الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: نماذج من المناظرات مع أهل الكتاب عبر التاريخ:
المناظرة التي جرت بين الإمام الرازي ونصراني في خوارزم:
وهنالك الكثير من المناظرات التي جرت مع أهل الكتاب عبر التاريخ الإسلامي نكتفي منها بذكر المناظرة الشهيرة التي جرت بين الإمام الرازي رحمه الله مع نصراني بالأدلة العقلية والمنطقية، وبيان موقف النصراني بعد المناظرة.
قال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره مفاتيح الغيب: "اتفق أني حين كنت بخوارزم أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث، وقال لي: ما الدليل على نبوة محمد؟
فقلت له: كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى من الأنبياء عليهم السلام، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلم، فإما رددنا التواتر أو قبلناه، لكن إن قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق، فحينئذٍ بطلت نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد صلى الله عليه وسلم، وجب الاعتراف قطعاً بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ضرورة، إذ عند الاستواء بدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول.
فقال النصراني: أنا لا أقول في عيسى: إنه كان نبياً، بل أقول: إنه كان إلهاً.
فقلت له: الكلام في النبوة لابد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله، وهذا الذي تقوله باطل، ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته، يجب أن لا يكون جسماً متحيزاً ولا عرضاً، وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وُجدَ بعد أن كان معدوماً، وقُتل بعد أن كان حياً على قولكم وكان طفلاً أولاً، ثم مترعرعاً، ثم صار شاباً، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً، والمحدث لا يكون غنياً، والممكن لا يكون واجباً، والمتغير لا يكون دائماً.
الوجه الثاني في إبطال هذه المقالة: أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملة أظهر الجزع الشديد، فإن كان إلهاً أو كان الإله حالاً فيه، أو كان جزءاً من الإله حالاً فيه، فلِمَ لم يدفعهم عن نفسه؟ ولِمَ لم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجه به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إنني لأتعجب جداً إن العاقل كيف به أن يقول هذا القول، ويعتقد صحته فتكاد تكون بديهية العقل شاهدة بفساده.
والوجه الثالث: هو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو أن يقال حل الإله بكليته فيه، أو حل الإله بجزء منه فيه.
والأقسام الثلاثة باطلة:
أما الأول: فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهود كان ذلك قولاً بأن اليهود قتلوا إله العالم، فكيف يبقى العالم بعد ذلك من غير إله؟ ثم أشد الناس ذلاً ودناءة اليهود؛ فالإله الذي تقتله إله في غاية العجز!
وأما الثاني: وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم، فهو أيضاً فاسد؛ لأن الإله لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل، وكان الإله محتاجاً إلى غيره، وكل ذلك سخف.
وأما الثالث: وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وهو جزء من أجزائه، فذلك أيضاً محال؛ لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلهاً، وإن لم يكن معتبراً في تحقيق الإلهية لم يكن جزءاً من الإله؛ فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلاً.
الوجه الرابع في بطلان قول النصارى: ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى، ولو كان إلهاً لاستحال ذلك؛ لأن الإله لا يعبد نفسه، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم.
ثم قلت للنصراني: وما الذي دلك على كونه إلهاً؟ فقال: الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى.
فقلت له: هل تسلم أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فأقول: لِمَ جوزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام ، فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد؟
فقال: الفرق ظاهر، وذلك لأني حكمت بذلك الحلول لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود هاهنا.
فقلت له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي: إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى؛ فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل؛ فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك وفي حق الكلب والسنور والفأر.
ثم قلت: إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسة والركاكة.
الوجه الخامس: أن قلب العصا حية أبعد في العقل من إعادة الميت حياً؛ لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلهاً ولا ابناً للإله، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان ذلك أولى، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام. والله أعلم" (1).
فتبين من خلال هذا المناظرة أن الإمام الرازي استعمل مع هذا النصراني الحوار بالمنطق والعقل حتى وصل معه إلى النتيجة الأخيرة، فإذا به سكت وأفحم، ولو كان النصراني يستخدم العقل والمنطق لآمن وصدق لأن عقل العاقل لا يقبل مثل هذه الخرافات التي تنسب للإله من العجز والحلول.
(1) انظر: مفاتيح الغيب (8/ 69 - 71)، مرجع سابق.