن يوسف الشامي يقول ابن معين فيه: ليس بثقة. ويقول النسائي: متروك» .
والكلام فيه أكثر من ذلك، حتى قال ابن شاهين في «الضعفاء»
(1)
: «قال ابن معين: كان كذابًا» . وقال ابن حبان: «كان سيئ الحفظ، كثير الوهم، يرفع المراسيل [ولا يعلم]، ويسند الموقوف ولا يفهم. فلما كثر ذلك منه سقط الاحتجاج بأفراده»
(2)
.
فهذه الرواية ساقطة، والثابت رواية أخرى في «تاريخ بغداد» (13/ 384 [398]) فيها عن أبي إسحاق: «قُتل أخي مع إبراهيم الفاطمي بالبصرة، فركبت لأنظر في تركته، فلقيت أبا حنيفة فقال لي: من أين أقبلت؟ وأين أردت؟ فأخبرته أني أقبلت من المَصِّيصة وأردت أخًا [1/ 93] لي قُتل مع إبراهيم، فقال أبو حنيفة: لو أنك قُتِلت مع أخيك كان خيرًا لك من المكان الذي جئتَ منه
…
».
وهناك رواية ثالثة في «تقدمة الجرح والتعديل»
(3)
هي التي وقع فيها ما أشار إليه الأستاذ من إطلاق اللسان. وفي إسنادها نظر، ولا ذِكْر فيها للفتوى، ولو صحت لكانت أدلّ على عدم الفتوى.
فالحاصل أن الثابت أن أبا إسحاق بلغه قتلُ أخيه مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الخارج على المنصور، فقَدِم فلقي أبا حنيفة، فسأله
(1)
(ص 198).
(2)
«المجروحين» : (3/ 106). وما بين المعكوفين منه.
(3)
(1/ 284).
أبو حنيفة، فأجابه أنه جاء من المَصِّيصة ــ الثغر الذي كان أبو إسحاق يرابط فيه لجهاد الروم ودَفْعهم عن بلاد الإسلام ــ فقال أبو حنيفة:«لو أنك قُتِلْت مع أخيك كان خيرًا لك من المكان الذي جئتَ منه» .
ومن المعلوم أن أبا إسحاق حَبَس نفسَه غالبَ عمره على المرابطة في الثغر، والتعرّض للشهادة صباح مساء، فلم يكن ليغمَّه قتلُ أخيه إلا لكونه في فتنة، ولا لينقم على من رضي بقتل أخيه إلا لرضاه بما يراه فتنة، ولا ليستعظم قول من قال له: «لو أنك قتلت مع أخيك
…
» إلا لما فيه من تفضيل قتال المسلمين في غير كُنْهِه عنده على الرباط والجهاد ودفع الكفار عن بلاد الإسلام.
فهذا وغيره ــ مما يوجد في الروايات الأخرى، منها الرواية التي تقدمت أول الترجمة ــ هو الذي أحْفَظ أبا إسحاق على أبي حنيفة. فإن بلغ ذلك أن يسمَّى عداوة، فهي عداوة دينية، لا تُرَدّ بها الرواية بإجماعهم، كما تقدم في القواعد
(1)
. وسواء أكان الصواب استحسان الخروج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن وتفضيله على الجهاد والرباط كما رأى أبو حنيفة، أم خلافه كما كان يعتقده أبو إسحاق؟ فإن أبا إسحاق إما مصيب مشكور، وإما مخطئ مأجور. ولا بأس بالإشارة إلى وجهتي النظر:
كان أبو حنيفة يستحبّ أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس لما ظهر منهم من الظلم، ويرى قتالهم خيرًا من قتال الكفار؛ وأبو إسحاق ينكر
(1)
(1/ 67).
ذلك. وكان أهل العلم مختلفين في ذلك، فمَنْ كان يرى الخروج يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شقٌّ لعصا المسلمين، وتفريق لكلمتهم، وتشتيت لجماعتهم، وتمزيق لوحدتهم، وشغلٌ لهم بقتل بعضهم بعضًا؛ فتَهِنُ قوتُهم وتقوى شوكةُ عدوهم، وتتعطل ثغورهم فيستولي عليها [1/ 94] الكفار ويقتلون من فيها من المسلمين ويُذِلُّونهم، وقد يستحكم التنازع بين المسلمين فتكون نتيجته الفشل المخزي لهم جميعًا.
وقد جرَّب المسلمون الخروج، فلم يروا منه إلا الشرَّ. خرج الناس على عثمان يرون أنهم إنما يريدون الحق، ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساؤهم ومعظّمهم
(1)
أنهم إنما يطلبون الحق، فكانت ثمرة ذلك بعد اللَّتيا والتي أن انقطعت خلافة النبوة وتأسست دولة بني أمية. ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه، فكانت تلك المأساة، ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحَرّة، ثم خرج القُرّاء مع ابن الأشعث فماذا كان؟ ثم كانت قضية زيد بن عليّ، وعرض عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فأبى، فخذلوه، فكان ما كان. ثم خرجوا مع بني العباس فنشأت دولتهم التي رأى أبو حنيفة الخروجَ عليها. واحتشد الروافض مع إبراهيم الذي رأى أبو حنيفة الخروج معه، ولو كُتب له النصر لاستولى الروافض على دولته، فيعود أبو حنيفة يفتي بوجوب الخروج عليهم!
هذا، والنصوص التي يحتجُّ بها المانعون من الخروج والمجيزون له
(1)
كذا في (ط) وربما كانت: «ومعظّموهم» .
معروفة. والمحققون يجمعون بين ذلك بأنه إذا غلب على الظنّ أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخفُّ جدًّا مما يغلب على الظن أنه يندفع به، جاز الخروج، وإلا فلا. وهذا النظر قد يختلف فيه المجتهدان، وأولاهما بالصواب مَن اعتبر بالتاريخ، وكان كثيرَ المخالطة للناس، والمباشرة للحروب، والمعرفة بأحوال الثغور، وهكذا كان أبو إسحاق.
وأما حال أبي إسحاق في الرواية، فنبدأ بتلك الكلمة:«كثير الخطأ في حديثه» . هذه الكلمة نقلها الأستاذ عن ابن سعد، وابن قتيبة، وابن النديم. فأقول: ابن قتيبة وابن النديم لا شأن لهما بمعرفة الرواية والخطأ والصواب فيها وأحوال الرواة ومراتبهم. وإنما فنّ ابن قتيبة معرفة اللغة والغريب والأدب. وابن النديم رافضيّ ورَّاق، فنُّه معرفة أسماء الكتب التي كان يَتَّجِر فيها؛ وإنما أخذا تلك الكلمة من ابن سعد.
وابن سعد هو محمد بن سعد بن منيع كاتب الواقدي، روى الخطيب
(1)
في ترجمته: أن مصعبًا الزبيري قال لابن معين: «حدثنا ابن سعد الكاتب بكذا وكذا» فقال ابن معين: «كذَب» . [1/ 95] واعتذر الخطيب عن هذه الكلمة وقال: «محمد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدلّ على صدقه .. » . وقال أبو حاتم: «يصدق»
(2)
.
ووفاة ابن سعد سنة 230، فقد أدركه أصحاب الكتب الستة إدراكًا واضحًا، وهو مقيم ببغداد حيث كانوا يتردَّدون، وهو مُكثر من الحديث
(1)
(5/ 321).
(2)
«الجرح والتعديل» : (7/ 262).
والشيوخ، وعنده فوائد كثيرة؛ ومع ذلك لم يُخرجوا عنه شيئًا، إلا أن أبا داود روى عن أحمد بن عبيد ــ وستأتي ترجمته
(1)
ــ عن ابن سعد عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: «يقولون: قبيصة بن وقّاص له صحبة»
(2)
. وهذه الحكاية ليست بحديث ولا أثر، ولا ترفعُ حكمًا ولا تضعُه.
والأستاذ كثيرًا ما يتشبَّث في التليين بعدم إخراج أصحاب الكتب الستة للرجل مع ظهور العذر، كما تقدّم في ترجمة إبراهيم بن شَمَّاس. فأما ابن سعد، فلا مظنة للعذر إلا أنهم رغبوا عنه.
وأظن الأستاذ أول من منح ابن سعد لقب: «الإمام» ، ولم يقتصر عليه بل قال:«الإمام الكبير» ، وتغاضى الأستاذ عن قول ابن سعد في أبي حنيفة، فإنه ذكره في موضعين من «الطبقات» (ج 6 ص 256)
(3)
و (ج 7 قسم 2 ص 67)
(4)
وقال في كلا الموضعين: «وكان ضعيفًا في الحديث» ولم يقرن هذه الكلمة بشيء مما قرن به كلمته في أبي إسحاق، فلم يقل:«ثقة» ، ولا «فاضل» ، ولا «صاحب سنة» !
ومع ذلك فليس ابن سعد في معرفة الحديث ونقده ومعرفة درجات رجاله في حدِّ أن يُقبَل منه تليينُ مَنْ ثبَّته غيرُه، على أنه في أكثر كلامه إنما
(1)
رقم (25).
(2)
هذه العبارة ذكرها المزي في «تحفة الأشراف» : (8/ 276)، و «تهذيب الكمال»:(6/ 99)، وليست في «سنن أبي داود» عند حديث قبيصة (434).
(3)
(8/ 489).
(4)
(9/ 324).
يتابع شيخه الواقدي، والواقدي تالف. وفي «مقدمة الفتح»
(1)
في ترجمة عبد الرحمن بن شريح: «شذَّ ابن سعد فقال: منكر الحديث. ولم يلتفت أحد إلى ابن سعد في هذا، فإن مادته من الواقدي في الغالب، والواقدي ليس بمعتمد» . وفيها
(2)
في ترجمة مُحارب بن دِثار: «قال ابن سعد: لا يحتجّون به. قلت: بل احتجَّ به الأئمة كلُّهم
…
ولكن ابن سعد يقلِّد الواقدي». وفيها
(3)
في ترجمة نافع بن عمر الجمحي: «قد قدمنا أن تضعيف ابن سعد فيه نظر، لاعتماده على الواقدي» .
وقد ردَّ الأستاذ (ص 168) قول إمام النقَّاد عليِّ ابن المديني في أبي حنيفة: «روى خمسين حديثًا أخطأ فيها» . فقال الأستاذ: «لم يذكر وجه تخطئته في الحديث حتى يحتاج إلى الجواب، [1/ 96] وهو على كل حال جرح غير مفسَّر» .
وذكر (ص 158) قول ابن أبي داود: «إن أبا حنيفة أخطأ في نصف أحاديثه» . فقال الأستاذ: «فلا نشتغل بالرد على هذا الكلام المرسل منه جزافًا من غير أن يبيّن ما هو خطؤه، وفي أي حديث كان ذلك الخطأ» .
وذكر الأستاذ (ص 90) قول ابن حبان
(4)
في أبي حنيفة: «كان أجلَّ في نفسه من أن يكذب، ولكن لم يكن الحديث شأنه، فكان يروي فيخطئ من
(1)
(ص 417).
(2)
(ص 443).
(3)
(ص 447).
(4)
عزا الكوثري هذا النقل إلى «الضعفاء» لابن حبان، ولم أجد في ترجمته في «المجروحين»:(3/ 63) هذه العبارة بهذا النص بل بنحوها.
حيث لا يعلم، ويقلب الإسناد من حيث لا يفهم. حدَّث بمقدار مائتي حديث أصاب منها في أربعة أحاديث، والباقية إما قلَبَ إسنادها أو غيَّر متنها». فأجاب الأستاذ جوابًا إجماليًّا يأتي مع النظر فيه في ترجمة ابن حبان
(1)
إن شاء الله.
يدفع الأستاذ هذه النصوصَ وأضعافَها بأنها لم تفسَّر، ويتشبث في الغضِّ من أبي إسحاق بتلك الفخارة النيئة «كثير الخطأ في حديثه» محاولًا أن ينطح بها ذلك الجبل الشامخ! وإذ قد تحطمت تلك الفخارة على رأس حاملها، فلنذكر تقريظ الأئمة لأبي إسحاق
(2)
:
أما ثقته، فقال ابن معين:«ثقة ثقة» . وقال أبو حاتم: «الثقة المأمون الإمام» . وقال النسائي: «ثقة مأمون أحد الأئمة» . ووثقه جماعة غير هؤلاء واحتج به الشيخان في «الصحيحين» وبقية الستة والناس.
وأما فقهه، فقال ابن المبارك:«ما رأيت رجلًا أفقه من أبي إسحاق الفزاري» . وقال عبد الله بن داود الخُرَيبي: «لَقول أبي إسحاق أحبُّ إليَّ من قول إبراهيم النخعي» .
وأثنى عليه آخرون في الفقه.
وأما معرفته بالسير، فقال ابن عيينة:«ما ينبغي أن يكون رجل أبصر بالسير (وفي نسخة: بالسنن) منه» . وقال الخليلي: «أبو إسحاق يقتدى به
(1)
رقم (200).
(2)
من «تقدمة الجرح والتعديل» [1/ 281] لابن أبي حاتم و «تذكرة الحفاظ» [1/ 273] الذهبي و «تهذيب التهذيب» [1/ 151]. [المؤلف].
وهو صاحب «كتاب السير» . نظر فيه الشافعي وأملى كتابًا على ترتيبه ورَضِيَه». وقال الحميدي: «قال لي الشافعي: لم يصنِّف أحد في السير مثله» .
وأما إمامته وفضله، فقال سفيان بن عيينة:«كان إمامًا» . وقال أيضًا: «والله ما رأيت [1/ 97] أحدًا أقدِّمه عليه» . وقال الفضيل بن عياض: «ربما اشتقتُ إلى المَصِّيصة، وما بي فضل الرباط، بل لأرى أبا إسحاق» . وقال أبو داود الطيالسي: «مات أبو إسحاق الفَزاري وليس على وجه الأرض أفضل منه» . وقال عبد الرحمن بن مهدي: «إذا رأيت شاميًّا يحب الأوزاعي وأبا إسحاق فاطمئنّ إليه، كانا إمامين في السنة» . وقال أبو أسامة: «سمعت فضيل بن عياض يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم وإلى جنبه فرجة، فذهبت لأجلس، فقال: هذا مجلس أبي إسحاق الفزاري» .
والثناء على أبي إسحاق كثير، وفي هذا كفاية.
فهؤلاء الأئمة ونظراؤهم الراضون عن أبي إسحاق والموافقون والمثنون عليه هم الذين سماهم الأستاذ فيما تقدم من عبارته «أصحاب الأغراض» .
وقال الأستاذ (ص 66) في شأن أبي إسحاق: «حاله في عِلْمه كما علمت، وإنما وقعت ذلاقة لسانه في الوقوع في الناس موقع الإعجاب عند كثير ممن يحبون الوقوع في خصومهم بألسنة أناس آخرين، فرفعوه إلى غير مرتبته» !
أقول: إذا كان هؤلاء ساخطين على أبي حنيفة هذا السخطَ الذي يصوِّره الأستاذ، فليت شعري من بقي غيرهم من أئمة الدين يسوغ أن يقال: إنه راض
عن أبي حنيفة؟ وهل بقي إلا كُسَير وعُوَير، وثالث ما فيه خير!
وقال الأستاذ (ص 77): «قال الحافظ (؟ ) ابن أبي العوّام: حدثني
…
سمعت إسماعيل بن داود يقول: كان عبد الله بن المبارك يذكر عن أبي حنيفة، فكانوا إذا اجتمعوا بالثغر - يعني المَصِّيصة - لم يحدِّث ابن المبارك عن أبي حنيفة بشيء، ولا يذكر أبو إسحاق الفزاري أبا حنيفة بسوء حتى يخرج ابن المبارك».
أقول: إن صحت هذه الحكاية، فإنما تدلُّ على أدب كل من الإمامين مع صاحبه، وحُسْن اعتقاده فيه. ولو كان ابن المبارك يرى أن أبا إسحاق يكذب على أبي حنيفة، ويحكي عنه ما لم يكن، ويتكلم فيه بالهوى؛ ما ساغ لابن المبارك أن يسكت.
وإن تعجب فعجبٌ ما في التعليق على صفحة (387) من المجلد (13) من «تاريخ بغداد»
(1)
، ونص ذلك:«أبو إسحاق الفزاري منكر الحديث، وهذان الخبران من مناكيره» . أما إني لا أكاد أصدِّق أن مثل هذا يقع في مصر تحت سمع الأزهر وبصره! وقريب من هذا ما يأتي في [1/ 98] ترجمة صالح بن أحمد
(2)
، فإن القضية التي كشفتُ عنها في «الطليعة» (ص 12)
(3)
يعتذر عنها الأستاذ في «الترحيب»
(4)
بأنه قد سبقته إليها اللجنة
(1)
لم نجد هذا التعليق في الطبعة الثانية من التاريخ، وقد تقدم (ص 376) في التعليق قوله:«وفي الروايتين أبو إسحاق الفزاري، وهو منكر الحديث» . وجاء في (ص 401) قوله: «في هذه الروايات أبو إسحاق الفزاري، وقد تقدَّم القول في ضعفه» .
(2)
رقم (109).
(3)
(ص 5 - 11).
(4)
(ص 321 - مع التأنيب).