الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[53/أ]
حاله-نسأ الله في أجله
-
هو معيد البلاغة ومبديها، وعالم الأندلس ومفتيها، ومظهر مشكلات العلوم ومجليها. وشيخها وفتاها، وحامل لواها، وفارس البراعة والمتلفع برداها. قد تحلى بالسكينة والتقوى، والتزم الطاعة في السر والنّجوى. إن حضر مع الفقهاء مجلسا، واحتل للأدباء مكنسا؛ فله يتبعون، وعلى قوله يعولون. وهو المصيب في كلامه ونظمه، بثقوب ذهنه واتساع علمه. مع باع مديد في النحو واللغة الغريبة، وحفظ للآداب والتواريخ العجيبة، ومعرفة شديدة، بالأصول والفروع والحديث، مصيبة. ونبل فائق في العروض والمنطق والبيان، وعلم الكلام والقراءات وتفسير القرآن. وهو (يرى)؟ (1) في كل لهذه (2) العلوم قاريا، ولتدريسها ملازما، وعلى نهج تبيانها جاريا. وينظم القصائد النفائس، فتأتي كالقلائد في أجياد العرائس.
ولعمري ما تكلم مع أحد من الناس، في توجيه مسألة فقهية أو قياس؛ إلا كان له عليه الظهور، شهد له بذلك الخاصة والجمهور.
أنشدني لنفسه يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا البرق ثار أثار ادّكارا
…
لقلبي فأذكى عليه أوارا (3)
تروم جفوني لنار الهوى
…
خمودا فتهمي دموعي غزارا
فماء جفوني يسحّ انهمالا
…
ونار فؤادي تهيج استعارا
(1) كلمة لم تتضح لي، وهذه أقرب قراءة تبينتها.
(2)
في النسختين: لهذا، ولعله كما أثبت.
(3)
نقل المقري في نفح الطيب (5:510 - 521) القصيدة عدا البيت 11.
أطيل العويل صباح (1) مساء
…
كئيبا ولست أطيق اصطبارا
5 رقيت مراقي للحبّ شتى
…
فأفنى مرارا وأحيى مرارا
أحنّ اشتياقا لريح مرت
…
وأبدي هياما لبرق آنارا
[53/ب]
حنينا وشوقا إلى معلم
…
حوى شرفا خالدا لا يجارى
به أسكن الله أسمى الورى
…
نبيّا كريما، وصحبا خيارا
هو المصطفى المنتقى المجتبى
…
أرى معجزات وآيا كبارا
10 يحقّ علينا ركوب البحار
…
وجوب القفار إليه ابتدارا
وأمّ ذراه فمن يعطه
…
كفاه اعتلاء، أجل، وافتخارا
فيا فوز من فاز في طيبة
…
بلثم المغاني جدارا جدارا
وألصق خدّا على تربها
…
وأكمل حجّا بها واعتمارا
وأهدى السّلام لخير الأنام
…
على حين وافى عليه فزارا
15 لأنت الوسيلة والمرتجى
…
ليوم يرى الناس فيه سكارى
وما هم سكارى ولكنّهم
…
دهتهم دواه فهاموا حيارى
ترى المرء للهول من أمّه
…
ومن أقربيه يطيل الفرارا
وكل يخاف على نفسه
…
فيكسوه خوف الإله انكسارا
فصلّى الإله-رسول الهدى-
…
عليك، وأبقى هداك منارا
(1) في النفح: صباحا.
20 وقدّس ربي ثرى روضة
…
يعمّ الجهات سناها انتشارا
أعير شذى المسك منها الثّرى
…
بل المسك منها شذاه استعارا
هنيئا لمن بهداك اهتدى
…
ومغناك وافى وإيّاك زارا
قال إسماعيل بن الأحمر، مؤلف هذا الكتاب: أخبرني شيخنا أبو سعيد هذا، أنه عارض بقصيدته (1) هذه قصيدة الفقيه الإمام القاضي الرئيس شهاب الدين أبي الثناء محمود بن سليمان بن فهد الحلبي (*) صاحب «ديوان الإنشاء بالشام» التي هي:
وصلنا السّرى وهجرنا الدّيارا
…
وجئناك نطوي إليك القفارا
وهذه القصيدة نظمها الرئيس أبو الثناء بالحجاز الشّريف في طريق
(1) في م: قصيده، وفي ط قصيدة، ولعله كما أثبت.
(*) شهاب الدين محمود بن سليمان (وقيل سلمان) بن فهد الحنبلي الحلبي ثم الدمشقي، من كتاب ديوان الإنشاء المشهورين. ولد بحلب سنة 664، وولي كتابة الإنشاء في دمشق وانتقل فعمل في مصر مدة ثم عاد إلى دمشق، واستمر فيها إلى وفاته سنة 725. وولي كتابة السر ثماني سنوات قبل وفاته. قال في الأعلام «وكان شيخ صناعة الإنشاء في عصره. وعرف الشهاب محمود كاتبا بليغا-لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله-وشاعرا مشهورا» . له كتب ومصنفات في الترسل والأدب والتراجم، وشعر غزير. وقال ابن حجر إن شعره يقع في ثلاثين مجلدة. (ترجمته في الدرر الكامنة 4:324 وفوات الوفيات 2:564 والبداية والنهاية 4: 120 وشذرات الذهب 6:69 والأعلام 8:49).
المدينة شرفها الله-وعلى ساكنها السلام. وقد شرحتها، وشرحي لها أذكره هنا معها.
وحدّثني بالقصيدة شيخاي الفقيهان الإمامان العالمان المحصلان المفتيان القاضيان الخطيبان: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الملك الفشتالي قاضي الجماعة بفاس (1)، والشريف أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن الحسني المعروف بالمومناني الفاسي عن الفقيه الإمام المحدث الرواية المسند الحافظ الحاج الرحّال محبّ الدين أبي عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن رشيد الفهري السّبتي (2)، نزيل فاس. قال أنشدني لنفسه الفقيه الإمام العام العلامة الرئيس القاضي شهاب الدين أبو الثناء محمود ابن سليمان بن فهد الحلبي في سنة تسع وثمانين وست مئة بطريق المدينة:
وصلنا السّرى وهجرنا الدّيارا
…
وجئناك نطوي إليك القفارا
أتيناك نحدو البكا والرّكاب
…
ونبعث إثر القطار القطارا
(1) ترجم له لسان الدين في الإحاطة (2:133) وأحمد بابا في نيل الابتهاج (265) وغيرهما. ووصفه ابن الخطيب بأنه مديد الباع في فن الأدب، شاعر مجيد وكاتب بليغ وقال إن أبا عنان المريني قدمة قاضيا بحضرته. وهو توفي سنة 779 كما في نيل الابتهاج.
(2)
من أهل سبتة ولد بها سنة 657، وتوفي بفاس سنة 721، يعرف بابن رشيد. أثنى عليه ابن فرحون في الديباج المذهب (310) وقال إنه برع في علوم كثيرة رواية ودراية. وهو صاحب الرحلة المشهورة باسمه، وعنوانها:«ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهتين الكريمتين إلى مكة وطيبة» . قال في درة الحجال (2:96) إنه بدأ رحلته من المرية سنة 683.
إذا أخذت هذه في الرّبا
…
صعودا أبى ذاك إلا انحدارا
وإن فاض ماء لفرط الحنين
…
ورجّع حادي السّرى عاد نارا
كأني به وهو يجري دما
…
وقوفا على الخيف نرمي الجمارا
قال إسماعيل بن الأحمر مؤلف هذا الكتاب-لطف الله به-:
قوله «أتيناك نحدو» إلى آخره. الحادي هو السائق من خلف العيس منشدا لتقوى على السير. والهادي: السائق من أمام. والبكا يمد ويقصر بمعنى. وقيل البكاء (ممدود)، [54/ب] هو العويل والصياح.
[والبكا](مقصور) البكاء بالدمع من غير عويل. والركاب: الإبل تحمل القوم، ويقال لراكبيها وراكبي سائر الدواب: الرّكب، على وزن الضرب، والأركوب، بضم الهمزة، والركبان. ويقال في جمع راكب السفينة ركّاب بضم الراء، وإضعاف الكاف. والقطار الأول جمع قطر (مفتوح القاف، ساكن الطاء المهملة): الاسم لما يقطر من الماء. يقال قطر الماء (بالفتح) قطرا -بسكون الطاء-وقطرانا. والاسم القطر، والجمع القطار. والقطار الثاني تقطير الإبل على نسق حتى تكون كالسطر.
وقوله: «إذا أخذت هذه في الرّبا» إلى آخره. جمع ربوة، بضم الراء وهي الأكمة. والأجمة التل. ويقال: الرابية، والربوة، بكسر الراء.
والرّباوة على وزن الهراوة. و «الصّعود» بضم الصاد والعين المهملتين الارتقاء يقال: صعد، بكسر العين صعودا. أو أصعد-أيضا-على وزن أكرم، إذا ارتقى مشرفا، أي موضعا يشرف عليه. والصّعود-بفتح الصاد-
الطريق إليه. والجمع أصعدة. وقيل، يقال: صعد في الجبل، وأصعد في الأرض لا غير. والانحدار: الهبوط من علو إلى سفل.
يقول: إذا طلعت بهذه الإبل ربوة بعد ربوة زادت الدموع جريانا وهبوطا. يصف بذلك وبالبيتين بعده: الدمع.
أتيناك سعيا ننادي البدارا
…
إلى سيّد المرسلين البدارا
إلى أشرف الخلق في محتد
…
وحام (1) جوارا، وأعلى نجارا
إلى من به الله أسرى إليه
…
وما زاغ ناظره حين زارا
ولمّا نزعنا شعار (2) الرّقاد
…
لبسنا الدّجى وادرّعنا النّهارا
نميل من الشوق فوق الرّحال
…
كأنا سكارى ولسنا سكارى!
نجافي عن الطّيف أجفاننا
…
فلا نطعم النّوم إلا غرارا (3)
ونسري مع الشّوق أنّى سرى
…
ونتبع حادي السّرى حيث سارا
ونسأل والدار تدنو بنا
…
عن القرب في كل يوم مزارا
وما ذاك أنا سمعنا السّرى
…
ولكن دنونا فزدنا انتظارا
إذا البرق عارضنا موهنا
…
حسبنا سنى طيبة قد أنارا
فنفري بأذرع تلك النّياق
…
أديم الفلا غدوة وابتكارا
ونرمي بهنّ صدور الفجاج
…
كأنّا نشنّ عليها مغارا
قوله «موهنا» يريد ساعة مضت من الليل. يقال لذاك الوقت وهن؛
(1) في الأصلين: حامي (بالياء).
(2)
في م: شفار (بالفاء).
(3)
الغرار: القليل من النوم.
بسكون الهاء، وموهن؛ و «نفري»: نقطع. و «أذرع» جمع ذراع.
و «النّياق» جمع ناقة. و «أديم الفلا» : وجهها، أراد ظاهرها.
و «الغدوة» : بضم الغين المعجمة، معروفة. وبفتحها المرّة الواحدة من الفعل في ذلك الوقت. و «الابتكار» المضي بكرة، وكذلك البكور.
و «الإبكار» على وزن الإكرام اسم للبكرة. والفجاج: الطّرق الواسعة في أقبال (1) الجبال واحدها فجّ، بفتح الفاء وإضعاف الجيم. والأقبال: جمع قبل، وقبلك، على ما لم يسم فاعله، أي استقبل وجهك. «نشنّ» أي نبثّ خيلا. يقال شن وأشن. والمغار: اسم المصدر من أغار؛ هذا بفتح الميم، والاسم الغارة؛ وهو إتيان القوم للقتال.
إذا رقصت في الفلاة المطيّ
…
جعلنا الدّموع عليها نثارا (2)
تساند أرجلها في السّرى
…
لديها وتشكو اليمين اليسارا
ونجمع بين السّرى والمسير
…
ونجفو الكرى ونعاف القرارا
وكيف القرار إلى أن نراك
…
وتدني المطيّ إليك المزارا
ومن كان يأمّل منك الدّنوّ
…
أيملك دون اللّقاء اصطبارا؟!
ترى تنظر العين هذا البشير
…
يريني على البعد تلك الدّيارا
(1) الأقبال جمع قبل (بضم وضم) وهو من الجبل سفحه.
(2)
النثار والنثارة ما تناثر من الشيء.
[55/ب]
لأعطيه روحي سرورا بها
…
وأوطيه طرفي وخدّي اعتذارا
وأمسح عن أرجل اليعملات
…
بأجفان عينيّ ذاك الغبارا
وأهدي-على القرب-منّي السّلام
…
حسبي بها رتبة وافتخارا
وأكتب شوقي بماء الدّموع
…
بسيطا إذا اللّفظ كان اختصارا
وأفدي بما طال من مدّتي
…
بطيبة تلك اللّيالي القصارا
ترى هل أناجي هناك الرّسول
…
جهارا كما أرتجي أو سرارا؟
وأعلم أنّي على بابه
…
وقفت وقبّلت ذاك الجدارا
وماذا أقول وكلّ الورى
…
نشاوى هنالك مثلي حيارى
وأنشد يا شافع المذنبين
…
أجر من بباب حماك استجارا
أجرني فقد جئت أشكو الذّنوب
…
إليك وأنت تقيل العثارا
فكن شافعي يوم لا شافع
…
سواك يفكّ العناة الأسارى
فمالي سوى حقّ هذا الجوار
…
لديك ومثلك يرعى الجوارا
وإني قطعت إليك القفار
…
فقيرا أقلّ (1) ذنوبا كبارا
وفي قطعها لك فضل عليّ
…
ولو خضت دون اللّقاء البحارا
ولو أستطيع قطعت الزّمان
…
-وأنت المنى-حجّة واعتمارا
وما كنت أظعن إلا إليك
…
إذا ما ملكت لروحي اختيارا
قوله: «اليعملات» هي الإبل التي تعمل حملا وركوبا وغير ذلك.
و «العناة» جمع عان، وهو الأسير. و «الظّاعن»: الشّاخص. يقال ظعن يظعن ظعنا، بفتح العين فيها، وظعونا على وزن خروج، إذا شخص. وشخص هنا صار من مكان إلى مكان، شخوصا.
حمىّ حلّ فيه نبيّ الهدى
…
فأضحى به أشرف الأرض دارا
[56/أ]
فيا فوز من كلّ عام أتاه
…
ويا فوت من غاب عنه خسارا
شممنا الشّذى من مبادي الحجاز
…
فخلنا العبير أعار العرارا (2)
(1) أقل الشيء: حمله ورفعه.
(2)
العرار: بهار طيب الرائحة الواحدة عرارة.