الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السادسة والثلاثون: المبتدأ المعرفة، والمبتدأ النكرة
إذا قلنا: الطيار شجاع - الوطنى مخلص - العربىّ كريم
…
حكمنا على الطيار بالشجاعة، وعلى الوطنى بالإخلاص، وعلى العربى بالكرم. أى: حكمنا على المبتدأ بحكم مُعين؛ هو: الخبر1. فالمبتدأ فى هذه الجمل الاسمية -و- نظائرها محكوم عليه دائماً بالخبر، والمحكوم عليه لا بد أن يكون معلوماً، ولوإلى حدّ مَّا، وإلا كان الحكم لغوًا لا قيمة له؛ لصدوره على مجهول2، وصارت الجملة غير مفيدة إفادة تامة، مثل: زارع فى القرية
…
صانع فى المصنع
…
يد متحركة
…
جشم مسْرع
…
وغيرها مما لا يفيد الإفادة الحقيقية المطلوبة؛ بسبب عدم تعيين المبتدأ، أوعدم تخصيصه. أى: بسبب تنكيره تنكيراً تامًّا؛ لهذا امتنع أن يكون المبتدأ نكرة3 إذا كان غير وصف، لأنها شائعة مجهولة في الغالب. فلا يتَحَقَّقُ معها الغرض من الكلام؛ وهو: الإفادة المطلوبة، فإن هذه الإفادة هى السبب أيضاً فى اختيار المعرفة لأن تكون هى المبتدأ حين يكون أحد ركنى الجملة معرفة والآخر نكرة4؛ مثل: شجرةٌ المتحركة. لكن إذا أفادت النكرة الفائدة المطلوبة صح وقوعها مبتدأ.
وقد أوصل النحاة مواضع النكرة المفيدة حين تقع مبتدأ إلى نحوأربعين موضعاً. ولا حاجة بنا إلى احتمال العناء فى سردها، واستقصاء مواضعها، ما دام الأساس الذى تقوم عليه هو:"الإفادة" فعلى هذا الأساس وحده يرجع الحكم على صحة الابتداء بالنكرة، أوعدم صحته، من غير داع لحصر المواضع أو
1 أي: المعنى المستفاد من الخبر.
2 سبق إيضاح هذا في رقم 8 من هامش ص 442.
3 إنما يمتنع أن يكون المبتدأ نكرة إذذا كان له خبر. أما إذا كان وصفا له فاعل أو نائب فاعل يغني عن الخبر فلا يكون "إلا نكرة""كما سبق في ص 445"، ولا يحتاج لمسوغ، لأن المبتدأ في هذه الحالة يكون محكوما به، بمنزلة الفعل، لا محكوما عليه، والفعل، في مرتبة النكرة "كما في رقم 1 من هامش ص 47 وفي رقم 2 من هامش 209 ورقم 1 من هامش 442".
4 إلا في مسألتين يجوز في كل منهما الابتداء والخبرية، هما "كم" و "أفعل التفضيل"، في مثل: كم مالك؟ وخير من على محمود. - وسيشار لهما في رقم 26 من ص 491.
عَدّها1 هذا إلى أن تلك المواضع الكثيرة يمكن تجميعها وتركيزها في نحوأحدَ عشَرَ تغنى عن العشرات2 التى سردوها. وإليك الأحدَ عشَرَ.
1-
أن تدلّ النكرة على مدح، أوذم، أوتهويل؛ مثل:"بطلٌ فى المعركة. خطيب على المنبر" - "جبانٌ مُدْبرٌ. جاسوسٌ مقبل" - "بالء فى الحرب، جحيم فى الموقعة".
2-
أن تدل على تنويع وتقسيم؛ مثل رأيت الأزهار، فبعضٌ أبيضُ، وبعض أحمرُ، وبعضٌ أصفرُ
…
عرفت فصل الخريف متقلبًا؛ فيومٌ بارد، ويومٌ حارّ، ويومٌ معتدل. وقول الشاعر:
فيومٌ علينا، ويومٌ لنا
…
ويومٌ نُسَاءُ، ويومٌ نُسَرّ
3-
أن تدل على عموم؛ نحو: كلٌّ محاسَبٌ على عمله. وكلٌّ مسئول عما يصدر منه؛ {فَمَنْ 3 يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .
4-
أن تكون مسبوقة بنفى، أواستفهام؛ مثل: ما عملٌ بضائعٍ، ولا سعىٌ بمغمور. فمن4 مُنكرٌ هذا؟ وقول من طالت غربته:
وهلْ داءٌ أمَرُّ من التَّنائِى
…
وهلْ بُرْءٌ أتَمُّ من التَّلاقى؟
1 وكذلك فعل سيبويهه والمتقدمون، ولهذا يرى بعض النحاة- يحق- أنه لا داعي لهذا الشرط، لأنه مفهوم بداهة، إذ لا يتلكم عاقل بغير ما يفيد، وإلا عرض نفسه وكلامه للحكم عليه بما لا يرضاه، أما المتأخرون فتوقعوا أن يخطيء كثير مواضع الإفادة، فحاولوا أن يدلوهم عليها، بحصر مواضعها، واستقصائها، فأطالوا بغير حاجة، أو اختصروا مع الإخلال.
2 بل أرجع بعض النحاة جميع المسوغات إلى: "العموم والخصوص""انظر الخضري في هذا الموضع".
3 "من" شرطية". وهي تفد العموم، كباقي أدوات الشرط، وكأسماء الاستفهام التي تقع مبتدأ، مثل: أي جاء؟ -- من هنا؟ ومثل هذاالشرط والاستفهام يدل على العموم بنفسه مباشرة، لا بكلمة أخرى سبقته.
4 "من": مبتدأ نكرة ولكنه اسم استفهام، فلا يحتاج لمسوغ آخر. ولا مانع أن تكون أداة النفي في هذا الباب ناسخة، فيصير المبتدأ النكرة اسما لها، ولهذا يصح اعتبار "ما" و "لا" اللتين في المثال عاملتين. ومثلهما "ليس" في قول الشاعر:
وليس شيء أعز عندي من العلم،
…
فما أبتغى - سواه أنيسا
ومن مسوغات الابتداءء بالنكرة أن يدخل عليها ناسخ - أي ناسخ - فتصير اسما له، ولا تسمى مبتدأ - كما سيجيء في رقم 11 من 488. وص 543.
5-
أن تكون النكرة متأخرة، وقبلها خبرها؛ بشرط أن يكون مختصًّا؛ سواء أكان ظرفاً، أم جارًّا مع مجروره أم جملة؛ مثل: عند العزيز إباءٌ، وفي الحُرِّ تَرفع وقول الشاعر:
وللحِلْم أوقاتٌ، وللجهل مثلها
…
ولكنَّ أوقاتى إلى الحَلْم أقْربُ
ومثل: نَفَعك برهُ والدٌ، وصانك حنانُها أمٌّ.
6-
أن تكون مخصّصَة بنعت3، أوبإضافة، أوغيرهما مما يفيد التخصيص؛ نحو: نومٌ مبكرٌ أفضلُ من سهر، ويقظةُ البكور أنفعُ من نوم الضحا، وقول العرب: أحسن الولاة من سعدت به رعيته، وأشقاهم من شقيت به، وشر البلاد بلاد لا عدل فيها، ولا أمان، وقولهم: وَيْلٌ للشَّجى مِن الخَلِىِّ4.
7-
أن تكون دعاء؛ نحو: سلامٌ على الخائف - شفاءٌ للمريض - عونٌ للبائس؛ بشرط أن يكون القصد من النكرة فى كل جملة هوالدعاء.
1 المقصود بالاختصاص هنا: أن يكون المجرور في الخبر الواقع جارا مع مجروره، وأن يكون المضاف إليه في الظرف المضاف الواقع خبرا، وأن يكون المسند إليه في الخبر الواقع جملة
…
أن يكون كل واحد مما سبق صالحا بنفسه، لأن يكون مبتدأ في جملة أخرى، فلا يجوز: في إنسان ترفع. ولا: عند رجل إباء، ولا ولد له ولد رجل
…
2 الغضب والانتقام.
3 إذا لم يكن النعت مخصصا- نحو: واحد من الناس في الحديقة- لم يكن مسوغا. والنعت قد يكون ملفوظا به نحو: زائر كريم أمامنا. وقد يكون مقدرا لقرينة معنوية تدل عليه، مثل: أنتم أيها الحاضرون- فزتم جميعا بالبطولة، وطائفة لم تفز بها. أي: طائفة من غيركم.... وقد يكون معنويا، بألا يقدر في الكلام، وإنما يستفاد من نفس النكرة بقرينة لفظية، نحو: وليد نابغ، لأن التصغير في كلمة إ:"وليد" يقوم مقام النعت، إذ معنى التصغير: ولد صغير. ومثله صيغ التعجب، نحو: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا....، لأنه بمنزلة شيء عظيم حسن الدين صيغ التعجب، نحو: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا....، لأنه بمنزلة شيء عظيم حسن الدين والدنيا. لهذا كان "التعجب" من المسوغات. وقد أدمج بعضهم الإضافة في نوع آخر، هو: العمل، "وسيجيء في رقم 12 من ص 489"، لأن المضاف يعمل الجر في المضاف إليه.
4 هذا من مثل أمثال العرب يقال لفارغ البال، المرتاح الخاطر، الذي يسخر بالحزين، أو ييزيد آلامه. "والويل: الهلال. والشجي- بياء مشددة أو مخففة، كما نص عليها المحققون -: الحزين المهموم. والخلي: الخالي من الهموم" المبتدأ النكرة هو كلمة: ""ويل"، وخبره شبه الجملة "الشجي"، وقد تعلق شبه الجملة الأخير "وهو: من الخلي" بالمبتدأ: "ويل" بمعنى: "هلاك" فهو مبتدأ في حكم المصدر معنى، يصح التعلق به، ويستفيد بالتعلق نوعا من التخصص يبيح الابتداء به. ويصح أن يكون المسوغ للابتداء به هو: التهويل أو التعميم.
8-
أن تكون جواباً؛ مثل: ما الذى فى الحقيبة؟ فتُجيب: كتاب فى الحقيبة.
9-
أن تكون فى أول جملة الحال، سواء سبقتها واوالحال، مثل: قطع الصحراء، ودليلٌ يَهدينى، وركبت البحر ليلا وإبرةٌ ترشد الملاحين. أمْ لم تسبقها؛ نحوكلُّ يوم أذهب للتعلم، كتبٌ فى يدى.
10-
أن تقع بعد الفاء الداخلة على جواب الشرط؛ وهى التى تسمى: فاء الجزاء؛ مثل: مطالبُ الحياة كثيرة؛ إن تَيَسَّر بعضٌ فبعضٌ لا يتيسّر، والآمال لا تنفد؛ إن تحقق واحدٌ فواحدٌ يتجدد.
11-
أن يدخل عليها ناسخ - أىّ ناسخ - وفى هذه الحالة لا تكون مبتدأ، وإنما تصير اسماً للناسخ، ومن ثَمَّ يصحّ فى أسماء النواسخ أن تكون فى أصلها معارف أونكرات - كقولهم: كان إحسانٌ رعايةَ الضعيف، وإنّ يداً أن تذكروا الغائب1
…
1 سبقت الإشارة لهذا في رقم 4 من هامش ص 486 - وستجيء إشارة أخرى عند الكلام العام على النواسخ ص 542.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
"أ" قلنا1 إن مسوغات الابتداء بالنكرة كثيرة؛ أوصلها النحاة إلى أربعين، بل أكثر. وبالرغم من كثرتها بقيت نكرات أخرى قد تعرب مبتدأ، مع أنها لا تدخل تحت مسوغ مما ذكروه؛ نحو:"مذ" و"منذ" فهما نكرتان فى اللفظ؛ فى نحو: ما رأيته "مذ" أو"منذ" يومان، وإن كان بعض النحاة يعتبرهما معرفتين معنى؛ إذ المعنى: أمد انقطاع الرؤية يومان مثلا2.
على أن تلك الكثرة من المسوغات قد فتحت الباب أمام كل نكرة لتدخل منه إلى الابتداء، حتى صار من العسير الحكم على نكرة، أىّ نكرة، بأنها لا تصلح أن تكون مبتدأ. كما صار الرأى القائل:"إن المبتدأ لا يكون نكرة إلا إن أفادت" - رأياً لا جديد فيه؛ لدخوله تحت أصل لغوى عام: هو: "ما يَستحدث معنى أويزيد فى غيره لا يُطعن فى وجوده، ولا يستغنى عنه، وما لا فائدة منه لا خير فى ذكره".
وتأييداً لكلامنا وتوفية للبحث - نذكر أهم تلك المسوغات؛ ليؤمن المتردد أنها أبواب مفتوحة تتسرب منها النكرات كلها إلى الابتداء. وقد سبق منا أحدى عشر. وفيما يلى الباقى مع الاقتصار على ما يغنى عن غيره، وما يمكن إدماج غيره فيه3.
12-
أن تكون النكرة عاملة؛ سواء أكانت مصدراً؛ نحو: إطعامٌ مسكيناً طاعة، أمْ وصفاً عاملا4، نحو: متقنٌ عمله يشتهر اسمهُ. ومن العمل أن تكون مضافة؛ لأن المضاف يعمل الجر في المضاف إليه؛ مثل: كلمة خير تأسِر النفس
…
13-
أن تكون النكرة أداة شرط؛ نحو؛ من يعملْ خيراً يجدْ خيراً.
1 في ص 485.
2 راجع الخضري عند الكلام على الموضع الرابع من مواضع تأخير الخبر.
"وستجيء لهذا إشارة في رقم 5 من ص 497، وفي رقم 3 من ص 502 - وكذلك في جـ2 ص 79 باب الظرف، وص 478 م 90 باب حروف الجر.
3 انظر ما يتصل بهذا في الملاحظة التي في ص 581 وكذلك في ص 47 و 70.
4 ومن شاء مزيدا فليرجع إلى حاشيتي الصبان والخضري، وإلى الهمع
…
5 عند من يقول بأنه يعمل بغير أن يسبقه نفي أو استفهام. أما من يشترط للعمل تقدم النفي أو الاستفهام فإن وجود أحدهما مسوغ لللابتداء بالنكرة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
14-
أن يكون فيها معنى التعجب - كما سبق1 -؛ نحو: ما أبرع جنود المِظلات.
15-
أن تكون محصورة؛ نحو: إنما رجلٌ مسافرٌ.
16-
أن تكون فى معنى المحصور - بشرط وجود قرينة تُهَيِّئ لذلك - نحو: حادث دعاك للسفر المفاجئ، أى: ما دعاك للسفر المفاجئ إلا حادث. ويصح فى هذا المثال أن يكون من قسم النكرة الموصوفة بصفة غير ملحوظة، ولا مذكورة.... أى: حادث خطير دعاك إلى السفر.
17-
أن تكون معطوفة على معرفة؛ نحو: محمود وخادم2 مسافران.
18-
أن تكون معطوفة على موصوف، نحو: ضيف كريم وصديق حاضران.
19-
أن يكون معطوفاً عليها موصوف، نحو: رجل وسيارة جميلة أمام البيت.
20-
أن تكون مبهمة قصداً، لغرض يريده المتكلم؛ نحو: زائرة عندنا.
21-
أن تكون بعد لولا؛ نحو: لولا صبرٌ وإيمانٌ لقتل الحزين نفسه.
22-
أن تكون مسبوقة بلام الابتداء؛ نحو: لرجل نافع3.
23-
أن تكون مسبوقة بكلمة: "كَمْ" الخبرية؛ نحو: كم صديقٌ زرته4 فى العطلة فأفادنى كثيراً.
1 في رقم 3 من هامش ص 487.
2 هذه ليست مبتدأ، ولكنها معطوفة على المبتدأن فهي بمنزلته.
3 يعرضها النحاة في باب: "إن" وستتابعهم، فنذكرها مفصلة في ص 659، ثم في ص 673.
4 أصل الكلام هنا، صديق زرته كم زورة!. فكم: مفعول مطلق واجب الصدارة، مبني على السكون في محل نصب، و "صديق" مبتدأ. أما "كم" الاستفهامية فداخلة في مسوغات الاستفهام.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
24-
أن تكون مسبوقة بإذا الفجائية1؛ نحو: غادرت البيت فإذا مطر.
25-
أن يكون مراداً بها حقيقة الشئ وذاته الأصلية، نحو: حديد خير من نحاس2.
26-
أن تكون إحدى المسألتين المشار إليهما في رقم 4 من هامش ص 4485.
1 سيجييء بيانن موجز عنها في رقم 1 من هامش ص 508.
2 وفي الابتداء بالنكرة ومسوغاته يقول ابن مالك:
ولا يجوز الابتدا بالنكرة
…
ما لم تفد: كعند زيد نمره
وهل فتي فيكم؟ فما خل لنا
…
ورجل من الكرام عندنا
ورغبة في الخير خير، وعمل
…
بر يزيد. وليقس ما لم يقل
يشير بالمثال الأول: "عند زيد تمرة" إلى جواز وقوع المبتدأ نكرة، "والنمرة، ما نسميه الآن: الشال من الصوف". والمسوغ هو تقديم الظرف المختص: "عند".
ويشير في البيت الثاني إلى مسوغ الاستفهام في: "ههل فتى"؟ والنفي فيق: "ما خل لنا". والنعت في: "رجل من الكرام".
ويشير في البيت الأخير إلى النكرة العاملة، مثل: رغبة في الخبر" فرغبة" مصدر "في الخير": متعلق به، فهو بمنزلة معموله، أي: بمنزلة مفعوله: أي: "من رغب الخير" أو تكون مضافة، مثل عمل بر
…
ثم يشير بقياس ما لم يذكر على ما ذكره.