الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالله
.
الفرع الأول: آيات الخطاب القرآني التي تأمر أهل الكتاب بالإيمان
.
ذكرنا أن المقصود بدعوة أهل الكتاب إلى الإيمان هي دعوتهم إلى دين التوحيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ما تقدم في المطلب الأول من تعريف الدين، وسنذكر في هذا المطلب بعض آيات الخطاب القرآني لأهل الكتاب التي تدعوهم إلى الإيمان بالله وأقوال المفسرين فيها:
الآية الأولى:
قال الإمام البيضاوي رحمه الله: " (يا أيها الذين آمنوا) خطاب للمسلمين أو للمنافقين أو لمؤمني أهل الكتاب"(2).
أي: أن بين المفسرين خلافاً في تعيين المخاطب بالآية، فقيل: المسلمون، وقيل: المنافقون، وقيل: مؤمنو أهل الكتاب. فأشار إلى الخلاف بـ (أو). ثم ذكر رحمه الله تعالى تفسير الآية على كل قول من الأقوال، ونحن سنوضح ذلك كما يلي:
قال البيضاوي رحمه الله: "إذ روي أن ابن سلام (3) وأصحابه قالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه، فنزلت: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} ، أي: اثبتوا على الإيمان، بذلك وداوموا عليه. أو آمنوا به بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم. أو آمنوا إيماناً تاماً عاماً يعم الكتب والرسل؛ فإن الإيمان بالبعض كلا إيمان. والكتاب الأول القرآن والثاني الجنس"(4).
فقوله في معنى الآية: "اثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه" هو على القول بأن الخطاب للمسلمين.
(1) سورة النساء الآية: (136).
(2)
انظر: تفسير البيضاوي (2/ 266) مرجع سابق.
(3)
عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري رضي الله عنه، صحابي جليل، أسلم لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً، توفي سنة (43 هـ). انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 921) مرجع سابق، وأسد الغابة (3/ 268) مرجع سابق، والإصابة في تمييز الصحابة (4/ 118) مرجع سابق.
(4)
تفسير البيضاوي (2/ 266 - 267) مرجع سابق.
وقوله: " أو آمنوا به بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم" أي: على أنها خطاب للمنافقين.
وقوله: " أو آمنوا إيمانا تامّاً عامّاً يعم الكتب والرسل فإن الإيمان بالبعض كلا إيمان أي: على أنها خطاب لمؤمني أهل الكتاب.
والحديث الذي أورده البيضاوي عن ابن سلام وأصحابه يؤيد القول بأن المخاطب بها أولاً أهل الكتاب، ولا يوجد مانع من دخول غيرهم كما سيأتي عن الجزائري (1).
وعليه:
فالآية تخاطب أهل الكتاب من آمن منهم على قول وبعضهم لا يذكر غيره.
قال شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى: " (يا أيها الذين) يعني: بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد من الأنبياء والرسل وصدقوا بما جاءوهم به من عند الله، (آمنوا بالله ورسوله) يقول: صدقوا بالله وبمحمد رسوله أنه لله رسول مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم، (والكتاب الذي نزل على رسوله) يقول: وصدقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه، وذلك القرآن"(2).
وقال الجزائري وهو من المفسرين المعاصرين: "فهي في خطاب أهل الكتاب خاصة وفي سائر المؤمنين عامة، فالمؤمنون تدعوهم إلى تقوية إيمانهم ليبلغوا فيه مستوى اليقين، أما أهل الكتاب، فهي دعوة لهم للإيمان الصحيح، لأن إيمانهم الذي هم عليه غير سليم، فلذا دعوا إلى الإيمان الصحيح فقيل لهم: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) محمد (وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) وهو القرآن الكريم"(3).
والحديث الذي ذكره البيضاوي رحمه الله تعالى_ يبين لنا فيه موقف بعض أهل الكتاب حينما أرادوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه القرآن الكريم وبموسى وعزير عليهما السلام فقط، والكفر بما سواه من الكتب والرسل.
(1) الجزائري: جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري، ولد في قرية ليرة جنوب بلاد الجزائر عام 1921 م، عمل مدرساً في دار الحديث في المدينة المنورة، من مصنفاته: منهاج المسلم، وعقيدة المؤمن، وأيسر التفاسير للقرآن الكريم، وغيرها.
(2)
انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (5/ 325 - 326) مرجع سابق.
(3)
انظر: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير (ص: 303)، المؤلف: أبي بكر جابر الجزائري، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الأولى عام (1423 هـ 2002 م).
وقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنه (1): {أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وبعض أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نؤمن بك وبكتابك، وموسى والتوراة، وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل آمنوا بالله ورسوله محمد وبكتابه القرآن، وبكل كتاب كان قبله. فقالوا: لا نفعل! فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} .
فقالوا: يا رسول الله فإنّا نؤمن بالله ورسوله وبالقرآن وبكلِّ رسول وكتاب كان قبل القرآن، والملائكة واليوم الآخر، لا نفرق بين أحد منهم كما فعلت اليهود والنصارى، ونحن له مسلمون، فدخلوا في الإسلام} (2)(3).
فتبين لنا من سبب النزول كيف كان موقف بعضهم من دعوة الإيمان، وأنهم آمنوا وصدقوا بخلاف أكثرهم الذين أعرضوا وكذبوا.
وسبب نزول الآية يؤيد قول من جعلها خطاباً لأهل الكتاب، وهو ما ذهب إليه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى وغيره كما قدمنا، وهو الصحيح لوروده سبباً في نزول الآية.
الخلاصة:
أن الآية تخاطب أهل الكتاب وتأمرهم بالإيمان بالله الإيمان الصحيح الذي يقتضيه دين الإسلام على ما سبق التعريف به، والذي يتضمن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، كما قال تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ
(1) هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات في الطائف سنة (68 هـ). انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 933) مرجع سابق، أسد الغابة (3/ 295) مرجع سابق، والإصابة في تمييز الصحابة (4/ 141) مرجع سابق.
(2)
انظر: الكشف والبيان للثعلبي، (3/ 401) مرجع سابق، والذين ذكرهم الثعلبي أهل الكتاب الذين آمنوا مع عبدالله ابن سلام هم: أسداً وأسيداً أبني كعب وثعلبة بن قيس وسلّام أبن أخت عبد الله بن سلام وسلامة ابن أخيه، ويامين ابن يامين.
(3)
انظر: الفتح السماوي بتخريج أحاديث القاضي البيضاوي، (2/ 536) المؤلف: زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي المناوي (المتوفى: 1031 هـ)، الناشر: دار العاصمة - الرياض. وذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وذكره الواحدي في الأسباب عن الكلبي بغير سند.