الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ تَحَوُّل الْعَقْدِ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ، فَيَكَادُ الْفُقَهَاءُ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ تَحْوِيل الْعَقْدِ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ - لِتَوَفُّرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ فِيهِ - صَحَّ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصِّحَّةُ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَمْ عَنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ؛ نَظَرًا لاِخْتِلَافِهِمْ فِي قَاعِدَةِ: هَل الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا. (1)
21 -
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
الْمُضَارَبَةُ، وَهِيَ: أَنْ يَدْفَعَ شَخْصٌ إِلَى آخَرَ مَالَهُ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقَانِ، وَيُسَمَّى الْقَائِمُ بِالتِّجَارَةِ مُضَارِبًا، فَلَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْمُضَارِبِ لَمْ يَكُنْ مُضَارَبَةً، وَلَكِنْ يَكُونُ قَرْضًا، تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ بَقِيَ مُضَارَبَةً لَكَانَ بَاطِلاً؛ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَمْلِكُ رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ، فَجُعِل قَرْضًا؛ نَظَرًا لِلْمَعْنَى، لِيَصِحَّ الْعَقْدُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِرَبِّ الْمَال، اعْتُبِرَ
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 18، 19مادة (3) ، والأشباه لابن نجيم ص 207، والأشباه للسيوطي ص 184، وما بعدها ط عيسى الحلبي، والمنثور في القواعد 2 / 371، وإعلام الموقعين 3 / 95 نشر دار الجيل، والقواعد لابن رجب ص 49، والاختيار 3 / 49.
الْعَقْدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِبْضَاعًا، تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْمُضَارِبُ وَكِيلاً مُتَبَرِّعًا لِصَاحِبِ الْمَال. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَبِهِ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَصَحَّحُوا الْوَكَالَةَ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ، وَالْحَوَالَةَ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْوَكَالَةِ؛ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، حَيْثُ قَالُوا: إِنْ أَحَال مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ رَجُلاً عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مَدِينٍ لَهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّصَرُّفُ حَوَالَةً، بَل وَكَالَةً تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا، وَإِنْ أَحَال مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَاحِبَ الدَّيْنِ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، لَمْ يُجْعَل هَذَا التَّصَرُّفُ حَوَالَةً، بَل اقْتِرَاضًا،
وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَحَالَهُ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ وَكَالَةً فِي الاِقْتِرَاضِ.
وَفِي الْفِقْهِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا وَهَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ شَيْئًا بِشَرْطِ الثَّوَابِ، اعْتُبِرَ هَذَا التَّصَرُّفُ بَيْعًا بِالثَّمَنِ لَا هِبَةً، فِي أَصَحِّ الأَْقْوَال. (1)
الْبَاطِل لَا يَصِيرُ صَحِيحًا بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ:
22 -
التَّصَرُّفَاتُ الْبَاطِلَةُ لَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِنَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ
(1) الاختيار 3 / 20، الشرح الصغير، وبلغة السالك 2 / 249، (طبع الحلبي) ، والمغني 4 / 57، 5 / 35، ومنتهى الإرادات 2 / 328، 259، والمنثور في القواعد2 / 373، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 184.
الْبَاطِلَةِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ وَعَوْدَتِهِ يُعْتَبَرُ قَائِمًا فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، وَلَا يَحِل لأَِحَدٍ الاِنْتِفَاعُ بِحَقِّ غَيْرِهِ نَتِيجَةَ تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَا دَامَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ. فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِل حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالاً.
هَذَا هُوَ الأَْصْل، وَالْقُضَاةُ إِنَّمَا يَقْضُونَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ أَدِلَّةٍ وَحُجَجٍ يَبْنُونَ عَلَيْهَا أَحْكَامَهُمْ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ. (1)
وَلِذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِمَا أَسْمَعُ، وَأَظُنُّهُ صَادِقًا، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. (2)
23 -
وَمُضِيِّ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ عَلَى أَيِّ تَصَرُّفٍ، مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ أَحَدٍ إِلَى الْقَضَاءِ بِدَعْوَى بُطْلَانِ هَذَا التَّصَرُّفِ، رُبَّمَا يَعْنِي صِحَّةَ هَذَا التَّصَرُّفِ أَوْ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ بِهِ. وَمِنْ هُنَا نَشَأَ عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِهَا بِحَسَبِ الأَْحْوَال، وَبِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَبِحَسَبِ الْقَرَابَةِ وَعَدَمِهَا، وَمُدَّةِ
(1) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 1 / 75، نشر دار المعرفة، والمهذب 2 / 343، والمغني 9 / 59.
(2)
حديث: " إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 157 ـ ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1337 ـ ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
الْحِيَازَةِ، لَكِنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ سَمَاعَ الدَّعْوَى لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ، إِنْ كَانَ بَاطِلاً. يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ:(1) الْحَقُّ لَا يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، قَذْفًا أَوْ قِصَاصًا أَوْ لِعَانًا أَوْ حَقًّا لِلْعَبْدِ.
وَيَقُول: (2) يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمَسَائِل الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، إِلَاّ فِي مَسَائِل مِنْهَا: لَوْ قَضَى بِبُطْلَانِ الْحَقِّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، أَوْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، أَوْ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ بِالتَّقَادُمِ.
وَفِي التَّكْمِلَةِ لاِبْنِ عَابِدِينَ: مِنَ الْقَضَاءِ الْبَاطِل: الْقَضَاءُ بِسُقُوطِ الْحَقِّ بِمُضِيِّ سِنِينَ. ثُمَّ يَقُول. عَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِينَ سَنَةً، أَوْ بَعْدَ الاِطِّلَاعِ عَلَى التَّصَرُّفِ، لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى بُطْلَانِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَنْعٍ لِلْقَضَاءِ عَنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْخَصْمُ يَلْزَمُهُ. (3)
وَفِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: تُقْبَل الشَّهَادَةُ بِحَدٍّ قَدِيمٍ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّهَا شَهَادَةٌ بِحَقٍّ، فَجَازَتْ مَعَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ. (4)
وَالْمَالِكِيَّةُ - وَإِنْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى حِيَازَةَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ مُدَّةً تَخْتَلِفُ بِحَسَبِهِ مِنْ عَقَارٍ وَغَيْرِهِ - إِلَاّ أَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ
(1) الأشباه لابن نجيم ص 222.
(2)
الأشباه لابن نجيم ص 232.
(3)
التكملة لابن عابدين 1 / 346، 347.
(4)
منتهى الإرادات 3 / 536.