الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة والأربعون: حكم الناسخ ومعموليه من ناحية التقديم والتأخير
الترتيب - فى هذا الباب - واجب بين الناسخ واسمه؛ فلا يجوز تقديم الاسم على عامله الناسخ1. أما الخبر فإن كان جملة خالية من ضمير يعود على اسم الناسخ، فالأحسن تأخيره عن الناسخ واسمه2؛ ذلك لأن تقدمه - فى هذه الصورة - على الناسخ أوتوسطه بين الناسخ واسمْه، غير معروف فى الكلام العربى الفصيح3.
ويجب تأخيره عنهما إن كان جملة مشتملة على ضمير يعود على اسم الناسخ؛ كالضمير الذى فى الجملة الفعلية: "تُوسعه" من قول أعرابى ينصح صديقه: "دَعْ ما يسْبق إلى القلوب إنكارُه، وإن كان عندك - اعتذارُه4 فليس من حكى عنك نُكْراً5 تُوسِعُهُ فيك عُذرا6".
مما تقدم يكون للجملة الواقعة خبرا للناسخ حكم واحد، هو: التأخير عنهما - إما وجوبا، وإما استحسانا.
وأما الخبر الذى ليس جملة "وهوالمفرد وشبه الجملة" فله ست حالات7:
1 كما أشرنا في ص 546.
2 قلنا: "الأحسن"، لأن الخلاف واسع في جواز التقديم، أو منعه، أو تقييده بحالات دون غيره- راجع "الهمع" جـ1 ص 118- ويقول "الهمع" في حالة التأخير الواجب وهي التي جعلناها مستحسنة ما نصه:"لا يجوز تقديمه فيها، ولا توسطه، سواء أكانت اسمية، نحو: كان على أبوه قائم أم فعلية رافعة ضمير الاسم، نحو: كان على يقوم، أم غير رافعة، نحو: كان على يمر محمود به. ومسند المنع في ذلك عدم سماعه." اهـ.
لكن قد يكون الواجب التمثيل بنحو: "كان المريض يغيب الطبيب فيتألم من غيابه، أو: فيتألم الناس من غيابه، كي تكون جملة الخبر خالية من كل ضمير يعود على اسم الناسخ.
3 هذا كلامهم. وبالرغم من أنه غير معروف في الكلام المأثور، يجيز بعض النحاة تقديمه قياسا على خبر المبتدأ، لكن القياس هنا غير مستحسن بعد أن تبين لهم أن الكلام العربي لم يرد به تقدم هذا النوع من الخبر الجملة.
4 العذر لفعله.
5 أمرا مستقبحا.
6 تزيده ما يقنعه ويرضيه. والجملة الفعلية: "توسعه" في محل نصب خبر "ليس".
7 ولمعمولاته- إن وجدت- حالات أخرى سيجيء الكلام عليها في الزيادة، ص 576.
الأولى: وجوب التأخر عن الاسم1، وذلك:
1-
حين يترتب على التقديم لبْس لا يمكن معه تمييز أحدهما من الآخر2 نحو: كان شريكى أخى - صار أستاذى رفيقى فى العمل - باتت أختى طبيبتى
…
فلوتقدم الخبر لأوقع فى لبس لا يظهر معه الاسم من الخبر. والفرق بينهما كبير؛ لأن أحدهما محكوم عليه؛ وهو: الاسم، والآخر محكوم به، وهو: الخبر.
2-
حين يكون الخبر واقعاً فيه الحصر؛ كأن يكون مقروناً بإلا المسبوقة بالنفى؛ نحو: ما كان التاريخ إلا هادياً. أو"بإنما"؛ مثل: إنما كان التاريخ هادياً؛ لأن المحصور فيه: "بإلا" يجب اتصاله بها متأخراً عنها، والمحصور فيه:"بإنما" يجب تأخيره. فلوتقدم المتأخر فى الصورتين تغير المقصود، وفات الغرض الهام من الحصر.
الثانية: وجوب التقدم على الاسم فقط، "فيتوسط الخبر بينه وبين العامل الناسخ" وذلك حين يكون الاسم مضافاً إلى ضمير يعود على شيء متصل بالخبر3؛ مع وجود ما يمنع تقدم الاسم على الأداة؛ مثل يعجبنى أن يكون للعملِ أهلُه فلا يصح:"يعبجنى أن يكون للعمل أهلُه 4؛فلا يصح: "يعجبني أن يكون أهله للعمل"، لما فى هذا من عود الضمير على متأخر لفظاص ورتبة، وهوممنوع فى مثل هذا5....
1 وهذا يقتضي التأخر عن الناسخ حتما، لما تقدم من وجوب تأخير اسم الناسخ عن عامله.
2 بأن يكونا معرفتين أو نكرتين معا.... على الوجه الذي تقدم في المبتدأ والخبر ص 492 و "ب" ص 499 م 37".
3 ليس من اللازم أن يكون الضمير "مضافا إليه"، وإنما اللازم أن يكون معمولا للاسم، أو مرتبطا به بصلة إعرابية قوية.
4 هذا المثال هو الذي يوضح الحالة الثانية توضيحا دقيقا، لوجود "أن" المصدرية فيه، لأن وجودها يمنع تقديم شيء عليها من جملتها التي تليها، كما تمنع تقديم شيء يفصل بينها وبين الفعل التي دخلت عليه لتنصبه، فلا يصح تقديم الخبر عليها، أو على الفعل الذي تنصبه، كما لا يصح تأخيره عن الاسم، لأن في الاسم ضميرا يعود على شيء متثل بالخبر، فتقديم الخبر ممنوع، وتأخيره ممنوع، فلم يبق إلا توسطه بين الاسم وعامله الناسخ. أما أمثلة النحاة من نحو:"كان غلام هند بعلها" فلا يوجب الاقتصار على توسط الخبر. "غلام" بين الاسم والعامل الناسخ، لجواز أن يتقدم الخبر على الناسخ في هذا المثال وأشباهه من غير ضعف. فأمثلتهم المشار إليها لا تصلح للتوسط الواجب وحده.
5 هناك حالة أخرى يجب فيها توسط الخبر بين الناسخ واسمه- وهي التي تقدمت في رقم 4 من هامش ص 410 وستجيء في جـ3 م 99 باب: إعمال المصدر- وملخصها: أنه لم يرد في الفصيح وقوع "أن المصدرية" بنوعيها: "المخففة من الثقيلة، والناصبة للمضارع" بعد "كان، وإن" الناسختين بغير فاصل من خبرهما، نحو: كان مطلوبا أن يخلص الصانع - وكان مفيدا أن الصانع متعلم.
الثالثة: وجوب التقدم على العامل الناسخ وذلك حين يكون الخبر اسماً واجب الصدارة؛ كأسماء الاستفهام و"كم" الخبرية
…
نحو: أين كان الغائب؟ وقوالشاعر:
وقد كان ذِكْرى2 للفِراق يُرُوعبُنى
…
فكيف أكونُ اليوم؟ وهويقينُ
ويشترط في هذه الحالة ألا يكون العامل الناسخ مسبوقا بشيء آخر له الصدارة، مثل:"ما" النافية.... لأن الخبر الذي له الصدارة لا يدخل على ماله الصدارة3، فلا يصح: أين ما كان الغائب؟ ولا: أين ما زال البستاني؟ وكذلك لا يصح أن يكون العامل الناسخ هو: "ليس" لأن خبرها لا يجوز أن يسبقها، في الرأي الأرجح4.
الرابعة: وجوب التوسط بين العامل الناسخ واسمه، أوالتأخر عنهما معاً؛ وذلك حين يكون العامل مسبوقاً بأداة لها الصدارة، ولا يجوز أن يفصل بينها وبين العامل الناسخ فاصل. ومن أمثلته: الاستفهام "بهل" فى: هل أصبح المريض صحيحاً؟ فيجب تأخره كهذا المثال، أوتوسطه فنقول. هل أصبح صحيحاً المريض.
الخامسة: وجوب التوسط بين الناسخ واسمه، أوالتقدم عليهما، وذلك:
1-
حين يكون الاسم مضافاً لضمير5 يعود على شئ متصل بالخبر؛ فمثال
1 وهذا يقتضي التقدم أيضا على الاسم.
2 تذكري.
3 لكيلا يجتمع شيئان لكل منهما الصدارة، فيقع بينهما التعارض، ولا يمكن تفضيل أحدهما على الآخر.. و "ما" النافية من الأدوات التي لها الصدارة - كما سيجيء في رقم 3 من هامش الصفحة الآتية - فلا يجوز تقديم الخبر ولا غيره من جملتها عليها. وكذا كل ما له الصدارة، كالاستفهام، وأسماء الشرط، وغيرهما.
هذا ما يقوله النحاة. ولكن السبب الحقيقي هو عدم استعمال العرب الفصحاء للأسلوب المشتمل على أداتين لهما الصدارة.
"راجع رقم 3 من هامش الصفحة الآتية".
4 كما أشرنا في رقم 3 من ص 560 وفي رقمي 4 و 1 من هامش ص 574 و575 وإذا كانت للاستثناء مع النسخ لم يجز تقديم خبرها عليها بالاتفاق. ومثلها: "لا يكون" الناسخة الاستثنائية.
5 انظر رقم 1 من هامش الصفحة السابقة.
التوسط: أمسى "فى البستان" حارسه، وبات "مع الحارس" أخوه1. ومثال التقدم عليهما2: فى البستان أمسى حارسه، ومع الحارس بات أخوه. فقد توسط الخبر أوتقدم؛ لكيلا يعود الضمير الذى فى الاسم على شئ متأخر لفظاً ورتبة، وهولا يجوز هنا.
2-
حين يكون الاسم واقعاً فيه الحصر كأن يكون مقروناً بإلا المسبوقة بالنفى؛ فمثال التوسط؛ ما كان حاضراً إلا على، ومثال التقدم على العامل ما حاضراً3 كان إلا على: لأن تقديم المحصور فيه يفسد الحصر.
السادسة: جواز الأمور الثلاثة "التأخر، والتقدم على العامل، والتوسط بينه وبين الاسم" فى غير ما سبق؛ نحو: كان الخطيب مؤثراً. أوكان مؤثراً الخطيبُ، أومؤثراً كان الخطيب. ومثله: كان خلقُ المرء سلاحَه، ويجوز: كان سلاحَه خلقُ المرءِ4، كما يجوز: سلاحَه كان خلقُ المرء.
فأحوال الخبر الستة تتلخص فيما يأتى إذا كان غير جملة:
1-
وجوب تأخيره عن الناسخ واسمه معا.
1 ليس في هذه الحالة ما يمنع من تقديم الخبر على الناسخ. ولهذا يصح توسطه وتقدمه. بخلاف الحالة الثانية التي يجب فيها تقدم الخبر على الاسم وحده، إذ لا بد فيها من وجود مانع يمنع تقدم الخبر على الناسخ. ويمنع تأخره عن الاسم، فيتعين توسط الخبر بين الناسخ واسمه.
2 بشرط ألا يكون قبل العامل شيء له الصدارة، فإن وجد شيء له الصدارة وجب تقديم الخبر على العامل وحده دون أن يتقدم على ما له الصدارة، إلا أن يكون هناك ما يمنع توسط الخبر بين العامل وماله الصدارة، كحالة الاستفهام بهل: في مثل: هل كان السفر طيبا. "راجع الحالة الرابعة السابقة".
3 إذا كان العامل مسبوقا "بما" النافية فإنه لا يجوز تقديم الخبر عليها وعلى العامل معا، لأن لها الصدارة. لكن يجوز تقديمه على العامل وحده دون "ما" أي: يجوز تقديم الخبر عليها وعلى العامل معا، لأن لها الصدارة. لكن يجوز تقديمه على العامل وحده دون "ما" أي: يجوز أن يتوسط بينهما كما سبق في رقم 3 من هامش الصفحة السالفة فإن كان النافي حرفا آخر، مثل: لم " أو "لا" أو "لن" أو غيرها إلا" إن النافية" فإنها مثل: ما النافية، جاز أن يتقدم عليه الخبر، نحو: مستريحا لم يصبح السهران منصورا لا يزال الحق مخلصا لن يكون الكذاب - انظر رقم 2 من هامش الصفحة الآتية -
4-
والضمير هنا عائد على متأخر لفظا فقط. دون رتبة، لأنه عائد على:"خلق" الذي هو اسم: "كن" والاسم متقدم على الخبر في الرتبة.
2-
وجوب تقديمه عليهما معا.
3-
وجوب توسطه بينهما.
4-
وجوب تقديمه على العامل الناسخ أوالتوسط بينه وبين الاسم.
5-
وجوب توسطه، أوتأخره.
6-
جواز تأخره، أوتقدمه، أوتوسطه.
وتلك الأحوال والأحكام تنطبق على جميع أخبار النواسخ فى هذا الباب إلا الأفعال التى يشترط لإعمالها أن يسبقها نفى، أوشبهه، وإلا "دام" التى يشترط لإعمالها أن يسبقها "ما" المصدرية الظرفية، وإلا "ليس" كما سبقت الإشارة إليها1. فهذه ثلاثة أشياء لكل واحد منها صور ممنوعة، وإليك البيان.
فأما الأفعال التى يشترط أن يسبقها نفى أوشبهه فتنطبق عليها الأحكام السابقة إلا حالة واحدة هى وجود النافى "ما"، فلا يجوز تقديم الخبر عليه؛ لأن "ما" النافية لها الصدارة كما سبق2؛ فلا يصح: متكلماً ما زال محمود، ولكن يصح تقدمه على العامل الناسخ وحده دون حرف النفى:"ما" فيصح: ما متكلماً زال محمود. كما يصح تقدمه على حروف النفى الأخرى؛ "مثل: لا، ولم، ولن
…
" أما بقية الصور الأخرى من التقديم والتأخير فشأن هذه الأفعال التى لا تعمل إلا بسبق نفى أوشبهه، كشأن غيرها.
وأما "دام" فتنطبق عليها الأحوال والأحكام السابقة إلا حالة واحدة لا تجوز؛ وهى تقدم الخبر عليها وعلى "ما" المصدرية الظرفية3، ففى مثل: "سأبقى فى
1 في رقم 3 من ص 559.
2 في رقم 3 من هامش صفحتي 571 و 572 ومثلها: "إن" في أرجح الآراء. ومنع تقديم الخبر على أحد حرفي النفي: "ما" و "إن" عام، يشمل خبر الأفعال الناسخة التي لا بد أن يسبقها نفي أو شبهة، مثل: زال، كما يشمل خبر الأفعال الناسخة التي لا يشترط أن يسبقها ذلك مثل:"كان" المسبوقة بأحد حرفي النفي، بل إنه يشمل كل جملة أخرى مبدوءة بأحدهما، فلا يجوز تقديم شيء من هذه الجملة على أحدهما.
3 ملاحظة: قال الأشموني في هذا الموضع ما نصه: "دعوى الإجماع على منع هذه الصورة مسلمة" أهـ. فقال الصبان في سبب المنع ما نصه: "للزوم تقدم بعض الصلة على الموصول الحرفي، وهو ممنوع، ولزوم عمل ما بعد الحرف المصدري فيما قبله، وهو أيضا ممنوع أهـ.
ومن كل ما سبق يتبين أن الموصول الحرفي لا يصح أن يسبقه مطلقا من صلته "أي من كل الجملة التي هي صلة له".
البيت ما دام المطر منهمراً" لا يصح أن يقال: "سأبقى فى البيت منهمراً ما دام المطر"؛ لأن "ما" المصدرية الظرفية كسائر الحروف المصدرية المختلفة1، لا يصح أن يتقدم عليها شئ من الجملة التى بعدها "وهى الجملة التى تقع صلة لها" لكن يجوز أن يتقدم الخبر على "دام" وحدها فيتوسط بينها وبين "ما" المذكورة2؛ ففى المثال السابق يصح أن نقول: سأبقَى فى البيت ما منهمراً دام المطر. وفى مثل؛ اقرأ فى الكتاب ما دامت النفس راغبة؛ لا يصح أن نقول: اقرأ فى الكتاب راغبةً ما دامت النفس، ويصح أن نقول، اقرأ فى الكتاب ما راغبةً دامت النفس
…
وهكذا3.
وأما "ليس" فتنطبق عليها جميع الأحوال والأحكام السابقة أيضاً4 إلا حالة
1 طبقا لما مر في آخر هامش الصفحة السالفة، وأشرنا إليه في ص 378 وهامشها عند الكلام على الصلة.
2 تقدم: في ص 410 وفي رقم 4 من هامش ص 570 و.... أنه لا يجوز الفصل بالخبر- أو بغيره بين "أن المصدرية" والفعل الذي تنصبه، في حين يجوز الفصل به بين "ما المصدرية الظرفية" والفعل الذي دخلت عليه، "طبقا لما سلف في 378" مع أن كل واحد منهما حرف مصدري لا يجوز أن يسبقه شيء من الجملة التي يدخل عليها - وهي الجملة التي يسبك معها بمصدر.
وبينهما فرق من جهة أخرى، فأن المصدرية تنصب المضارع، فلا يجوز الفصل بينهما مطلقا - بالخبر أو بغيره. محاكاة للوارد الفصيح من كلام العرب "وما المصدرية" لا تنصبه إن دخلت عليه، فيجوز الفصل بينهما بالخبر.
3 إلى بعض ما سبق يشير ابن مالك بقوله:
وفي جميعها توسط الخبر
…
أجز، وكل سبقه دام حظر
كذاك سبق خبر: "ما" النافية
…
فجيء بها ملتوة، لا تالية
يريد: أن جميع النواسخ السابقة يجوز فيها توسط اخبر بين الناسخ واسمه. ولم يذكر شروط ذلك، ولا تفصيله، وقد تداركناه ثم قال: إن كل النحاة حظر "أي: منع" سبق خبر "دام" عليهما، ولم يبين أهذا المنع خاص بتقديمه عليها وحدها دون "ما" المصدرية الظرفية التي تسبقها، أم بتقديمه عليهما معا، وقد أسلفنا أن الممنوع هو تقديمه عليهما معا. أما توسطه بينهما فليس بمنوع ثم قال: كذلك مع كل النحاة سبق الخبر وتقدمه على "ما" النافية، لأن لها الصدارة في جملتها، فلا يسبقها شيء منها ويجب أن تكون متلوة أي: سابقة، يتلوها غيرها ويجيء بعدها ولا يصح أن تكون تالية غيرها ولا أن تجيء بعده.
4 بشرط ألا تكون للاستثناء، فإن كانت للاستثناء لم يجز تقديم خبرها اتفاقا. ومثلها "لا يكون " الناسخة الاستثنائية" - كما سبق في رقم 4 من هامش ص 571
واحدة وقع فيها الخلاف بين النحاة وهى الحالة التى يتقدم فيها الخبر عليها؛ ففريق منع، وفريق أجاز1 والاقتصار على المنع أوْلى.
الآن وقد عرفنا حكم الخبر المفرد، وشبه الجملة، من ناحية التقدم، أو التوسط، أو التأخر.... بقي أن نعرف حكم معمولاته من هذه الناحية أيضا؟ وسيجيء البيان في الصفحة التالية.
1 حجة الفريق الأول أنه لم يرد على ألسنة العرب التقديم، فلا يسوغ لنا مخالفتهم. وحجة الفريق الثاني أنه ورد تقديم معمول الخبر عليها في الكلام الفصيح، ومنه قوله تعالى عن عذاب الكفار:"ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم". فكلمة يوم" ظرف للخير: "مصروفا" فهذا الظرف المعمول للخبر قد تقدم على "ليس"، فتقدمه يشعر بجواز تقدم الخبر!!
وهذا كلام غير مقبول بعد الاعتراف بأن الكلام العربي لم يرد به تقديم الخبر نفسه لا معموله. ويقول ابن مالك- في منع تقدم خبر "ليس"، وأن المنع هو المختار، وفي تعريف الفعل التام، "أي: الذي ليس بناسخ، طبقا للبيان السالف في رقم 3 من ص 545" وفي بيان الأفعال التامة:
وضع سبق خبر "ليس" اصطفى
…
وذو تمام ما برفع يكتفي
وما سواه ناقص، والنقص في
…
"فتيء "ليس" زال" دائما قفي
اصطفى: اختير.... أي: أن المختار منع تقديم خبر "ليس" عليها. وأن الفعل "التام" هو: الذي يكتفي بمرفوعه الفاعل، أو: نائب الفاعل، "والناقص" هو: الذي لا يكتفي بمرفوعه، وإنما يحتاج إلى اسم وخبر وجميع أفعال هذا الباب تستعمل تامة وناقصة إلا ثلاثة "ليس، فتيء، زال"، فإن النقص فيها لازما قفي، أي: تبعها، ولازمها، ولا يتركها وقد سبق التفصيل.
"هذا وكلمة: "ليس" الأولي مقصود لفظها، وهي مفعول به للمصدر: "سبق" وهذا المصدر مضاف لفاعله: خبر".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادَة وتفصيل:
"ا" عرفنا مما تقدم حكم الخبر المفرد وشبه الجملة، من حيث تقدمه وحده على عامله الناسخ، أوتوسطه بينه وبين اسمه، أوتأخره عنهما، وبقى للموضوع بقية تتصل بتقديم معمول هذا النوع من الأخبار على عامل الخبر؛ وهى أن الخبر يمتنع تقديمه وحده على الناسخ إذا كان الخبر قد رفع اسماً ظاهراً؛ ففى مثل:"كان الرجل نبيلا مقصدُه" و"بات المغنى ساحراً صوته" لا يصح: "نبيلا كان الرجل مقصدُه" - ولا ساحراً بات المغنى صوته1؛ لأنه لا يجوز تقديم الخبر وحده دون معموله المرفوع - كما قلنا - فإن تقدم مع معموله المرفوع جاز2؛ فيصح: "نبيلا مقصدُه كان الرجل". "ساحراً صوته بات المغنى" فإن كان معمول الخبر منصوباً نحو: "أضحى الرجل راكباً الطيارةَ" جاز تقديم الخبر وحده على العامل الناسخ لكن مع قبح3. نحو: الطيارةَ أضحى الرجل راكباً.
وإن كان المعمول ظرفاً أوجارًّا مع مجروره جاز تقديم الخبر وحده بغير قبح، ففي مثل؛ ظل الفتى عاملا يوماً، وأمسى قرير العين فى بيته - يقال: يوماً ظل الفتى عاملا، وفى بيته أمسى قرير العين.
"ب" يتصل بمسألة تقديم معمول الخبر مسألة توسط هذا المعمول بين الناسخ واسمه، ففى مثل: كان القادم راكباً سيارة: وكان المسافر راكباً سفينة
…
نعرب كلمة: "سيارة" وكلمة: "سفينة" - وأمثالهما - مفعولا به لخبر: "كان" فكل واحدة منهما معمولة لذلك الخبر، وليست معمولة للفعل "كان". فهل يجوز تقديم ذلك المعمول وحده على الاسم بحيث يتوسط بينه وبين كان؛ فنقول: كان سيارةً القادمُ راكباً؟ وكان سفينةً المسافرُ راكباً....؟ لا يجوز ذلك، بشرط ألا يكون المعمول "شبه جملة"، لأن
1 لأن المأثور من الفصيح لم يقع فيه الفصل بين الوصف ومرفوعه بأجنبي عنهما.
2 مع ملاحظة - أن المعمول المرفوع هنا يعرب فاعلا أو نائب فاعل على حسب الجملة فلا يصح تقديمه مطلقا على عامله
3 لقلة شيوعة في الأساليب الفصيحة القديمة.
لأنه مخالف للنهج العام الذى تسير عليه الجملة العربية فى نظام تكوينها المأثور، وطريقة ترتيب كلماتها. وذلك النهج يقتضى ألا يقع بعد العامل - مباشرةً معمل لغيره جملة....1، ففي مثل: أقبل القطار يحمل الركاب، نعرب كلمة:"الركاب" مفعولا به للفعل: "يحمل" وهذا الفعل هو، عاملها؛ فهى وثيقة الصلة به، وليست أجنبية منه، فلا يصح أن نقدمها ونضعها بعد عامل آخر؛ هو:"أقبل" لأنها أجنبية عنه؛ فلوقلنا: أقبل الركابَ الواردفى تركيب الجملة؛ وهوالنسق الذى تدل عليه تلك القاعدة العامة التى أشرنا إليها، والتى ملخصها:"أنه لا يجوز أن يلى العامل - مباشرة - معمول لعامل آخر". أو: "لا يصح أن يلى العامل - مباشرة - معمولٌ أجنبي عنه".
ولا فرق فى المعمول التقدم بين أن يكون معمولا الخبر "كان"، أولغيرها من النواسخ، وغير النواسخ، ولا بين أن يكون المعمول مفعولا أوغير مفعول
…
إلا الظرف والجار مع مجروره، فإنه يجوز أن يلى عاملا آخر غيرَ عامله. والقاعدة - كما أسلفنا - لا تختص بعامل، ولا تقتصر على معمول، وهى مستمدة من الأساليب الكثيرة الفصيحة وعلى أساسها بنى الحكم السابق.
هذا إذا تقدم المعمول وحده بدون الخبر كالأمثلة السابقة، أوتقدم ومعه الخبر، وكان المعمول هوالسابق على الخبر؛ ففى مثل: كان الطالبُ قارئاً الكتاب، لا يصح أن يقال: كان الكتابَ الطالبُ قارئاً. أما لوتقدما معاً وكان الخبر هوالسابق فالأحسن الأخذ بالرأى الذى يبيحه؛ لمسايرته الأساليب الفصيحة المأثورة2 فيصح أن نقول: كان قارئاً الكتابَ الطالبُ.
1 الشرط ألا يكون المعمول شبه جملة. وبناء على هذه القاعدة العامة لا يصح في باب: "كان" وأخواتها أن يتوسط بين العامل "الناسخ" واسمه المرفوع - معمول لعامل آخر إذا كان المعمول ليس شبه جملة. وإنما قلنا: العامل ومرفوعه، إذ لا يمكن أن يتم التوسط الممنوع هنا إلى بين العامل ومرفوعه، لأنهم يشترطون أن يقع التوسط الممنوع بعد العامل مباشرة، وهذا لا يتأتي إلا إذا كان الفاصل الأجنبي بين الناسخ واسمه المرفوع.
2 وقد تستدعيه بعض الحالات البلاغية. كل ذلك مع مراعاة الأحوال والشروط العامة لتقديم خبر الناسخ، وقد أوضحناها في ص 569.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
غير أن هناك حالة واحدة يصح فيها تقديم معمول الخبر وحده، أومع الخبر، متقدماً عليه، أومتأخراً عنه؛ هى - كما سبق -: أن يكون المعمول شبه جملة "أى: ظرفاً، أو: جارا مع مجروره"، نحو: بات الطير نائماً على الأشجار؛ وأصبح الطَّلُّ متراكما فوق الغصون، فيصح أن يقال: بات على الأشجار الطيرُ نائماً - وأصبح فوق الغصون الطّلّ متراكما
…
وهكذا1.... وقد وردت أمثلة قليلة مسموعة تقدم فيها معمول الخبر وحده، مع أنه ليس شبه جملة؛ فتناولها النحاة بالتأويل والتكلف لإدخالها تحت قاعدة عامة تصونها من مخالفة القاعدة السابقة. والأحسن إغفال ما قالوه، - إذ لا يرتاح العقل إليه2 - والحكم على تلك الأمثلة القليلة بالشذوذ؛ فلا يصح القياس عليها.
1 وفيما سبق بقول ابن مالك:
ولا يلي العامل معمول الخبر
…
إلا إذا ظرفا أتى، أو: حرف جر
أي: أن معمول الخبر لا يتقدم وحده أو مع الخبر فيقع بعد العامل مباشرة، لأن هذا التقدمم ممنوع، إلا في حالة واحدة، هي: أن يكون المعمول ظرفا أو حرف جر مع مجروره لأن حرف الجر وحده لا أثر له في الجملة.
2 إذا رأوا في الكلام المسموع أسلوبا مثل: صار- الصحف- المتعلمة تقرأ، أعربوها بتقديرات مختلفة أشهرها ما يأتي:"صار" فعل ماضي. إسمه ضمير الشأن المستتر، وهو كالظاهر في الفصل.
"الصحف" مفعول به للفعل "تقرأ". وبهذا الإعراب لا يكون المعمول عندهم قد وقع بعد العامل مباشرة، لوجود ضمير الشأن المستتر فاصلا بينهما، كما قلنا. "المتعلمة" مبتدأ مرفوع. "تقرأ". فعل وفاعل.
وهذه الجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب خبر الناسخ:"صار" وفي هذا تكلف ظاهر، وإضعاف لبناء الجملة وللمراد الحق من معناها بعد تقديرهم ضمير الشأن، وكان الواجب أن يقبلوا مثل هذا الأسلب، أو يرفضوه. أما التكلف والتأويل فلا يعرفه العرب على هذه الطريقة، ولا محل له اليوم. والأحسن أن نختار رفض ذلك الأسلوب، وفيما سبق يقول ابن مالك:
ومضمر الشأن اسما أنو أن وقع
…
موهم ما استبان أنه امتنع
يريد: انو ضمير الشأن وقد ره بعد الناسخ مباشرة، إن وردت لك بعض أمثلة توهمك، وتخيل لك أنها التي استبان منعها، أي: ظهر منعها.