الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن الله تعالى لما أرسل رسله عليهم أفضل الصلاة والسلام أيدهم بالبينات والمعجزات الواضحة التي بسببها آمن الناس برسالتهم، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (1).
فموسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل، وأنزل معه التوراة فيها حكم الله، فحكم بها المؤمنون فنالوا بذلك رضوان الله، ثم خلف من بعدهم خلف انحرفوا عن الطريق، وحرفوا الكتاب، وضيعوا الميثاق، فحل بهم غضب الله. قال تعالى:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَاّ يِقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَاّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2).
وأرسل الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، وأنزل معه الإنجيل ليحكم بين الناس بالحق، ومؤكداً لصدق رسالة موسى عليه السلام المتمثلة في التوراة، فحكم به المؤمنون فنالوا رضوان الله، وحرفه المغالون، وزادوا فيه حتى جعلوا عيسى عليه السلام إلهاً مع الله، فحلت بهم النقمة والتفرق والاختلاف، ولم يفارقهم عيسى عليه السلام حينما أراد اليهود قتله لكن الله رفعه إلى السماء وقد بشرهم بمجيء الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم الذي يكشف لهم ما وقع في كتبهم من الخلاف والتحريف، فجاءت بعد ذلك فترة انقطاع للوحي والرسل، فاختلف فيها الناس فيما بينهم، وكثرت النزاعات، وأصبحت البشرية بلا دستور ينظم شؤون حياتها، ويربطها بخالقها؛ لتعود إلى فطرتها التي فطرها الله عليها، فأرسل الله بعد ذلك خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وأنزل معه القرآن الكريم ليبين لهم الذي اختلفوا فيه، وليكشف لهم حقيقة الاختلاف والتحريف الذي اُرتكب في كتبهم من قبل أحبارهم ورهبانهم، ويبين لهم ما أخفوه من الآيات والأحكام، ليجتمع الناس بذلك على كلمة سواء في
(1) سورة الحديد الآية: (25).
(2)
سورة الأعراف الآية: (169).
اعتقادهم مع غيرهم، وهي كلمة التوحيد، كما قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1).
فكانت رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وخاتمة لرسالة النبيين، وعامة لجميع البشر دون استثناء، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2)، وقال تعالى:{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3) أي: فلا نبي بعده.
فكان صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما جاء به مَن قبله من الرسل والأنبياء، وناسخاً ومتمماً لشرائعهم، قال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (4).
وبين الله لعباده أنه لا يقبل من أحد ديناً غير دين الإسلام دين جميع الأنبياء والمرسلين، قال تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5).
وقال صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ من هذه الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ ولم يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إلا كان من أَصْحَابِ النَّار} (6).
وقد كان المتوقع من أهل الكتاب اليهود والنصارى أن يؤمنوا بمحمد رسول الله وينصروه بحسب العهد والميثاق المأخوذ عليهم؛ كونه قد بشر به أنبياؤهم في كتبهم، وذكروا لهم من صفاته وبلده وزمنه وصفات أصحابه ما يقتضي أن يعرفوه فيتبعوه؛ لكن الذي حدث من أكثرهم عكس ذلك، فإنهم ناصبوه العداء طوال حياتهم، وكذبوه وأذوه كما فعلوا بمن قبله من الرسل والأنبياء، ويشهد لذلك قصة
(1) سورة آل عمران الآية: (64).
(2)
سورة سبأ الآية: (28).
(3)
سورة الأحزاب الآية: (40).
(4)
سورة المائدة الآية: (48).
(5)
سورة آل عمران الآية: (85).
(6)
أخرجه مسلم، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الْمِلَلِ بِمِلَّتِهِ، (1/ 134) رقم:(153) المؤلف: الإمام مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
ياسر بن أخطب وأخيه حيي بن أخطب (1) عندما سمعا بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأتياه ليتبينا صفاته، فوجداه كما وُصف في كتبهم، فقد روى ابن إسحاق أن أم المؤمنين صفية بنت حيي قالت: سمعت عمي ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: {أهو هو.
قال: نعم والله.
قال: أتعرفه وتثبته.
قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه.
قال: عداوته والله ما بقيت! } (2).
بل تجاوزوا ذلك إلى اتهامه بهتاناً بالضلال، ويدل على ذلك أن مجموعة من يهود بني النضير (3) قدموا على مكة كما جاء في الأثر [[فلما قدموا على قريش، قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأولى، فاسألوهم أدينكم خير! أم دين محمد فسألوهم فقالوا: دينكم خير دين من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه! فأنزل الله قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (4)]] (5).
وكانوا يعلمون أن القرآن الكريم هو الكتاب الحق المبين، وأنه النور الذي جاء به الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو
(1) حيي بن أخطب النضري، أدرك الإسلام وآذى المسلمين، فأسروه يوم قريظة، ثم قتلوه. انظر: البداية والنهاية، (3/ 212) المؤلف: أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، الناشر: مكتبة المعارف بيروت بلا تاريخ طبعة.
(2)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (3/ 53) المؤلف: عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد، الناشر: دار الجيل بيروت الطبعة: الأولى، عام 1411 هـ، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 533) تحقيق: وثق أصوله وخرج أحاديثه وعلق عليه الدكتور: عبد المعطي قلعجي، الناشر: دار الكتب العلمية ـ ودار الريان للتراث، الطبعة الأولى عام (1408 هـ / 1988 م) ، والخصائص الكبرى للسيوطي، (ص: 326) المؤلف: أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبي بكر السيوطي، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت 1405 هـ 1985 م.
(3)
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنهم: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمارة، وهوذه بن قيس، انظر: لباب النقول في أسباب النزول، (ص: 71) المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، الناشر: دار إحياء العلوم بيروت.
(4)
سورة النساء الآية: (51).
(5)
انظر: لباب النقول في أسباب النزول، (ص: 71) نفس المصدر.