الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعَنْهُ، أنَّ الْقَبْض وَاسْتِدَامَتَهُ فِي الْمُتَعَيِّنِ لَيسَا بِشَرْطٍ، فَمَتَى امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ تَقْبِيضِهِ، أُجْبِرَ عَلَيهِ.
ــ
غاصِبٌ، فتَخَلَّلَ في يَدِه، كان مِلْكًا للمَغْصُوب منه، ولو زَالتْ يَدُه كان مِلْكًا للغاصِبِ، كما لو أراقَه، فجَمَعَه إنْسان فتَخَلَّلَ في يَدِه، كان له، دُونَ مَن أراقَه. وهذا القولُ هو قَوْلُنا الأوَّلُ في المَعْنَى، إلَّا أن يَقُولُوا ببَقاءِ اللُّزُومِ فيه حال كَوْنِه خَمْرًا. قال شيخُنا (1): ولم تَظْهَرْ لي فائِدَةُ الخِلافِ بعدَ اتِّفاقِهم على عَوْدِه رَهْنًا باسْتِحالتِه خَلًّا، وأرَى القولَ ببَقائِه رَهْنًا أقْرَبَ إلى الصِّحَّةِ؛ لأنَّ العَقْدَ لو بَطَل لَما عاد صَحِيحًا مِن غيرِ ابْتِداءِ عَقْدٍ. فإن قالُوا: يمكِنُ عَوْدُه صَحِيحًا؛ لعَوْدِ المَعْنَى الذي بَطَل بزَوالِه، كما أنَّ زَوْجَةَ الكافِرِ إذا أسْلَمَتْ خَرَجَتْ مِن حُكْمِ العَقْدِ؛ لاخْتِلافِ دِينهما، فإن أسْلَمَ الزَّوْجُ في العِدَّةِ عادَتِ الزَّوْجيَّةُ بالعَقْدِ الأوَّلِ، لزَوالِ الاخْتِلافِ في الدِّينِ. قلنا: هناك ما زالتِ الزَّوْجِيَّةُ ولا بَطَل العَقْدُ، ولو بَطَل بانْقِضاءِ العِدَّةِ، لَما عاد إلَّا بعَقْدٍ جَدِيدٍ، وإنَّما العَقْدُ كان مَوْقُوفًا مُراعًى، فإذا أسْلَمَ في العِدَّةِ، تَبَيَّنا أنَّه لم يَبْطُلْ، وإن لم يُسْلِمْ، تَبَيَّنَّا أنَّه كان قد بطَل، وها هنا قد جَزَمْتُمْ ببُطْلانِه.
1785 - مسألة: (وعنه، أن القَبْضَ واسْتِدامَتَه في المُتَعَيِّنِ لَيسَا بشَرْطٍ)
ويَلْزَمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ، كالبَيعِ. فعلى هذا، إنِ امْتَنَعَ الرّاهِنُ مِن
(1) في: المغني 6/ 461.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تَقْبِيضِه، أُجْبِرَ عليه، كالبَيعِ، فإن رَدَّه المُرْتَهِنُ على الرّاهِنِ بعارِيةٍ أو غيرِها، ثم طَلَبَه، أُجْبِرَ الرّاهِنُ على رَدِّه؛ لأنَّ الرَّهْنَ صَحِيحٌ، والقَبْضَ واجِبٌ له (1)، فيُجْبَرُ عليه، كبَيعِه.
فصل: وإذا اسْتَعارَ شيئًا ليَرْهَنَه، جاز. قال ابنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ كلُّ مَن نَحْفَظُ عنه مِن أهْلِ العِلْمِ على أنَّ الرجلَ إذا اسْتَعارَ مِن الرجلِ شَيئًا يَرْهَنُه على دَنانِيرَ مَعْلُومَةٍ عندَ رَجُلٍ سَمّاه، إلى وَقْتٍ مَعْلُوم، ففَعَلَ، أنَّ ذلك جائِزٌ. ويَنْبَغِي أن يَذْكُرَ المُرْتَهِنَ، والقَدْرَ الذي يَرْهَنُه به، وجِنْسَه، ومُدَّةَ الرَّهْنِ؛ لأنَّ الضَّرَرَ يَخْتَلِفُ بذلك، فاحْتِيجَ إلى بَيانِه، كأصْلِ الرَّهْنِ. ومتى شَرَط شيئًا مِن ذلك، فخَالفَ، ورَهَنَه بغَيرِه، لم يَصِحَّ الرَّهْنُ؛ لأنَّه لم يُؤْذَنْ له فيه، أشْبَهَ مَن لم يَأذَنْ في أصْلِ الرَّهْنِ. وهذا إجْماعٌ، حَكاهُ ابنُ المُنْذِرِ. فإن أذِن له في رَهْنِه بقَدْرٍ مِن المالِ، فنَقَص (2) عنه، صَحَّ؛ لأنَّ مَن أذن في شيءٍ، فقد أذِن في أقَل منه. وإن رَهَنَ بأكْثَرَ، احْتَمَلَ أن يَبْطُلَ في الكلِّ؛ لأنَّه خالفَ المَنْصُوصَ عليه، فبَطَلَ، كما لو قال: ارْهَنْهُ بدَنانِيرَ. فرَهَنَهُ بدَراهِمَ. أو: بحالٍّ.
(1) سقط من: م.
(2)
في الأصل: «قبض» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فرَهَنَه بمُؤَجَّلٍ، أو بالعَكْسِ، فإَّنه لا يَصِحُّ. وهذا مَنْصُوصُ الشَّافعيِّ. واحْتَمَلَ أن يَصِحَّ في القَدْرِ المَأذُونِ فيه، ويَبْطُلَ في الزّائِدِ عليه؛ لأنَّ العَقْدَ تَناوَلَ ما يَجُوزُ وما لا يَجُوزُ، فصَح فيما يَجُوزُ دُونَ غيرِه، كتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. ويُفارِقُ ما ذَكَرْنا من الأصُول، فإن العَقْدَ لم يَتَناوَلْ مَأذُونًا فيه بحالٍ، وكلُّ واحِدٍ مِن هذه الأمُورِ يَتَعَلَّقُ به غَرَضٌ لا يُوجَدُ في الآخرِ، فإن الرّاهِنَ قد يَقْدِرُ على فَكاكِه في الحال، ولا يَقْدِرُ على ذلك عندَ الأجَلِ، وبالعَكْسِ، وقد يَقْدِرُ على فَكاكِه بأحَد النَّقْدَينِ دُونَ الآخَرِ، فيَفُوتُ الغَرَضُ بالمُخالفَةِ. وفي مَسْألتِنا إذا صَحَّ في المائَةِ المَأذُونِ فيها، لم يَخْتَلِفِ الغَرَضُ. فإن أطْلَقَ الإِذْنَ في الرَّهْنِ مِن غيرِ تَعْيِين، فقال القاضِي: يَصِحُّ، وله رَهْنُه بما شاء. وهو قولُ أصحابِ الرّأي. وأحَدُ قَوْلَي الشَّافعيِّ. والآخَرُ، لا يَجوزُ حتَّى يُبَيِّنَ (1) قَدْرَ الذي يَرْهَنُه به وصِفتَه وحُلُولَه وتَأجِيلَه؛ لأنَّ هذا بمَنْزِلَةِ الضَّمانِ، لأنَّ مَنْفَعَةَ العَبْدِ لسَيِّدِه، والعارِيَّةُ ما أفادَتِ المَنْفَعَةَ، إنَّما حَصَّلَتْ له نَفْعًا يَكُونُ الرَّهْنُ وَثِيقَةً عنه، فهو بمَنْزِلَةِ الضَّمانِ في ذِمَّتِه، وضَمانُ المَجْهُولِ لا يَصِحُّ. ولَنا، أنَّها عارِيَّةٌ، فلم يُشْتَرَطْ لصِحَّتِها ذِكْرُ ذلك، كالعَارِيَّةِ لغيرِ الرَّهْنِ، والدَّلِيلُ
(1) في م: «يتبين» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
على أنَّه عارِيَّة أنَّه قَبَضَ مِلْكَ غيرِه لمَنْفَعَةِ نفسِه مُنْفَرِدًا بها مِن غيرِ عِوَض، فكان عارِيَّةً، كقَبْضِه للخِدْمَةِ. وقَوْلُهم: إنَّه ضَمانٌ. غيرُ صَحِيح؛ لأنَّ الضَّمانَ يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ، وهذا يَثْبُتُ في الرَّقَبَةِ، ولأنَّ الضَّمانَ لازِمٌ في حَقِّ الضّامِنِ، وهذا له الرُّجُوعُ في العَبْدِ قبلَ الرَّهْنِ وإلْزامُ المُسْتَعِيرِ بِفَكاكِه بعدَه. وقَوْلُهم: إنَّ المَنافِعَ للسَّيِّدِ. قُلْنا: المَنافِعُ مُخْتَلِفَة، فيَجُوزُ أن يَسْتَعِيرَه لتَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ واحِدَةٍ، وسائِرُ المَنافِعِ للسَّيِّدِ، كما لو اسْتَعارَه لحِفْظِ مَتاعٍ، وهو مع ذلك يَخِيطُ لسَيِّدِه أو يَعْمَلُ له شيئًا، أو اسْتَعارَه ليَخِيطَ له ويَحْفَظُ المَتاعَ لسَيِّدِه. فإن قيل: لو كان عارِيَّةً، لَما صَحَّ رَهْنُه؛ لأنَّ العارِيَّةَ لا تَلْزَمُ، والرَّهْنُ لازِمٌ. قُلْنا: العارِيَّةُ غيرُ لازِمَةٍ مِن جِهةِ المُسْتَعِيرِ، فإنَّ لصاحِبِ العَبْدِ المُطالبَةَ بفَكَاكِه قبلَ حُلُولِ الدَّينِ. ولأنَّ العارِيَّةَ قد تَكُونُ لازِمَةً فيما إذا أعارَه حائِطًا ليَبْنِيَ عليه، أو أرْضًا ليَزْرَعَ فيها ما لا يُحْصَدُ قَصِيلًا، ثم هو مَنْقُوضٌ بما إذا اسْتَعارَه ليَرْهَنَه بدَينٍ مَوْصُوفٍ عندَ رَجُل مُعَيّن إلى أجل مَعْلُوم. إذا ثَبَت ذلك، فإنَّه يَصِحُّ رَهْنُه بما شاء إلى أيِّ وَقْتٍ شاء؛ لأنَّ الإِذْنَ يَتَناوَلُ الكُلَّ بإطْلاقِه، وللسَّيِّدِ مُطالبَةُ الرّاهِنِ بفَكَاكِه، حالًّا كان أو مُؤَجَّلًا، في محِلِّ الحَقِّ وقبلَه؛ لأنَّ العاريَّةَ لا تَلْزَمُ. ومَتَى حَلَّ الحَّقُّ فلم يَقْبِضْه، فللمُرْتَهِنِ بَيعُ الرَّهْنِ، واسْتِيفاءُ الدَّينِ مِن ثَمَنِه، ويَرْجِعُ المُعِيرُ على الرّاهِنِ بالضَّمانِ، وهو قِيمَةُ العَينِ المُسْتَعارَةِ، أو مثلُها إن كانت مِن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ذَواتِ الأمْثالِ، ولا يَرْجِعُ بما بِيعَتْ به (1)، سواءٌ بِيعَتْ بأقَلَّ مِن القِيمَةِ أو أكْثَرَ، في أحَدِ الوَجْهَينِ. والثّاني، أنَّها إن بِيعَتْ بأقَلَّ مِن قِيمَتِها رَجَع بالقِيمَةِ؛ لأنَّ العارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ، فيَضْمَنُ نَقْصَ ثَمَنِها، وإن بِيعَت بأكْثَرَ، رَجَع بما بِيعَتْ به؛ لأنَّ العَبْدَ مِلْكٌ للمُعِيرِ، فيَكُونُ ثَمَنُه كلُّه له. وكذك لو أسْقَطَ المُرْتَهِنُ حَقَّه عن الرَّاهِنِ، رَجَع الثَّمَنُ كلُّه إلى صاحِبِه. فإذا قَضَى به دَينَ الرَّاهِنِ رَجَع به عليه، ولا يَلْزَمُ مِن وُجُوبِ (1) ضَمانِ النَّقْصِ أن لا تَكُونَ الزِّيادَةُ لِصاحِبِ العَبْدِ، كما لو كان باقِيًا بعَينِه. فأمَّا إن تَلِف الرَّهْنُ، فإن الرّاهِنَ يَضْمَنُه بقِيمَتِه، سَواءٌ تَلِف بتَفْرِيطٍ، أو بغَيرِ تَفْرِيطٍ. نصَّ عليه أحمدُ؛ لأنَّ العارِيَّةَ مَضْمُونة.
فصل: وإن فَكَّ المُعِيرُ الرَّهْنَ، وأدَّى الدَّينَ الذي عليه بإذْنِ الرَّاهِنِ، رَجَع به (1) عليه. وإن قَضاه مُتَبَرِّعًا، لم يَرْجِعْ بشيءٍ. وإن قَضاه بغيرِ إذْنِه مُحْتَسِبًا بالرُّجُوعِ، فهل يَرْجِعُ؟ على رِوايَتَين، بِناءً على ما إذا قَضَى دَينَه بغيرِ إذْنِه، وَيَتَرَجَّحُ الرُّجُوعُ ها هنا؛ لأنَّ له المُطالبَةَ بفَكاكِ عَبْدِه، وأداءُ دَينِه فَكاكُه. وإنِ اخْتَلَفا في الإِذْنِ، فالقولُ قولُ الرَّاهِنِ مع يَمِينِه؛ لأَنه مُنْكِرٌ. وإن شَهِد المُرْتَهِنُ للمُعيرِ، قُبِلَتْ شَهادَتُه؛ لأنَّه لا يَجُرُّ بِها نَفْعًا،
(1) سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا يَدْفَعُ بها ضَرَرًا. وإن قال: أذِنْتَ لي في رَهْنِه بعَشرَةٍ. قال: بل (1) بخَمْسَةٍ. فالقولُ قولُ المالك؛ لأنَّه مُنْكِر للزِّيادَةِ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأصحابُ الرَّأْي. وإن كان الدَّينُ مُؤَجَّلًا، ققَضاه حَالًّا بإذْنِه، رَجَع به حالًّا. وإن قَضاهُ بغَيرِ إذْنِه، فقال القاضِي: يَرْجِعُ به حالًّا أيضًا؛ لأنَّ له المُطالبَةَ بفَكاكِ عَبْدِه في الحالِ.
فصل: ولو اسْتَعارَ مِن رجل عَبْدًا ليَرْهَنَه بمائةٍ، فرَهَنَه عندَ رَجُلَين، صَحَّ؛ لأنَّ تَعْيِينَ ما يَرْهَنُ به ليس شَرْطًا، فكذلك مَن يَرْهَنُ عندَه. ولأنَّ رَهنَهُ مِن اثْنَين أقَلُّ ضَرَرًا؛ لأنَّه يَنْفَكُّ منه بَعْضُه بقَضاءِ بعضِ الدَّينِ، بخِلافِ ما إذا رَهَنَه عندَ واحِدٍ. فإذا قَضَى أحَدَهما ما عليه مِن الدَّينِ، خَرَج نَصِيبُه مِن الرَّهْنِ؛ لأنَّ عَقْدَ الواحِدِ مع الاثْنَين عَقْدان في الحَقِيقَة. ولو اسْتَعارَ عَبْدًا مِن رَجُلَين، فرَهَنَه عندَ واحِدٍ بمائَةٍ، فقَضاهُ نِصْفَها من أحَدِ النَّصِيبَين، لم يَنْفَكَّ مِن الرَّهْنِ شيءٌ، في أحَدِ الوَجْهَين؛ لأنَّه عَقْدٌ واحِد مِن راهِن واحِدٍ، مع مُرْتَهِن واحِدٍ، أشْبَهَ ما لو كان العَبْدُ لواحِدٍ. والثَّانِي، يَنْفَكُّ نِصْفُ العَبْدِ؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما إنَّما أذِنَ في رَهْنِ نَصِيبِه بخَمْسِين، فلا يَكُونُ رَهْنًا بأكثَرَ منها (2)، كما لو قال
(1) سقط من: ق، م.
(2)
في ر 1، م:«منهما» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
له: ارْهَنْ نَصِيبي بخَمْسِين، لا تَزِدْ عليها. فعلى هذا الوَجْهِ، إن كان المُرْتَهِنُ عالِمًا بذلك، فلا خِيارَ له، وإن لم يَكُنْ عالِمًا، والرَّهْنُ مَشْرُوط في بَيعٍ (1)، احْتَمَلَ أنَّ له الخِيارَ؛ لأنَّه دَخَل على أنَّ كلَّ جُزْءٍ مِن الرَّهْنِ وَثِيقَة بجَمِيعِ. الدَّين، وقد فاتَه ذلك، واحْتَمَلَ أن لا يَكُون له خِيارٌ؛ لأنَّ الرَّهْنَ سُلِّمَ له كلَّه بالدَّينِ كله، وهو قد دَخَل على ذلك. ولو كان رَهَن هذا العَبْدَ عندَ رَجُلَين، فَقَضَى أحَدَهما، انْفَكَّ نصِيبُ كلِّ واحِدٍ مِن المُعِيرَينِ مِن نِصْفِه. وإن قَضَى نِصْفَ دَينِ أحَدِهِما، انْفَكَّ نصِيبُ أحَدِهما، على أحَدِ الوَجْهَين. وفي الآخَرِ، يَنْفَكُّ نِصْفُ نَصِيبِ كلِّ واحِدٍ منهما.
فصل: ولو كان لرَجُلَين عَبْدان، فأذِنَ كلُّ واحِدٍ منهما لشَرِيكِه في رَهْنِ نَصِيبِه مِن أحَدِ العَبْدَين، فرَهَناهما عندَ رجل مُطْلَقًا، صَحَّ. فإن شَرَط أحَدُهما، أنَّنِي متى قَضَيتُ ما عليَّ مِن الدَّين، انْفَكَّ الرَّهْنُ في العَبْدِ الذي رَهَنْتُه، وفي العَبْدِ الآخَرِ، أو (2) في قَدْرِ نصِيبِي مِن العَبْدِ الآخَرِ. فهذا شَرْطٌ فاسِدٌ؛ لأنَّه شَرَط أن يَنْفَكَّ بقَضاءِ الدَّينِ رَهْن علي دَين آخَرَ، ويَفْسُدُ الرَّهْنُ؛ لأنَّ في هذا الشَّرْطِ نَقْصًا على المُرْتَّهِنِ، وكلّ شَرْطٍ فاسِدٍ يَنْقُصُ حَقَّ المُرْتَّهِنِ، يُفْسِدُ الرَّهْنَ. فأمَّا إن شَرَط أنَّه لا يَنْفَكُّ شيء مِن
(1) بعده في الأصل: «واحد» .
(2)
في الأصل: «و» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
العَبْدِ حتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّينِ، فهو فاسِدٌ أيضًا؛ لأنَّه شَرَط أن يَبْقَى الرَّهْنُ مَحْبُوسًا بغيرِ الدَّينِ الذي هو رَهْنٌ به، لكنَّه لا يَنْقُصُ حَقَّ المُرْتَهِن، فهل يَفْسُدُ الرَّهْنُ بذلك؟ على وَجْهَين. وقد ذَكَرْنا أنَّ الرَّهْنَ لا يَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ في الصَّحِيحِ.
فصل: والقَبْضُ في الرَّهْنِ كالقَبْضِ في البَيعِ، على ما ذَكَرْناه. فلو رَهَنَه دارًا، فخَلَّى بينَه وبينَها، وللرَّاهِنِ فيها قُماشٌ، لم يَمْنَعْ مِن صِحَّةِ التَّسْلِيمِ؛ لأنَّ اتِّصالها بمِلْكِ الرَّاهِنِ لا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ، كالثَّمَرَةِ في الشَّجَرَةِ. وكذلك الدّابَّةُ التي عليها حِمْلٌ للرَّاهِنِ. ولو رَهَن الحِمْلَ وهو على الدّابَّةِ، وسَلَّمَها إليه بحِمْلِها، صَحَّ القَبْضُ؛ لأنَّه حَصل فيهما جَمِيعًا، فيَكُونُ مَوْجُودًا في الرَّهْنِ منهما.
فصل: وإذا رَهَنَه سَهْمًا مُشاعًا مِمّا لا يُنْقَلُ، خَلَّى بينَه وبينَه وإن لم يَحْضُرِ الشَّرِيكُ. وإن كان مَنْقُولًا كالجَوْهَرِ، فقَبْضُها تَناوُلُها، ولا يُمْكِنُ تَناوُلُها إلَّا برِضا الشَّرِيكِ، فإن رَضِيَ الشَّرِيكُ، تَناوَلَها المُرْتَهِنُ، وإنِ امْتَنَعَ، فرَضِيَ الرّاهِنُ أو المُرْتَهِنُ بيَدِ (1) الشَّرِيكِ، جاز، وناب عن المُرْتَّهِنِ في القَبْضِ. إن تَنازَعَ الشَّرِيكُ والمُرْتَهِنُ، أقامَ الحاكِمُ عَدْلًا تَكَونُ في يَدِه لهما، وإن سَلَّمَها الرّاهِنُ إلى المُرْتَّهِنِ بغيرِ إذْنِ الشَّرِيكِ،
(1) في المغني 6/ 451: «كونها بيد» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فتَناوَلَها، وقُلْنا: اسْتِدامَةُ القَبْضِ شَرْطٌ. لم يَكْفِ هذا التَّناوُلُ. وإن قُلْنا: ليس بشَرْطٍ. فقد حَصَل القَبْضُ؛ لأنَّ الرَّهْنَ حَصَل في يَدِه، والتَّعَدِّي في غيرِه لا يَمْنَعُ صِحَّةَ القَبْض، كما لو رَهَنَه ثَوْبًا، فسَلَّمَه إليه مع ثَوْبٍ غيرِه، فَتناوَلَهما جَمِيعًا. ولو رَهَنَه ثَوْبًا، فاشْتَبَهَ عليه بغَيرِه، فسَلَّمَ إليه أحَدَهما، لم يَثْبُتِ القَبْضُ؛ لأنَّه لا يَعْلَمُ أنَّه أقْبَضَه الرَّهْنَ، فإن تَبَيَّنَ أنَّه الرَّهْنُ، صَحَّ القَبْضُ، وإنْ سَلَّمَ إليه الثَّوْبَين مَعًا، حَصَل القَبْضُ؛ لأنَّه قد تَسَلَّمَ الرَّهْنَ يَقِينًا.
فصل: ولو رَهَنَه دَارًا، فخَلَّى بينَه وبينَها، وهما فيها، ثم خَرَج الرَّاهِنُ، صَح القَبْضُ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ حتَّى يُخَلِّيَ بينَه وبينَها بعدَ خُرُوجه منها؛ لأنَّه ما كان في الدَّارِ فيدُه عليها، فما حَصَلَتِ التَّخْلِيَةُ. ولَنا، أنَّ التَّخْلِيَةَ تَصِحُّ بقَوْلِه مع التَّمْكِينِ منها وعَدَمِ المانِع، أشْبَهَ ما لو كانا خارِجَين عنها، ولا يَصِحُّ ما ذَكَرَه؛ [ألَا تَرَى أنَّ](1) خرُوجَ المُرْتَهِن منها لا يُزِيلُ يَدَه عنها، ودُخولَه إلى دارِ غَيرِه لا يُثْبِتُ يَدَه عليها، ولأَنَّه بخُرُوجه عنها مُحَقِّقٌ لقَوْلِه، فلا مَعْنَى لإِعادَةِ التَّخْلِيَةِ.
فصل: وإن رَهَنَه مالًا في يَدِ المُرْتَّهِنِ؛ عارِيَّةً، أو وَدِيعَةً، أو غَصْبًا، أو نحوَه، صَحَّ الرَّهْنُ؛ لأنَّه مالكٌ له يُمْكِنُ قَبْضُه، فصَحَّ رَهْنُه، كما لو
(1) في م: «لأنَّ» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كان في يَدِه. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ لُزُومُ الرَّهْنِ ها هنا بنَفْسِ العَقْدِ، مِن غيرِ احْتِياجٍ إلى أمْر زائِدٍ، فإنَّه قال: إذا حَصَلَتِ الوَدِيعةُ في يَدِه بعدَ الرَّهْنِ، فهو رَهْنٌ. فلم يَعْتَبِرْ أمْرًا زائِدًا؛ وذلك لأنَّ اليَدَ ثابتَةٌ، والقَبْضَ حاصِلٌ، وإنَّما يَتَغَيَّرُ (1) الحُكْمُ لا غيرُ، ويُمْكِنُ تَغَيُّرُ الحُكْمَ مع اسْتِدامَةِ القَبْضٍ، كما أنَّه لو طُولِبَ بالوَدِيعَةِ فجَحَدَها لتَغَيَّرَ الحُكْمُ، وصارَتْ مَضْمُونةً عليه مِن غيرِ أمْرٍ زائِدٍ. ولو عاد الجاحِدُ فأقَرَّ بها، وقال لصاحِبِها: خُذْ وَدِيعَتَكَ. فقال: دَعْها عندَك وَدِيعَةً كما كانت، ولا ضَمانَ عليك فيها. لتَغَيَّرَ الحُكْمُ مِن غيرِ حُدُوثِ أمْرٍ زائِدٍ. وقال القاضِي، [وأصحِابُه و] (2) الشافعيُّ: لا يَصِيرُ رَهْنًا حتَّى تَمْضِيَ مُدَّة يَتَأتَّى قَبْضُه فيها، فإن كان مَنْقُولًا، فبمُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ نَقْلُه فيها، وإن كان مَكِيلًا، فبمُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ اكْتِيَالُه فيها، وإن كان غيرَ مَنْقُولٍ، فبمُضِيِّ مُدَّةِ التَّخْلِيَةِ، وإن كان غائِبًا عن المُرْتَّهِنِ، لم يَصِرْ مَقْبُوضًا حتَّى يُوافِيَه (3) هو أو وَكِيلُه ثم تَمْضِي مُدَّةٌ يُمْكِنُ قَبْضُه فيها؛ لأنَّ العَقْدَ يَفْتَقِرُ إلى القَبْضِ، والقَبْضَ إنَّما يَحْصُلُ بفِعْلِه أو بإمْكانِه، فَيَكْفِي ذلك، ولا يَحْتاجُ إلى وُجُودِ حَقِيقَةِ القَبْضِ؛ لأنَّه مَقْبُوضٌ حَقِيقَةً. فإن تَلِف قبلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأتَّى قَبْضُه فيها، فهو كتَلفِ الرَّهْنِ قبلَ قَبْضِه. ثم هل يَفْتَقِرُ إلى الإِذْنِ مِن الرَّاهِنِ في القَبْضِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَين؛ أحَدُهما يَفْتَقِرُ؛ لأنَّه
(1) في الأصل، ر 1:«يعتبر» .
(2)
في م: «وأصحاب» .
(3)
في م: «يوفيه» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَبْضٌ يَلْزَمُ به عَقْدٌ غيرُ لازِم، فلم يَحْصُلْ بغيرِ إذْنٍ، كما لو كان في يَدِ الرَّاهِنِ، وإقْرارُه في يَدِه لا يَكْفِي، كما لو أقَرَّ المَغْصُوبَ في يدِ غاصِبِه مع إمْكانِ أخْذِه منه. والثانِي، لا يَفْتَقِرُ؛ لأنَّ إقْرَارَه في يَدِه بمَنْزِلَةِ إذْنِه في القَبْضِ، فإن أُذِنَ له في القَبْضِ، ثم رَجَعِ عنه قبلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأتَّى القَبْضُ فيها، لم يَلْزَمِ الرَّهْنُ حتَّى يَعُودَ فيَأذَنَ ثم تمْضِى مُدَّة يَقْبِضُه في مثْلِها.
فصل: وإذا رَهَنَه المَضْمُونَ على المُرْتَهن؛ كالمَغْصُوبِ، والعارِيَّةِ، والمَقْبُوضِ على وَجْهِ السَّوْمِ، أو في بَيع فاسِدٍ، صَحَّ، وزاكَ الضَّمانُ. وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ. وقال الشَّافعي: لا يَزُولُ الضَّمانُ، ويَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ، والحُكْمُ الذي كان ثابِتًا فيه يَبْقَى بحَالِه؛ لأنَّه لا تَنافِيَ بينَهما، بدَلِيلِ أنَّه لو تَعَدَّى في الرَّهْنِ، صارَ مَضْمُونًا، وهو رَهْنٌ كما كان، فكذلك ابْتداؤه؛ لأنَّه أحَدُ حالتَيِ الرَّهْنِ. ولَنا، أنَّه مَأذُونٌ له في إمْساكِه رَهْنًا، لم يَتَجَدَّدْ فيه منه عُدْوَانٌ، فلم يَضْمَنْه، كما لو قَبَضَه منه ثم أقْبَضَه إيّاه، أو أبرَأه مِن ضَمانِه. وقَوْلُهم: لا تَنافِيَ بينَهما. مَمْنُوعٌ؛ فإن الغاصِبَ يَدُه عادِيَةٌ يَجِبُ عليه إزالتها، ويَدُ المُرْتَّهِنِ مُحِقَّةٌ (1) جَعَلَها الشَّرْع له، ويَدُ المُرْتَّهِنِ يَدُ أمانَةٍ. ويَدُ الغاصِبِ والمُسْتَعِيرِ ونحوهما يَدٌ ضامِنَةٌ، وهذان مُتَنافِيَان. ولأنَّ السَّبَبَ المُقْتَضِيَ للضَّمانِ زال، فزال الضَّمانُ لزَوالِه، كما لو رَدَّه إلى مالِكِه، وذلك لأنَّ سَبَبَ الضَّمانِ الغَصْبُ أو العارِيَّةُ ونحوُهما، وهذا لم يَبْقَ غاصِبًا ولا مُسْتَعِيرًا، ولا يَبْقَى الحُكْمُ
(1) في م: «محققة» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مع زَوالِ سَبَبه وحدوثِ سَبَبٍ يُخالِفِ حُكْمُه حُكْمَه، وأمّا إذا تَعَدَّى في الرَّهْنِ، فإنَّه يَلْزَمُه الضَّمَانُ؛ لعُدْوانِه، لا لكَوْنِه غاصِبًا ولا مُسْتَعِيرًا، وها هنا قد زال سَبَبُ الضَّمانِ، ولم يَحْدُثْ ما يُوجِبُه، فلم يَثْبُتْ.
فصل: وإذا رَهَنَه عَينَين، فتَلِفَتْ إحْداهُما قبلَ قَبْضِها، انْفَسَخَ العَقْدُ فيها دُونَ الباقِيَة؛ لأنَّ العَقْدَ كان صَحِيحًا فيهِما، وإنَّما طَرَأ انْفساخُ العَقْدِ في إحْداهُما، فلم يُوثِّرْ في الأخْرَى، كما لو اشْتَرَى شَيئَين فرَدَّ أحَدَهما بعَيبٍ أو غيرِه. والرّاهِن مخَيَّرٌ بينَ إقْباضِ الباقِيَة وبينَ مَنْعِها، إذا قُلْنا: إنَّ الرَّهْنَ لا يَلْزَمُ إلَّا بالقَبْضِ. وإن كان التَّلَفُ بعدَ قَبْضِ الأخْرَى، لَزِم الرَّهْنُ فيها، فإن كان الرَّهْنُ مَشْرُوطًا في بَيع، ثَبَت للبائِع الخِيارُ، لتَعَذُّرِ الرَّهْنِ بكَمالِه، فإن رَضِيَ لم يَكُنْ له المُطالبَةُ ببَدَلِ التالِفَةِ؛ لأنَّ الرَّهْنَ لم يَلْزَمْ فيها، وتَكُونُ المَقْبُوضَة رَهْنًا بجَمِيعِ الثَّمَنِ. فإن تَلِفَت إحْدَى العَينَين بعدَ القَبْضِ، فلا خِيارَ للبائِعِ؛ لأنَّ الرَّهْنَ لو تَلِف كلُّه، لم يَثْبُتْ للبائِعِ خِيارٌ، فإذا تَلِف بَعْضُه كانَ أوْلَى، ثم إن كان تَلَفُها بعدَ قَبْضِ العَينِ الأخْرَى، فقد لَزِم الرَّهْنُ فيها، وإنْ كان قبلَ قَبْضِ الأخْرَى، فالرَّاهِنُ مُخَيَّرٌ بينَ إقْباضِها وبينَ تَرْكِه، فإنِ امْتَنَعَ مِن تَقْبِيضِها، ثَبَت للبائِعِ الخِيارُ، كما لو لم (1) تَتْلَفِ الأخرَى.
فصل: وإذا رَهَنَه دَارًا، فانْهَدَمَتْ قبلَ قَبْضِها، لم يَنْفَسِخْ عَقْدُ الرَّهْنِ؛ لأنَّ مالِيَّتَهَا لم تَذْهَبْ بالكُلِّيَّةِ، فإنَّ عَرْصَتَها وأنْقاضَها باقِيَةٌ،
(1) سقط من: الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ويَثْبُتُ للمُرْتَهِنِ الخِيارُ إن كان الرَّهْنُ مَشْرُوطًا في بَيعٍ؛ لتَعَيُّبِها (1) ونقْصِ قِيمَتِها. فإن قيلَ: فلِمَ لا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الرَّهْنِ، كعَقْدِ الإِجارَةِ؟ قُلْنا: الإِجارَةُ عَقْدٌ على مَنْفَعَةِ السُّكْنَى، وقد تَعَذَّرَتْ وعَدِمَتْ، فبَطَلَ العَقْدُ؛ لعَدَمِ المَعْقُود عليه، والرَّهْنُ عَقْدُ اسْتِيثاقٍ يَتَعَلَّقُ بالأعْيانِ التي فيها المالِيَّةُ، وهي باقِيَةٌ. فعلى هذا، تَكُونُ العَرْصَةُ والأنْقاضُ مِن الخَشَبِ والأحْجارِ ونحوها مِن الرَّهْنِ؛ لأنَّ العَقْدَ وارِدٌ على جَمِيعِ الأعْيانِ، والأنْقاضُ منها، وما دَخَل في العَقْدِ اسْتَقَرَّ بالقَبْضِ.
فصل: ويَجُوزُ للمُرْتَهِنِ أن يُوَكِّلَ في قَبْضِ الرَّهْنِ، ويَقُومُ قَبْضُ وَكِيله مَقامَ قَبْضِه في لُزُومِ الرَّهْنِ وسائِرِ أحْكَامِه. فإن وكَّلَ المُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ في قَبْضِ الرَّهْنِ له مِن نَفْسِه، لم يَصِحَّ، ولم يَكُنْ قَبْضًا؛ لأنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ ليَسْتَوْفِيَ الحَقَّ منه عندَ تَعَذُّرِ اسْتِيفائِه مِن الرَّاهِنِ، فإذا كان في يَدِ الرَّاهِنِ لم يَحْصُلْ مَعْنَى الوَثِيقَةِ، وقد ذَكَرْنا في البَيعِ، أنَّ المُشْتَرِيَ لو دَفَعِ إلى البائِعِ وعاءً، وقال: كِلْ لِي حَقِّي فيه. ففَعَلَ، كان قَبْضًا، فيُخرَّجُ ههُنا مِثْلُه.
فصل: إذا أقَرَّ الرَّاهِنُ بتَقْبيضِ الرَّهْن، أو أقَرَّ المُرْتَهِنُ بقَبْضِه، كان مَقْبُولًا فيما يُمْكِنُ صِدْقُهما فيه. فإن أقَرَّ الرَّاهِنُ بالتَّقْبِيضِ ثم أنْكَرَ، وقال: أقرَرْتُ بذلك ولم أكنْ أقْبَضْتُ شيئًا. أو أقَرَّ المُرْتَهِنُ بالقَبْضِ ثم أنْكَرَه، فالقولُ قولُ المُقَرِّ له، فإن طَلَب المُنْكِرُ يَمِينَه، ففيه
(1) في الأصل: «لتعينها» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَجْهان؛ أحَدُهما، لا يَلْزَمُه يَمين؛ لأنَّ الإِقْرارَ أقْوَى مِن البَيِّنةِ، ولو قامَتِ البَيِّنةُ بذلك، فطَلَب المَشْهُودُ عليه يَمينَ خَصْمِه، لم يُجَبْ إليها، فكذلك الإِقْرارُ. والثَّانِي، يَلْزَمُه اليَمِينُ. وهو قولُ الشَّافعيِّ. وهو أوْلَى، لأنَّ العادَةَ جارِيَةٌ بأنَّ الانْسانَ يَشْهَدُ على نَفْسِه بالقَبْضِ قبلَه، فكذلك تُسْمَعُ دَعْواه، ويَلْزَمُ خَصْمَه اليَمِينُ؛ لِما ذَكَرْنا مِن حُكْمِ العادَةِ، بخِلافِ البَيِّنةِ، فإنَّها لا تَشْهَدُ (1) بالحَقِّ قبلَه، ولو فَعَلَتْ ذلك ثم تَكُنْ عادِلَةً. وقال القاضِي: إن كان المُقِرُّ غائِبًا، فقال: أقْرَرْتُ؛ لأنَّ وكِيلي، كَتَب إلَيَّ بذلك، ثم بان لي خِلافُه. سَمِعْنا قَوْلَه، وأحْلَفْنا خَصْمَه. وإن أقَرَّ أنَّه باشَرَ ذلك بنَفْسِه، ثم عاد فأكْذَبَ نَفْسَه، لم يُحْلَفْ خَصْمُه. وهذا قولُ بَعْضِ أصْحابِ الشَّافعيِّ. فأمَّا إنِ اخْتَلَفا في القَبْض، فقال المُرْتَهِنُ: قَبَّضْتُه. وأنْكَرَ الرَّاهِنُ، فالقَوْلُ قولُ صاحِبِ اليَدِ؛ لأنَّه إن كان في يَدِ الرَّاهِنِ، فالأصْلُ معه، وهو عَدَمُ الإقْباضِ، ولم يُوجَدْ ما يَدُلُّ على خِلافِه، وإن كان في يَدِ المُرْتَّهِنِ، فقد وُجِدَ القَبْضُ، لكَوْنِه لا يَحْصُلُ في يَدِه إلَّا بعدَ قَبْضِه. وإنِ اخْتَلَفا في الإِذْنِ، فقال الرَّاهِنُ: أخَذْتَه بغَيرِ إذْنِي. قال: بل بإذْنِك. وهو في يَدِ المُرْتَّهِنِ، فالقَوْلُ قولُه؛ لأنَّ الظّاهِرَ معه، فإنَّ العَقْدَ قد وُجِدَ، ويَدُه تَدُلُّ على أنَّه بحَقٍّ. ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ القولُ قولَ الرَّاهِنِ؛ لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الإِذْنِ. وهذا مَذْهَبُ الشَّافعيِّ. ذَكَر القاضِي هَذَين الوَجْهَين.
(1) بعده في م: «إلَّا» .