الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو معلوم في الحديث الطويل، ومدافعة الفئة الباغية مُتَوَجِّهَةٌ في كل حال، [وأَمَّا التَهَيُّؤُ] لقتالهم فمع الولاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«حَكَمَ اللَّهُ في الْفِئَةِ البَاغِيَةِ أَلَاّ يُجْهَزَ على جَرِيحِهَا، وَلا يُطْلَبَ هَارِبُهَا، وَلَا يُقْتَلَ أسيرها، ولا يقسم فيئها» «1» وتَفِيءَ معناه: ترجع، وقرأ الجمهور:«بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» وذلك رعايةً لحال أَقَلِّ عدد يقع فيه القتال والتشاجر، وقرأ ابن عامر:«بَيْنَ إخْوَتِكُمْ» «2» وقرأ عاصم الجَحْدَرِيُّ: «بَيْنَ إخْوَانِكُمْ» »
وهي قراءة حسنة لأَنَّ الأكثر في جمع الأخ في الدِّينِ ونحوه من غير النسب/: «إخْوَان» ، والأكثر في جمعه من النسب:«إِخْوَة» و «آخَاء» ، وقد تتداخل هذه الجموعُ، وكُلُّها في كتاب اللَّه.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الآية: هذه الآية والتي بعدها نزلت في خُلُقِ أهل الجاهلية وذلك أَنَّهم كانوا يجرون مع شهواتِ نفوسهم، لم يقومهم أمر من اللَّه ولا نهي، فكان الرجل يسخر، ويلمز، وينبز بالألقاب، ويَظُنُّ الظنونَ، ويتكلم بها، ويغتاب، ويفتخر بنسبه، إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطَّالة، فنزلت هذه الآية تأديباً لهذه الأُمَّةِ، وروى البخاريُّ ومسلم والترمذيُّ واللفظ له عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: عرضه، وماله، ودمه، التّقوى هاهنا، بحسب امرئ من الشرّ أن يحتقر
(1) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 246)، وقال: رواه البزار، والطبراني في «الأوسط» ، وقال لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الإسناد، وفيه كوثر بن حكيم، وهو ضعيف.
(2)
ينظر: «السبعة» (606) ، و «الحجة» (6/ 207) ، و «معاني القراءات» (3/ 24) ، و «شرح الطيبة» (6/ 15) ، و «حجة القراءات» (675) ، و «إتحاف» (2/ 486) .
(3)
وقرأ بها زيد بن ثابت، وابن مسعود، والحسن، وابن سيرين. قال ابن خالويه: وسمعت ابن مجاهد يقول: روى عبد الوارث عن أبي عمرو أنه كان ربما قرأ «بين إخوتكم» ، وربما قرأ بالنون «إخوانكم» ، وربما قرأ بالياء «بين أخويكم» .
ينظر: «الشواذ» ص: (144) ، و «المحتسب» (2/ 278) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 149) ، وزاد نسبتها إلى حماد بن سلمة.
وينظر: «البحر المحيط» (8/ 111) ، وزاد نسبتها إلى ثابت البناني. وهي في «الدر» (6/ 170) . [.....]
أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» «1» انتهى، ويسخر معناه: يستهزىء، وقد يكون ذلك المُسْتَهْزَأُ به خيراً من الساخر، والقوم في كلام العرب واقع على الذُّكْرَان، وهو من أسماء الجَمْع ومن هذا قول زُهَيْر:[من الوافر]
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إخَالُ أَدْرِي
…
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ «2»
وهذه الآية أيضاً تقتضي اختصاص القوم بالذكران، وقد يكون مع الذكران نساء، فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور، وتَلْمِزُوا معناه: يطعن بعضُكم على بعض بذكر النقائص ونحوه، وقد يكون اللَّمْزُ بالقول وبالإشارة ونحوه مِمَّا يفهمه آخر، والهَمْزُ لا يكون إلَاّ باللسان، وحكى الثعلبيُّ أَنَّ اللمز ما كان في المشهد، والهَمْزَ ما كان في المغيب، وحكى الزهراويُّ عكس ذلك.
وقوله تعالى: أَنْفُسَكُمْ معناه: بعضكم بعضاً كما قال تعالى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 66] كأنَّ المؤمنين كنفس واحدة، إذ هم/ إخوة كما قال صلى الله عليه وسلم:
«كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشتكى مِنْهُ عُضْوٌ تداعى سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ والحمى» «3» ، وهم كما قال أيضاً:«كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» ، والتنابز: التَّلَقُّبُ، والتَّنَبزُ واللقب واحدٌ، واللقب- يعني المذكور في الآية- هو: ما يُعْرَفُ به الإنسان من الأسماء التي يَكْرَهُ سماعَهَا، وليس من هذا قول المُحَدِّثِينَ: سليمان الأعمش، وواصل الأحدب ونحوه مِمَّا تدعو الضرورة إليه، وليس فيه قصد استخفاف وأذى، وقال ابن زيد: معنى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي: لا يَقُلْ أحد لأحد: يا يهوديُّ، بعد إسلامه، ولا: يا فاسقُ، بعد توبته، ونحو هذا.
وقوله سبحانه: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يحتمل معنيين:
أحدهما: بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فُسَّاقاً بالمعصية بعد إيمانكم.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
ينظر: «ديوانه» ص: (73)، و «الاشتقاق» ص:(46)، و «جمهرة اللغة» ص:(978) ، و «الدرر» (2/ 261، 4/ 28، 5/ 126)، و «شرح شواهد الإيضاح» ص:(509)، و «شرح شواهد المغني» ص:
(130، 412)، والصاحبي في «فقه اللغة» ص:(189)، و «مغني اللبيب» ص:(41، 139، 393، 398) ، وبلا نسبة في «همع الهوامع» (1/ 153، 248، 2/ 72) .
(3)
أخرجه البخاري (10/ 452) كتاب «الأدب» باب: رحمة الناس والبهائم (6011)، ومسلم (4/ 1999- 2000) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (66، 66/ 2585) .
والثاني: بئس قول الرجل لأخيه: يا فاسق بعد إيمانه وعن حذيفةَ- رضي الله عنه قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَرَبَ لِسَانِي، فَقَالَ:«أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاِسْتِغْفَارِ؟! إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» «1» رواه النسائي واللفظُ له، وابنُ ماجه، والحاكمُ في «المستدرك» ، وقال: صحيح على شرط مسلم، وفي رواية للنسائي:«إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَأَتُوبُ إلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» «2» ، والذَّرَبُ- بفتح الذال والراء- هو الفُحْشُ، انتهى من «السلاح» ، ومنه عن ابن عمر: «إنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ:
رَبِّ اغفر لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمِ» «3» رَوَاه أبو داود، وهذا لفظه، والترمذي والنسائي، / وابن ماجه، وابن حبان في «صحيحه» ، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح غريب، انتهى.
ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن، وأَلَاّ يعملوا ولا يتكلموا بحسبه لما في ذلك وفي التجسس من التقاطُع والتَّدَابُرِ، وحكم على بعضه أَنَّه إثم، إذ بعضُه ليس بإثم، والظَّنُّ المنهيُّ عنه هو أَنْ تَظُنَّ شرًّا برجل ظاهره الصلاح، بلِ الواجب أنْ تزيل الظن وحكمه، وتتأوَّلَ الخيرَ قال ع «4» : وما زال أولو العزم يحترسون من سُوءِ الظنِ، ويجتنبون ذرائعه، قال النوويُّ: واعلم أَنَّ سوء الظن حرام، مثل القول، فكما يَحْرُمُ أَنْ تحدّث غيرك بمساوئ إنسان- يَحْرُمُ أَنْ تحدث نفسَك بذلك، وتسيءَ الظّنّ به وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:«إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» «5» والأحاديث بمعنى ما ذكرناه
(1) أخرجه النسائي (6/ 117) - «الكبرى» كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول من كان ذرب اللسان (10284/ 3)، وابن ماجه (2/ 1254) كتاب «الأدب» باب: الاستغفار (3817) ، والحاكم (1/ 511) نحوه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه النسائي (6/ 117)، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول من كان ذرب اللسان (10282/ 1) .
(3)
أخرجه أبو داود (1/ 475) كتاب «الصلاة» باب: في الاستغفار (1516)، والترمذي (5/ 494- 495) كتاب «الدعوات» باب: ما يقول إذا قام من المجلس (3434)، وابن ماجه (2/ 1253) كتاب «الأدب» باب: الاستغفار (3814) ، وأحمد (2/ 21، 67، 84) ، وابن حبان (8/ 114) - الموارد (2459)، و (3/ 206- 207) كتاب «الرقائق» باب: الأدعية ذكر وصف الاستغفار الذي كان يستغفر صلى الله عليه وسلم بالعدد الذي ذكرناه (927)، والنسائي في «الكبرى» (6/ 119) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: كيف الاستغفار (10292/ 1) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(4)
ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 151) .
(5)
أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم (5/ 441)، كتاب «الوصايا» باب: قول الله عز وجل: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12]، وقال ابن حجر: هو طرف من حديث وصله المصنف في
كثيرة، والمراد بذلك عَقْدُ القلب وحكمه على غيره بالسوء، فأَمَّا الخواطر وحديث النفس، إذا لم يستقر، ويستمر عليه صاحبه- فَمَعْفُوٌّ عنه باتفاق العلماء لأَنَّهُ لا اختيارَ له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفِكاك عنه، انتهى.
قال أبو عمر في «التمهيد» : وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ المُؤْمِنِ دَمَهُ، وَمَالَهُ، وعِرْضَهُ، وأَلَاّ يُظَنَّ بِهِ إلَاّ الْخَيْرَ» «1» انتهى، ونقل في موضع آخر بسنده: أَنَّ عمر بن عبد العزيز كان إذا ذُكِرَ عنده رجل بفضل أو صلاح قال: كيف هو إذا ذُكِرَ عنده إخوانه؟ فإنْ قالوا: إنَّه يتنقَّصهم، وينالُ منهم، قال عمر: ليس هو كما تقولون، وإنْ قالوا:
إنَّه يذكر منهم جميلاً وخيراً، ويُحْسِنُ الثَّنَاءَ عليهم، قال: هو كما تقولون إن شاء اللَّه، انتهى من «التمهيد» ، وروى أبو داودَ في «سننه» عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم/ قال:«حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ» «2» انتهى. وقوله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا أي: لا تبحثوا عن مخبَّآت أمور الناس، وادفعوا بالتي هي أحسن، واجتزءوا بالظواهر الحسنة، وقرأ الحسن وغيره:«وَلَا تَحَسَّسُوا» بالحاء المهملة قال بعض الناس: التَجَسُّسُ بالجيم في الشَّرِّ، وبالحاء في الخير، قال ع «3» : وهكذا ورد القرآن، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال.
«الأدب» من وجهين عن أبي هريرة، وقد أخرجه (10/ 106) كتاب «النكاح» باب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع (5143) موصولا عن أبي هريرة، وأخرجه أيضا (10/ 496)، كتاب «الأدب» باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر، وقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (6064) ، (10/ 499)، كتاب «الأدب» باب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا (6066)، (12/ 6) كتاب «الفرائض» باب: تعليم الفرائض رقم: (6724)، وأبو داود (2/ 697) كتاب «الأدب» باب: في الظن برقم: (4917)، والترمذي (4/ 356) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في ظن السوء (1988) ، وأحمد (2/ 245، 287، 312، 342، 465، 470، 472، 491، 492، 504، 517، 539) ، وابن حبان (12/ 499- 500)، كتاب «الحظر والإباحة» باب: الاستماع المكروه، وسوء الظن، والغضب والفحش، ذكر الزجر عن سوء الظن بأحد المسلمين (5687)، ومالك (2/ 907- 908) كتاب «حسن الخلق» باب: ما جاء في المهاجرة (150)، والبيهقي (6/ 85) كتاب «الإقرار» باب: ما جاء في إقرار المريض لورثته (7/ 180) كتاب «النكاح» باب: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه إذا رضيت به المخطوبة أو رضي به أبو البكر حتى يأذن أو يترك، (8/ 333) كتاب «الأشربة والحد فيها» باب: ما جاء في النهي عن التجسس، (10/ 231) كتاب «الشهادات» باب: شهادة أهل العصبية.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(1)
أخرجه الطبراني (11/ 37) برقم: (10966) .
(2)
أخرجه أبو داود (2/ 716- 717) كتاب «الأدب» باب: في حسن الظن (4993) ، والحاكم (4/ 256) ، وأحمد (2/ 407، 491) ، وابن حبان (8/ 30- 31) - الموارد (2395)، وابن حبان (2/ 399) كتاب «الرقائق» باب: حسن الظن بالله تعالى، وذكر البيان بأن حسن الظن للمرء المسلم من حسن العبادة (631) .
(3)
ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 151) .
ت: وقد وردت أحاديث صحيحة في هذا الباب، لولا الإطالة لجلبناها.
وَلا يَغْتَبْ معناه: لا يذكرْ أحدُكم من أخيه شيئاً هو فيه، ويكره سماعه، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«إذَا ذَكَرْتَ مَا في أَخِيكَ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإذَا ذَكَرْتَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّه» «1» ، وفي حديث آخر:«الغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ الْمُؤْمِنَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: وَإنْ كَان حَقًّا؟ قَالَ: إذَا قُلْتَ بَاطِلاً فَذَلِكَ هُوَ الْبُهْتَانُ» «2» وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «الغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا، قِيلَ: وَكَيْفَ؟! قال: لأَنَّ الزَّانِيَ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَغْتَابُ لَا يُتَابُ عَلَيْهِ حتى يَسْتَحِلَّ» «3» ، قال ع «4» : وقد يموت من اغْتِيبَ، أو يأبى، وروى أبو داودَ في «سننه» عن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هؤلاء يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ» «5» انتهى.
والغِيبَةُ مشتقة من «غَابَ يَغِيبُ» وهي القول في الغائب، واسْتُعْمِلَتْ في المكروه، ولم يُبَحْ في هذا المعنى إلَاّ ما تدعو الضرورةُ إليه، من تجريح الشهود، وفي التعريف/ بمن استنصح في الخطاب ونحوهم: لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ» وما يقال في الفَسَقَةِ أيضاً، وفي وُلَاةِ الجَوْرِ، ويقصد به: التحذير منهم ومنه قوله ع:
«أعن الفاجر ترعوون؟! اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ، مَتَى يَعْرِفُهُ النَّاسُ إذا لم تذكروه؟!» «6» .
(1) أخرجه مسلم (4/ 2001) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: تحريم الغيبة (70/ 2589)، وأبو داود (2/ 685) كتاب «الأدب» باب: في الغيبة (4874)، والترمذي (4/ 329) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في الغيبة (1934) ، وأحمد (2/ 230، 386، 458) .
(2)
ينظر: ما قبله. [.....]
(3)
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 306) باب: في تحريم أعراض الناس (6741) عن أبي سعيد الخدري، وجابر.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 94- 95) : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه عباد بن كثير الثقفي وهو متروك اهـ.
وللبيهقي رواية عن أنس في «شعب الإيمان» (5/ 306)(6742) .
(4)
ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 151) .
(5)
أخرجه أبو داود (2/ 685- 686) كتاب «الأدب» باب: في الغيبة (4878) ، وذكره الألباني في «الصحيحة» (2/ 59)(533) .
(6)
أخرجه البيهقي (10/ 210) كتاب «الشهادات» باب: الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث، فيقول: كفوا عن حديثه لأنه يغلط أو يحدث بما لم يسمع، أو أنه لا يبصر الفتوى.
قال العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 114) ، رواه ابن أبي الدنيا، وابن عدي، والطبراني، والخطيب عن معاوية بن حيدة، وقال في «التمييز» : أخرجه أبو يعلى، ولا يصح. اهـ. -
ت: وهذا الحديث خَرَّجه أيضاً أبو بكر ابن الخطيب بسنده عن بَهْزٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أترعوون عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ، اذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ» «1» ولم يذكر في سنده مَطْعَناً، انتهى، ومنه قوله ع:«بِئْسَ ابنُ الْعَشِيرَةِ» «2» .
ثُمَّ مَثَّلَ تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت، ووقف تعالى على جهة التوبيخ بقوله:
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ أي: فكذلك فاكرهوا الغِيبَةَ، قال أبو حيان «3» : فَكَرِهْتُمُوهُ قيل: خبر بمعنى الأَمر، أي: فاكرهوه، وقيل على بابه، فقال الفَرَّاءُ: فقد كرهتموه، فلا تفعلوه، انتهى.
وقد روى البخاريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ، وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إلَاّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ» «4» وفي رواية مسلم: «مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أوْ قَالَ: عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ- إلَاّ حَارَ عَلَيْهِ» «5» وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم:
«أَيُّ رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ: كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بها أحدهما» «6» انتهى، وباقي الآية بيّن.
- قال ابن حبان في «المجروحين» (1/ 220) : الجارود بن يزيد العامري- أبو علي من أهل نيسابور، يروي عن بهز بن حكيم، والثوري، روى عنه سلمة بن شعيب يتفرد بالمناكير عن المشاهير، ويروي عن الثقات ما لا أصل له، روى عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده قال:«أتنزعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه كي يحذر الناس» اهـ.
وجدّ بهز بن حكيم هو معاوية بن حيدة.
(1)
انظر الحديث السابق.
(2)
أخرجه البخاري (10/ 486) كتاب «الأدب» باب: ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب (6054)، ومسلم (4/ 2002) كتاب «البر والصلة والآداب» باب: مداراة من يتقى فحشه (73، 73/ 2591)، وأبو داود (2/ 666) كتاب «الأدب» باب: في حسن العشرة (4792)، والترمذي (4/ 259) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في المداراة (1996)، ومالك (2/ 903) كتاب «حسن الخلق» باب: ما جاء في حسن الخلق (4) ، وأحمد (6/ 158) .
(3)
ينظر: «البحر المحيط» (8/ 114) .
(4)
أخرجه البخاري (10/ 479) كتاب «الأدب» باب: ما ينهى عن السباب واللعن (6045) ، وأحمد (5/ 181) .
(5)
أخرجه مسلم (1/ 280) - الأبي كتاب «الإيمان» باب: بيان حال من رغب عن أبيه وهو يعلم. (112/
61) ، وأحمد (5/ 266) .
(6)
أخرجه البخاري (10/ 531) كتاب «الأدب» باب: من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (6104) ، ومسلم (1/ 279- 280)، كتاب «الإيمان» باب: بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر (111/ 60) عن عبد الله بن دينار، والترمذي (5/ 22) كتاب «الإيمان» باب: ما جاء فيمن رمى أخاه بكفر (2637) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.