الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفادحة حتى تنقطع به الأسباب فتحل له الصدقة ويعطى سهم الغارمين
(قوله أولذي دم موجع) بصيغة اسم الفاعل من أوجع وهو أن يتحمل دية عن قريبه أو صديقه القاتل وليس له ولا لأوليائه مال فيسعى فيها ويسأل حتى يؤديها إلى أولياء المقتول لقطع الخصومة، فإن لم يؤدها قتل المتحمل عنه فيوجعه قتله، قال الخطابي الدم الموجع أن يتحمل حمالة "يعني دينًا" في حقن الدماء وإصلاح ذات البين فتحل له المسألة فيها كما تقدم اهـ
(فقه الحديث) دل الحديث على ما كان عليه النبي صلى الله وتعالى عليه وعلى آله وسلم من مكارم الأخلاق والتواضع وكما شفقته ورحمته بالفقراء حيث ساوم المبيع بيده الشريفة ليرغب فيه. وعلى مشروعية بيع المزايدة وهو ما كان قبل الرضا. أما السوم على سوم الغير المنهي عنه فيكون بعد الرضا والركون. وعلى جواز بيع المعاطاة. وعلى أنه ينبغي للرءيس إرشاد مرءوسيه إلى ما فيه سعادتهم وحثهم على ما فيه صلاحهم الدنيويّ والأخرويّ. وعلى حرمة السؤال مع القدرة على الكسب. وعلى ذم السؤال عند عدم الضرورة الشديدة لما يترتب عليه من الإهانة في الدنيا ونقص الثواب في الآخرة
(والحديث) أخرجه أيضًا أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن، وأخرجه النسائي مختصرًا
(باب كراهية المسألة)
أي كراهة السؤال
(ص) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ نَا الْوَلِيدُ نَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ رَبِيعَةَ -يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ- عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الأَمِينُ أَمَّا هُوَ إِلَيَّ فَحَبِيبٌ وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي فَأَمِينٌ (عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ) قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- سَبْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ تِسْعَةً فَقَالَ "أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-". وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ قُلْنَا قَدْ بَايَعْنَاكَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ قَالَ "أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَتَسْمَعُوا وَتُطِيعُوا". وَأَسَرَّ كَلِمَةً خُفْيَةً قَالَ "وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا". قَالَ فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُهُ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ. قَالَ
أَبُو دَاوُدَ حَدِيثُ هِشَامٍ لَمْ يَرْوِهِ إِلَاّ سَعِيدٌ.
(ش)(رجال الحديث)(الوليد) بن مسلم. و (أبو إدريس الخولاني) عائذ الله ابن عبد الله.
و(أبو مسلم الخولاني) عبد الله بن ثوب بضم الثاء المثلثة أو فتحها وفتح الواو. روى عن عمر ومعاذ وعبادة بن الصامت وأبي ذر وغيرها. وعنه شرحبيل بن مسلم الخولاني وأبو إدريس الخولاني وعطاء بن أبي رباح ومكحول وجماعة. وثقه ابن معين وابن سعد والعجلي. وقال كان من كبار التابعين. وقال ابن عبد البر أدرك الجاهلية وأسلم قبل وفاة النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وهو معدود في كبار التابعين. روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي
(المعنى)
(قوله ألا تبايعون رسول الله) أي قال النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ألا تعاهدونني على ما سأذكره من الإيمان باللهِ تعالى وإقام الصلاة الخ، ففيه وضع الظاهر موضع المضمر. وسمى معاهدته على ما ذكر بيعًا لما فيه من مقابلة شيء وهو الإيمان وتوابعه بمقابلة شيء آخر وهو الجنة كما أن في البيع مقابلة الثمن بالمثمن
(قوله حتى قالها ثلاثًا) أي كرر النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قوله ألا تبايعون رسول الله ثلاثًا وهم يقولون قد بايعناك، فعلموا أنه لم ينس البيعة الأولى، وغرضه المبايعة مرة أخرى. وفي رواية مسلم "وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال ألا تبايعون رسول الله؟ قال فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله الخ
(قوله فبسطنا أيدينا فبايعناه) وفي نسخة وبسطنا بالواو بدل الفاء، أي مددنا أيدينا نريد مبايعته بدليل ما بعده. وفي رواية مسلم وابن ماجه: فبسطنا أيدينا فقال قائل الخ بإسقاط قوله فبايعناه. ولعل المبايعة السابقة كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره أو على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام أو غير ذلك كما جاء في الأحاديث
(قوله وتسمعوا وتطيعوا) أي تسمعوا ما يتلى عليكم من تعاليم الدين سماع قبول فتذعنوا له وتعملوا به
(قوله وأسر كلمة خفية) يعني قال كلمة خافضًا بها صوته لم يسمعها كل الحاضرين. وخفية بضم الخاء المعجمة وكسرها أي إسرارًا فهو مفعول مطلق. وبين ما أسره بقوله ولا تسألوا الناس شيئًا. والحكمة في إسرار النهي عن السؤال أن يخص به بعضهم دون بعض لأن من الناس من لا بد له من السؤال لحاجته. ومنهم الغني عنه بماله أو بالتعفف
(قوله فما يسأل أحدًا أن يناوله إياه) حملا للنهي على عمومه وبعدًا عن ذل السؤال وذلك لشدة احتياطهم وفي نسخة فلا يسأل أحدًا الخ
(فقه الحديث) دل الحديث على ما كان عليه النبي صلى الله تعالى عليه وعلي آله وسلم من
الحرص على نشر الدعوة وتبليغ الأحكام كلما وجد إلى ذلك سبيلًا. وعلى مشروعية التعاهد على البر والتقوى. وعلى التنفير من سؤال أي شيء ولو حقيرًا، وفي الحديث عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: دعاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وهو يشترط عليّ أن لا تسأل الناس شيئًا، قلت نعم قال ولا سوطك إن سقط منك حتى تنزل فتأخذه. رواه أحمد
(والحديث) أخرجه أيضًا مسلم والنسائي، وكذا ابن ماجه في باب البيعة. وأشار المصنف إلى كونه غريبًا بقوله "حديث هشام الخ" أي أن حديث هشام بن عمار شيخ المصنف قد تفرد سعيد بن عبد العزيز بروايته عن ربيعة بن يزيد ولم يروه عن ربيعة سواه.
(ص) حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ نَا أَبِي نَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ وَكَانَ ثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- "مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا وَأَتَكَفَّلَ لَهُ بِالْجَنَّةِ". فَقَالَ ثَوْبَانُ أَنَا. فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا.
(ش)(أبو معاذ) معاذ بن معاذ بن حسان. و (عاصم) بن سليمان الأحول. و (أبو العالية) رفيع الرياحي وهو القائل: وكان ثوبان الخ ففي رواية أحمد ثنا شعبة عن عاصم قال. قال لأبي العالية ما ثوبان؟ قال: مولى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
(قوله من تكفل لي الخ) أي أي شخص التزم أن لا يسأل الناس شيئًا وأنا أضمن له الجنة بلا سابقة عذاب. فمن استفهامية. وعبر بالماضى حثًا للمخاطبين على التحلى بهذه الفضيلة وترغيبًا لهم فيها
(قوله فأتكفل له الخ) وفي نسخة وأتكفل الخ. وفي أخرى أتكفل
(وفي الحديث) بيان ما كان عليه ثوبان رضي الله تعالى عنه من علو المنزلة والرغبة في الخير ومجاهدة النفس، وأن من التزم ترك سؤال الناس استحق دخول الجنة مع السابقين
(والحديث) أخرجه أيضًا أحمد والنسائي قال أخبرنا عمروبن عدي ثنا يحيى ثنا ابن أبي ذئب ثنى محمَّد بن قيس عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم من يضمن لي واحدة وله الجنة. قال يحيى ها هنا كلمة معناها أن لا يسأل الناس شيئًا
(باب الاستعفاف)
وفي نسخة باب في الاستعفاف أي طلب العفة والكف عن السؤال والحرام. يقال عف عن الشيء يعف من باب ضرب عفا بفتح العين المهملة وعفة بكسرها وعفافًا امتنع عنه
(ص) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدًا مِنْ عَطَاءٍ أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ".
(ش)(قوله حتى إذا نفد الخ) من باب تعب أي فرغ المال الذي عنده، وفي نسخة حتى نفد وهي رواية البخاري
(قوله ما يكون عندي من خير الخ) ما موصولة متضمنة معنى الشرط ولذا قرن خبرها بالفاء
(قوله فلن أدخره عنكم) أي لن أحبسه وأكفه عنكم
(قوله ومن يستعفف الخ) أي من يطلب العفاف بترك السؤال وبالقناعة بما عنده يرزقه الله العفة والكف عن الحرام، ومن يظهر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس يرزقه الله القناعة في قلبه والكفاية عن الناس، ففي حديث أبي هريرة مرفوعًا "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة. ومن يتصبر على المكاره والبلايا أو عن السؤال والاستشراف إلى ما في أيدى الناس يرزقه الله الصبر الجميل
(قوله وما أعطي أحد من عطاء الخ) وفي نسخة وما أعطى الله أحدًا من عطاء الخ أي ما أعطى الله أحدًا شيئًا من العطاء أكثر ولا أفضل من الصبر لأن مقامه أعلى المقامات فإنه جامع لمكارم الصفات والحالات، ولذا قدم على الصلاة في قوله تعالى "واستعينوا بالصبر والصلاة" وقد ورد الحث عليه في كثير من الآيات والأحاديث
(فقه الحديث) دل الحديث على جواز إعطاء السائل غير مرة. وعلى مشروعية الاعتذار للسائل. وعلى جواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر حتى يأتيه رزقه من غير سؤال. وعلى ما كان عليه النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم من البشاشة والكرم وإيثار الغير على نفسه. وعلى الحض على التعفف والإستغناء عن الناس بالصبر وحسن التوكل على الله عز وجل وعلي أن الصبر أفضل ما أعطيه المؤمن ولذا كان الجزاء عليه جليلًا قال تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
(والحديث) أخرجه أيضًا البخارى ومسلم والنسائي والترمذي
(ص) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ ح حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ أَبُو مَرْوَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ -وَهَذَا حَدِيثُهُ- عَنْ بَشِيرِ بْنِ سَلْمَانَ عَنْ سَيَّارٍ أَبِى حَمْزَةَ عَنْ طَارِقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالْغِنَى إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ أَوْ غِنًى عَاجِلٍ".
(ش)(رجال الحديث)(عبد الملك بن حبيب أبو مروان) البزار المصيصي. روى عن عبد الله بن المبارك وأبي إسحاق الفزاري. وعنه أبو داود وسعيد بن عتاب ومحمد بن عوف الطائي ومحمد بن وضاح. قال في التقريب مقبول من العاشرة. روى له أبو داود.
و(بشير بن سلمان) أبو إسماعيل الكوفي. روى عن عكرمة وأبي حازم الأشجعي ومجاهد بن جبر وغيرهم.
وعنه ابنه الحكم ووكيع والسفيانان وابن المبارك وجماعة. وثقه أحمد والعجلي وابن حبان. وقال أبو حاتم صالح الحديث. وقال ابن سعد كان شيخًا قليل الحديث. روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي والبخاري في الأدب.
و(سيار أبو حمزة) الكوفي. روى عن طارق بن شهاب الصحابي وقيس بن أبي حازم. وعنه عبد الملك بن سعيد وإسماعيل بن أبي خالد وبشير ابن إسماعيل "وكان يقول فيه سيار أبو الحكم وهو وهم" قال في التقريب مقبول من الخامسة روى له أبو داود والترمذي والبخارى في الأدب (المعنى)
(قوله من أصابته فاقة الخ) أي من نزل به فقر شديد وأظهره للناس شاكيًا لهم وطلب منهم سدادها معتمدًا عليهم في ذلك لم تقض حاجته بل كلما تسد حاجة أصابته أخرى لاعتماده على عاجز مثله
(قوله ومن أنزلها بالله الخ) أي تضرع إليه تعالى طالبًا قضاءها منه مع حسن التوكل عليه عز وجل عجل له الغنى بكسر المعجمة والقصر أي اليسار. وفي نسخة الغناء بفتح الغين المعجمة والمد أي الكفاية إما بموت قريب له غني فيرثه، أو بموت الشخص نفسه فيستغني عن المال، أو بغنى ويسار يسوقه الله إليه من أي باب شاء فهو أعم مما قبله. ومصداقه قوله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
وقوله "أو غنى عاجل" هو هكذا في النسخ الموجودة بالعين، والذي في المشكاة أو غنى آجل بهمزة ممدودة قال الطيبي وهو أصح دراية لقوله تعالى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} اهـ وفيه نظر
(فقه الحديث) دل الحديث على التنفير من سؤال الخلق والاعتماد عليهم. وعلى الترغيب في سؤال الله تعالى وحسن التوكل عليه فإنه المعطي المانع "ومن يتوكل عليه فهو حسبه".
وفي الحديث: إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك "الحديث" رواه الترمذي عن ابن عباس مرفوعًا وقال حسن صحيح. وقال الله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ)
(والحديث) أخرجه أيضًا الترمذي وقال حسن صحيح غريب
(ص) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ نَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مَخْشِيٍّ عَنِ ابْنِ الْفِرَاسِيِّ أَنَّ الْفِرَاسِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- أَسْأَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- "لَا وَإِنْ كُنْتَ سَائِلًا لَا بُدَّ فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ".
(ش)(رجال الحديث)(مسلم بن مخشى) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة أبو معاوية المصري. روى عن ابن الفراسي. وعنه بكر بن سوادة. ذكره ابن حبان في الثقات. وفي التقريب مقبول من الثالثة. روى له مسلم وأبو داود وابن ماجه.
و(ابن الفراسي) لم يعرف اسمه. روى عن أبيه. وعنه مسلم بن مخشى. روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
و(الفراسي) بكسر الفاء وتخفيف الراء وكسر السين المهملة وتشديد الياء التحتية، من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة. روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا الحديث وحديثًا آخر في ماء البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وعنه ابنه. روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه (المعنى)
(قوله أسأل يا رسول الله) بحذف همزة الاستفهام يعني أأسأل الناس ما أحتاجه بدليل الجواب وإلا فسؤال الله تعالى مطلوب
(قوله فقال النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لا. وإن كنت سائلًا لابد الخ) وفي نسخة وإن كنت ولا بد سائلًا الخ أي لا تسأل الناس شيئًا بل سل الله تعالى وأحسن التوكل عليه، فإن سؤال الناس ذل، فإن لم تجد مفرًا من سؤال الناس ودعتك الضرورة إلى ذلك فسل الصالح منهم، القائم بحقوق الله عز وجل وحقوق، العباد لأنه الكريم الرحيم الذي لا يمن إذا أعطى، ولا يرد السائل خائبًا وإن كان محتاجًا إلى ما يعطيه لغيره. قال الله تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ولا يعطى إلا من حلال وإذا لم يجد ما يعطيه رد السائل بالحسنى داعيًا له ودعاؤه مستجاب
وهذا إرشاد إلى ما هو الأولى وإلا فسؤال غير الصالحين جائز
(وفي الحديث) دلالة على التنفير من السؤال مطلقًا. وعلى جوازه عند الحاجة الشديدة. وعلى فضل الصالحين بطلب سؤالهم عند الحاجة والتنفير من سؤال غيرهم
(والحديث) أخرجه أيضًا النسائي
(ص) حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ نَا اللَّيْثُ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ قَالَ اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ فَقُلْتُ إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ. قَالَ خُذْ مَا أُعْطِيتَ فَإِنِّي قَدْ عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فَعَمَّلَنِي فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- "إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ".
(ش)(الرجال)(أبو الوليد) هشام بن عبد الملك. و (ليث) بن سعد. و (ابن الساعدي) هكذا وقع للمصنف ولمسلم والنسائي في رواية عن ابن الساعدي المالكي. ومسلم عن بسر بن سعيد عن ابن السعدي وله أيضًا عن السائب بن يزيد عن عبد الله بن السعدي. وللنسائى في ثلاث طرق عن الزهري عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزي. قال أخبرني عبد الله بن السعدي.
قال النووي في شرح مسلم: قد رواه هكذا عن الزهري محمد بن الوليد والزبيدي وشعيب بن أبي حمزة وعقيل بن خالد ويونس بن يزيد وعمرو بن الحارث والحكم بن عبد الله الحمصي وكذا رواه البخاري من طريق شعيب اهـ
ثم قال وقد وقع في مسلم من رواية قتيبة عن ابن الساعدي المالكي، فقوله المالكي صحيح منسوب إلى مالك بن حسل بن عامر. وأما قوله الساعدي فأنكروه وصوابه السعدي كما رواه الجمهور منسوب إلى بني سعد بن بكر اهـ
قال المنذري. وأما الساعدي فنسبته إلى بني ساعدة من الأنصار لا وجه له هنا إلا أن يكون له نزول أو حلف أو خئولة أو غير ذلك اهـ
(هذا) و (ابن السعدي) هو عبد الله بن عمرو. وقيل عبد الله بن قدامة أو ابن وقدان بن عبد شمس عرف بابن السعدي لأن أباه كان مسترضعًا في بني سعد بن بكر بن هوازن صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم. روى عنه وعن عمر. وعنه حويطب بن عبد العزي وعبد الله بن محيريز وبسر بن سعيد وغيرها. وتوفى سنة سبع وخمسين. روى له النسائي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وروى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عمر
(المعنى)
(قوله أمر لي بعمالة) بضم العين المهملة ما يعطاه العامل نظير عمله أما بفتحها فهي نفس العمل
(قوله فعملني)
بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عملي
(قوله فقلت مثل قولك) هو كما في رواية للبخاري والنسائي من طريق عبد الله بن السعدي أنه قدم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالًا فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقلت بلى. فقال عمر ما تريد إلى ذلك؟ فقلت إن لي أفراسًا وأعبدًا وأنا بخير وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، قال عمر لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالًا فقلت أعطه أفقر إليه مني. فقال النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم خذه فتموله وتصدق به فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك
(قوله فكل وتصدق) أي اصنع ما شئت من الأكل والصدقة أو كل إن كنت فقيرًا وتصدق إن كنت غنيًا
(فقه الحديث) دل الحديث على بيان فضل ابن السعدي وعمر رضي الله تعالى عنهما وزهدهما وإخلاصهما في العمل ابتغاء وجه الله عز وجل. وعلى جواز أخذ الأجرة في نظير القيام بعمل من أعمال المسلمين دينيًا أو دنيويًا ولو كان العامل غنيًا أو العمل فرضًا كالقضاء والتدريس بل يجب على الإمام كفاية هؤلاء ومن في معناهم من بيت المال. ولذا قال الطحاوي ليس معنى الحديث في الصدقات وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإِمام على من يستحقها من الأغنياء والفقراء. ويدل عليه أنه لما قال عمر أعطه من هو أفقر إليه مني لم يرض بذلك لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر وهو العمل اهـ
ويؤيده ما تقدم في رواية البخاري من قوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "خذه فتموّله" فإن الفقير إنما يأخذ ما يحتاجه لا ما يتخذه مالًا. ودل الحديث على أن ردّ عطية الإِمام ليس من الأدب ولا سيما من النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم
(واختلف) فيمن جاءه مال من غير مسألة ولا إشراف نفس هل يجب قبوله؟ ذهب أحمد إلى وجوبه أخذًا بظاهر الحديث. وذهب الجمهور إلى أنه مستحب في غير عطية السلطان، أما عطيته فالصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يده حرم قبوله، وكذا إن أعطى من لا يستحق وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن بالآخذ مانع يمنعه من استحقاق الأخذ. وقيل إن الأخذ من السلطان واجب لقوله تعالى "وما آتاكم الرسول فخذوه" فإذا لم يأخذه فكأنه لم يأتمر وقال الحافظ في الفتح: والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالًا فلا تزد عطيته، ومن علم كون ماله حرامًا فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع. ومن أباحه أخذ بالأصل قال ابن المنذر: واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى قال في اليهود (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وقد رهن الشارع صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم درعه عند يهودي مع علمه بذلك وكذلك أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة اهـ
وقال العيني قال الطبري "في إباحة الله تعالى" أخد الجزية من أهل الكتاب مع علمه بأن أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير وهم يتعاملون بالربا "دليل" بين على أن من كان من أهل الإِسلام بيده مال لا يدري أمن حرام كسبه أو من حلال؟ فإنه لا يحرم قبوله لمن أعطاه إياه ولو كان، ممن لا يبالي باكتسابه من غير حله إذا لم يعلم الآخذ أنه حرام بعينه. وبنحوذلك قالت الأئمة من الصحابة والتابعين اهـ ببعض تصرف
(والحديث) أخرجه أيضًا مسلم والنسائي من طريق المصنف بلفظه. وأخرجه البخاري والنسائي من طريق الزهري عن ابن السعدي بلفظ تقدم
(ص) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ مِنْهَا وَالْمَسْأَلَةَ "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ".
(ش)(قوله وهو يذكر الصدقة والتعفف منها) أي من أخذ الصدقة، وفي رواية النسائي ومسلم والتعفف عن المسألة
(قوله والمسألة) بالنصب مفعول لمحذوف أي ويذم المسألة. ويحتمل جره عطفًا على الضمير المجرور بمن. وفي رواية البخاري وذكر الصدقة والتعفف والمسألة. أي أنه كان يحث الغنيّ على دفع الصدقة والفقير على التعفف ويذم المسألة
(قوله واليد العليا المنفقة الخ) كذا في رواية مسلم والنسائي. وفي رواية البخاري. فاليد العليا هي المنفقة واليد السفلى هي السائلة. وهو تفسير من النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وليس مدرجًا في الحديث. للحديث الآتي عن أبي الأحوص، ولما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي رمثة بلفظ "يد المعطى العليا" وما رواه البيهقي عن علي بن عاصم عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: قال: رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: الأيدي ثلاثة يد الله العليا ويد المعطي التي تليها. ويد السائل أسفل إلى يوم القيامة. قال البيهقي تابع عليًا إبراهيم بن طهمان عن الهجري على رفعه. وروى الطبراني من حديث على الجذامي نحوه، وما رواه النسائي من حديث طارق المحاربي قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطى العليا. وما رواه الطبراني بإسناد صحيح عن حكيم ابن حزام مرفوعًا: يد الله فوق يد المعطي ويد المعطي فوق يد المعطى ويد المعطى أسفل الأيدي قال الحافظ في الفتح: ادّعى أبو العباس الداني في أطراف الموطإ أن التفسير المذكور مدرج في الحديث ولم يذكر مستندًا لذلك، ثم وجدت في كتاب العسكريّ في الصحابة بإسناد له فيه انقطاع
عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان: إني سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول "اليد العليا خير من اليد السفلى" ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة ولا العليا إلا المعطية.
فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر. ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كنا نتحدث أن العليا هي المنفقة اهـ
لكن قد علمت أن الأحاديث الكثيرة الصحيحة صريحة في أن التفسير من كلامه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وما قاله ابن عمر لا ينافيه لاحتمال أنه قاله قبل وقوفه على بيان النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم
(فقه الحديث) دل الحديث على أنه يباح للخطيب أن يتكلم بما فيه مصلحه السامعين. وعلى الحث على الإنفاق في وجوه البر. وعلى فضل الغني الشاكر على الفقير الصابر وتقدم الخلاف فيه. وعلى كراهة السؤال والتنفير منه. ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة. فقد روى الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعًا بإسناد فيه مقال. ما المعطى من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجًا
(والحديث) أخرجه أيضًا البخاري ومسلم والنسائي
(ص) قَالَ أَبُو دَاوُدَ اخْتُلِفَ عَلَى أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ "الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُتَعَفِّفَةُ". وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ "الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ". وَقَالَ وَاحِدٌ عَنْ حَمَّادٍ "الْمُتَعَفِّفَةُ".
(ش) أي اختلف الرواة عن أيوب السختياني في تفسير اليد العليا، فروى عبد الوارث ابن سعيد عن أيوب أن اليد العليا هي المتعففة بالعين المهملة وفاءين. وأكثر الرواة رووا عن حماد بن زيد عن أيوب أن اليد العليا هي المنفقة بالفاء من الإنفاق، كما رواه مالك عن نافع. وقال واحد من تلاميذ حماد وهو مسدد إنها المتعففة، كما قال عبد الوارث
(وقد أخرج) رواية مسدد ابن عبد البر في التمهيد وتعقب قول المصنف "وقال واحد المتعففة" بأن أبا الربيع سليمان بن داود الزهراني رواه عن حماد أيضًا كمسدد: قال الحافظ في الفتح: وقد تابعه "يعني مسددًا" في الرواية عن حماد أبو الربيع الزهراني كما رويناه في كتاب الزكاة ليوسف ابن يعقوب القاضي. قال الحافظ: ورواية عبد الوارث لم أقف عليها موصولة. وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ واليد العليا يد المعطي. وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ المتعففة فقد صحف. قال ابن عبد البر: ورواه موسى بن عقبة عن نافع فاختلف عليه أيضًا. فقال حفص بن ميسرة عنه المنفقة كما قال مالك. قلت وكذلك قال فضيل بن سليمان، عنه أخرجه ابن حبان من طريقه قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن موسى المتعففة
قال ابن عبد البر: رواية مالك أولى وأشبه بالأصول. ويؤيده حديث طارق المحاربي عند النسائي وفيه: يد المعطي العليا، وبعد أن ذكره ونحوه من الأحاديث التي قدمناها قال: فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور اهـ فتح ملخصًا
وقال الخطابي: رواية من قال المتعففة أشبه وأصح في المعنى، وذلك أن ابن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال هذا وهو يذكر الصدقة والتعفف منها. فعطف الكلام على سببه الذي خرج عليه وعلي ما يطابقه في معناه أولى اهـ
لكن قال النووي في شرح مسلم: والصحيح الرواية الأولى. ويحتمل صحة الروايتين. فالمنفقة أعلى من السائلة والمتعففة أعلى من السائلة اهـ
إذا
عرفت هذا علمت أن الراجح تفسير اليد العليا بالمنفقة لقوة أدلته وكثرة طرقه، ولا منافاة بينهما من حيث المعنى إذ كل من المنفقة والمتعففة أعلى من السائلة
(ص) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ التَّيْمِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو الزَّعْرَاءِ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- "الأَيْدِي ثَلَاثَةٌ فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى فَأَعْطِ الْفَضْلَ وَلَا تَعْجِزْ عَنْ نَفْسِكَ".
(ش)(رجال الحديث)(أبو الزعراء) عمروبن عمروبن عامر في مالك بن نضلة الجشمي الكوفي. روى عن أبي الأحوص وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله. وعنه الثوري وابن عيينة وعبيدة بن حميد. وثقه أحمد والنسائي والعجلي وابن معين وقال ابن عبد البر أجمعوا على أنه ثقة. روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
و(أبو الأحوص) عوف بن مالك الجشمي. تقدم بالرابع ص 238.
و(مالك بن نضلة) بمعجمة ساكنة ويقال مالك بن عوف بن نضلة الجشمي بضم الجيم. روى عن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم. وعنه ابنه أبو الأحوص صحابي قليل الحديث، روى له الأربعة (المعنى)
(قوله الأيدى ثلاثة) أي بالنسبة للإعطاء والأخذ، وذلك أن المعطي قسمان: معط حقيقة لكونه مالك كل شيء وهو الله تعالى، ومعط ظاهرًا وهو من أجرى الله عز وجل الإعطاء على يديه وجعلت يده والية يد الله تعالى لأنه سبحانه وتعالى جعله مظهرًا للخير
(قوله فيد الله العليا) أي نعمته الكاملة وعطاؤه العام على ما ذهب إليه الخلف من تأويل المتشابه وبيان المراد منه لتنزهه تعالى عن الجارحة. وذهب السلف إلى إمراره على ظاهره وتفويض المراد منه إلى الله تعالى مع اعتقاد تنزيهه عن الجارحة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)
(قوله ويد السائل السفلى) أي لما يترتب على السؤال من الذل والهوان وإراقة ماء
الوجه. وهذا إذا سأل بلا ضرورة وإلا فيده لا تتصف بانحطاط الرتبة
(قوله فأعط الفضل) أي ما يبقى من كفايتك ومن تلزمك نفقته. والأمر للندب
(قوله ولا تعجز عن نفسك) بفتح المثناة الفوقية كسر الجيم من باب ضرب، وفي لغة قليلة من باب تعب، أي لا تعجز عن مقاومة نفسك الحريصة على المال فتبخل بإنفاق الفضل ويحتمل أن المراد لا تعط مالك كله فلا تتمكن بعد من الإنفاق على نفسك فتحتاج إلى السؤال
(والحديث) من أدلة الجمهور القائلين أن اليد العليا هي المنفقة كما تقدم وإن السفلى هي السائلة. وقيل العليا الآخذة والسفلى المانعة. وقيل المراد هنا النعمة فكأن المعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة
(قال الحافظ) في الفتح نقلا عن ابن نباتة: وهذا حثّ على مكارم الأخلاق بأوجز لفظ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الطبراني عن ابن عباس "خير الصدقة ما أبقت غني" أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله كمن أراد أن يتصدق بألف فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى بخلاف ما لو أعطاها لواحد. قال وهو أولى من حمل اليد على الجارحة لأن ذلك لا يظهر فيمن يأخذ وهو خير عند الله ممن يعطى
(قلت) التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق. وقد روى إسحاق في مسنده أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله ما اليد العليا؟ قال: التى تعطي ولا تأخذ. فقوله ولا تأخذ صريح في أن الآخذة ليست بعليا اهـ
ومنه تعلم بطلان ما قاله بعض المتصوفة من أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقًا. قال ابن قتيبة: ما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال فهم يجنحون للدناءة
(والحاصل) أن يد الله تعالى باعتار كونه مالك كل شيء تنسب إلى الإعطاء وباعتبار قبوله للصدقة وإثابته عليها تنسب إلى الأخذ وهي العليا على حال. أما يد الانسان فأربعة
(أولاها) يدا المعطي وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا (ثانيها) يد السائل وقد صرحت بأنها سفلى أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبًا (ثالثها) يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن مدت إليه يد المعطي، وهذه عليا علوًا معنويًا (رابعها) يد الآخذ بلا سؤال، وقد اختلف فهل إنها سفلى بالنظر إلى الأمر المحسوس. وأما المعنوي فلا يطرد وقد تكون عليا في بعض الصور، فقد يكون الآخذ ما أبيح له، أفضل وأورع من المعطي. وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا. ومحصل ما في الآثار أن أعلى الأيدي المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ ثم الآخذة بلا سؤال وأسفل الأيدي السائلة والمانعة اهـ ملخصًا
(فقه الحديث) دل الحديث على الحث على الصدقة. وعلى مجاهدة النفس. وعلى التنفير من سؤال الخلق. وعلى الحث على الرجوع إلى الله عز وجل في جميع الأمور لأنه سبحانه وتعالى المالك المتصرف على الإطلاق
(والحديث) أخرجه أيضًا أحمد والحاكم وابن خزيمة