الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: أمثلة على التحريف بالإخفاء والكتمان قديماً:
وأما التحريف بالإخفاء فقد حصل من أهل الكتاب قديماً مع رسلهم، وحصل منهم ذلك الإخفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بيَّن الله ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فكشف له بعضاً مما أخفوه من الآيات، وبيَّن لهم بعضاً من تلك الأحكام وغيره؛ حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، قال تعالى: {
…
إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (1).
ولقد بيَّن سيد قطب رحمه الله أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودوره مع أهل الكتاب أن يبين لهم ويكشف ما تواطئوا على إخفائه من حقائق كتاب الله الذي أنزله عليهم، سواء في ذلك اليهود والنصارى، فكل فريق قد أخفى شيئاً مما شرعه الله، فقد أخفى النصارى الأساس الأول للدين وهو التوحيد، وأخفى اليهود كثيراً من أحكام الشريعة؛ كرجم الزاني، وتحريم الربا كافة، كما أخفوا جميعاً خبر بعثة النبي الأمي الذي قال تعالى فيها:{الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (3)(4).
وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: {أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا فقال لليهود: ما تصنعون بهما.
قالوا: نسخم (5) وجوههما ونخزيهما (6).
قال: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (7).
(1) سورة الأنعام الآية: (91).
(2)
سورة المائدة الآية: (15).
(3)
سورة الأعراف الآية: (157).
(4)
انظر: في ظلال القرآن (2/ 861) مرجع سابق.
(5)
التسخيم هو: تسويد الوجه. (نتكاتمه) نخفيه ولا نظهره. انظر: شرح صحيح البخاري، (6/ 2742) رقم (7104) مرجع سابق.
(6)
نخزيهما: نفضحهما بأن نركبهما على حمار معكوسين وندور. انظر: شرح صحيح البخاري، (6/ 2742) رقم (7104) مرجع سابق.
(7)
سورة آل عمران الآية: (93).
فجاءوا فقالوا لرجل ممن يرضون أعور اقرأ: فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه.
قال: ارفع يدك. فرفع يده فإذا فيه آية الرجم تلوح.
فقال: يا محمد إن عليهما الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما فرجما فرأيته يجانئ عليها الحجارة} (1).
فهذا الحديث يبن لنا مدى الإخفاء والكتمان الذي قام به اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنص الرجم الوارد في كتبهم، وحينما وضع الرجل يده فوق الحكم الوارد لإخفائه، وإتيانهم بالرجل الأعور يقرأ التوراة؛ ليتمكنوا من مغالطة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يغالطوا عامتهم، ولكن الله كشفهم على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما المقصود من طلب رسول الله منهم أن يأتوا بالتوراة فقد قال فيه الطبري رحمه الله: "فأتوا بالتوراة فاتلوها حتى ننظر هل ذلك فيها أم لا؛ ليتبين كذبهم لمن يجهل أمرهم"(2) ، فلم يستطيعوا الإتيان بالتوراة الحق التي أنزلها الله على رسوله موسى عليه السلام؛ لأنهم قد حرفوها وبدلوها.
وهناك تحريف آخر بالكتمان، وهذا التحريف حصل من اليهود خاصة، وذلك بكتمانهم وإخفائهم لبعض الأسفار المقدسة عندهم من كتب العهد القديم والجديد مع أن أكثر المسيحيين لا يعترفون بها ولا يقدسونها، وهذه الأسفار يسمونها بالأسفار الخفية، وقد تكلم عن هذا الدكتور علي عبد الواحد وافي المتخصص في دراسة الدين اليهودي بقوله:" وبجانب الأسفار التي يتألف منها العهد القديم في نظر اليهود، توجد أسفار يهودية قديمة أخرى لم يدخلها اليهود في أسفار هذا العهد _القديم_ ويطلقون عليها اسم "الأسفار الخفية"، ومن الأسفار الخفية عند اليهود الأسفار التي تزيد بها الترجمة السبعينية (3) عن الأصل العبري؛ وبعض الأسفار الخفية غير مقدس ولا معتمد في نظر
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها، (6/ 2742) رقم (7104) مرجع سابق.
(2)
انظر: تفسير الطبري (4/ 2) مرجع سابق.
(3)
الترجمة السبعينية هي التي تمت في سنتي: (282 - 283 ق. ب) على يد اثنين وسبعين فقيهاً من يهود مصر، وكانوا من جميع أسباط اليهود. انظر: كتاب اليهودية واليهود (ص: 19)، المؤلف: الدكتور علي عبد الواحد وافي، الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة عام (2005 م).
اليهود، بينما بعضها الآخر مقدس أي: معترف بأنه موحى به، ومعتمد في نظرهم، ولكن رأى أحبارهم وجوب إخفائه، وقرروا أنه لا يجوز أن يقف عليه الجمهور في صدد اليهود." (1).
وهكذا تبين مما سبق أن البروتستانت لا تعترف بهذه الأسفار الخفية تماماً، "وكذلك فرقة السامرية كانت لا تؤمن إلا بسبعة أسفار من العهد القديم، وتنكر ما عدا ذلك"(2) أي: من بين تسعة وثلاثين سفر، وبعكس الكنيسة الكاثوليكية، مما يؤكد اعتراف الكثير من أهل الكتاب أن النسخ الموجودة معهم محرفة، وأنها تختلف من فرقة لأخرى بالزيادة والنقصان والإخفاء.
(1) انظر: المصدر نفسه، (ص: 2425) مرجع سابق.
(2)
انظر: المصدر نفسه، (ص: 21) مرجع سابق.