الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاضطهاد، وعاملهم بالحسنى، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه؛ ولكنهم كانوا دائماً كما كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عقارب وحيات وثعالب وذئاباً تضمر المكر والخيانة، ولا تني تمكر وتغدر، إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد، وتآمروا مع كل عدو لهم، حتى تحين الفرصة، فينقضوا عليهم، قساة جفاة لا يرحمونهم، ولا يرعون فيهم إلَّاً ولا ذمة" (1).
قال الإمام الزمخشري: "واليهود موسومون بالغدر، ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا"(2).
الآية الثانية:
قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (3).
أما العهد المذكور في هذه الآية فقد قرر الرازي بأن هذا الخلق الذميم: " ليس ببدع منهم، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال! لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك".
فكان نبذهم لكتاب الله كمن يرمي بكتاب الله وراء ظهره من شدة الإعراض عنه، ثم ذكر الرازي أن المقصود من نبذهم لكتاب الله: هو مثل لتركهم وإعراضهم عنه بمثل ما يرمى به وراء الظهر؛ استغناء عنه وقلة التفات إليه. ثم قال: "والعهد في هذه الآية فيه أربعة وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لما أظهر الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى صحة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وتعالى، وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى.
وثانيها: أن العهد هو الذي كانوا يقولونه قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم: لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم (4).
أقول: وهذا يدل على أنهم كانوا يعرفون نبوة محمد رسول الله كما يعرفون أبناءهم، وكانوا يستفتحون به على العرب في الحروب التي كانت تدور بين اليهود وبعض القبائل العربية، ويقولون:
(1) انظر: في ظلال القرآن، (2/ 859) مرجع سابق.
(2)
انظر: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، (1/ 197) مرجع سابق.
(3)
سورة البقرة الآية: (100).
(4)
انظر: تفسير الرازي مفاتيح الغيب (3/ 183 - 184) مرجع سابق.
اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويتوعدونهم بأنهم سيقتلونهم قتل عاد وإرم. قال تعالى:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1).
وثالثها: أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه.
ورابعها: أن اليهود كانوا قد عاهدوه على أن لا يعينوا عليه أحداً من الكافرين، فنقضوا ذلك، وأعانوا عليه قريشاً يوم الخندق؛ قال القاضي: إن صحت هذه الرواية لم يمتنع دخوله تحت الآية، لكن لا يجوز قصر الآية عليه، بل الأقرب أن يكون المراد ما له تعلق بما تقدم ذكره من كفرهم بآيات الله، وإذا كان كذلك فحمله على نقض العهد فيما تضمنته الكتب المتقدمة والدلائل العقلية من صحة القول ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم أقوى" (2).
خلاصة:
وكل هذه الوجوه تتطابق مع بعضها البعض: فالوجه الأول يقصد به نبوته صلى الله عليه وسلم ، ولا يتعارض مع الوجه الثاني كون اليهود كانوا يعلمون بصفاته ونعته في كتبهم، وأما الوجه الثالث فلا يتعارض مع الوجهين السابقين، كونهم عاهدوا الله على أمور كثيرة كالإيمان به سبحانه وتوحيده والتزام طاعته، ومن ذلك الإيمان برسوله محمد خاتم الأنبياء، وأن لا يكتموا صفاته، فنقضوا هذا العهد والميثاق مع الله سبحانه وتعالى، وأما الوجه الرابع فلا يتعارض كذلك مع الأوجه السابقة، وذلك أنهم عاهدوا الله على نصرة الرسول الخاتم وتصديقه، ويدل على ذلك أن هذا العهد هو الذي أخذه الله على جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الإيمان بمحمد رسول الله، فبلغهم أنبياؤهم ذلك فنقضوه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
…
إلى قوله تعالى
…
كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3).
(1) سورة البقرة الآية: (89).
(2)
المصدر نفسه (3/ 183).
(3)
سورة آل عمران الآية: (81 - 86).