الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة «اللّيل»
وهي مكّيّة في قول الجمهور
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2)
أقسَمَ تعالى بالليل إذا غَشِيَ الأرضَ وجميعَ ما فيها، وبالنهارِ إذا تَجَلَّى، أي: ظهَرَ وضَوَّى الآفاقَ، وقال- ص-: يَغْشى: مفعولهُ محذوفٌ فيحتملُ أنْ يكونَ النهارَ كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 54] أو الشمس كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشمس: 4] وقيل الأرض وما فيها، انتهى.
[سورة الليل (92) : الآيات 3 الى 14]
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12)
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)
وقوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى يحتملُ أنْ تكونَ «ما» بمعنى: «الذي» ويحتملُ أَنْ تكونَ مصدريةً، والذكرُ والأنثى هنا عامٌّ، وقال الحسن: المرادُ آدمُ وحواء «1» ، والسَّعْيُ العَمَلُ، فأخبرَ تعالى مُقْسِماً أَنَّ أعمالَ العبادِ شَتَّى، أي: متفرقة جدًّا بعضُها في رِضَى اللَّهِ، وبعضها في سَخَطِه، ثم قَسَّم تعالى الساعينَ فقال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآية، ويُروى أن هذهِ الآيَة نزلتْ في أبي بكرٍ الصديقِ- رضي الله عنه.
وقوله تعالى: وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قيل هي: لا إله إلا اللَّه، وقيل: هي الخَلَفُ الذي وَعَدَ اللَّه بهِ، وقيل: هي الجنةُ، وقال كثيرٌ من المتأولينَ: الحسنى: الأجرُ والثوابُ مُجْمَلاً، والعُسْرَى: الحال السيئة في الدنيا والآخرة، ومن جَعل بَخِلَ في المالِ خَاصَّةً جَعَلَ اسْتَغْنى في المالِ أيضاً، لتَعْظُمَ المَذَمَّةُ، ومَنْ جَعَلَ بَخِلَ عَامًّا في جَمِيعِ مَا يَنْبَغِي أن يبْذَلَ، مِنْ قَولٍ أو فعلٍ قال: اسْتَغْنى عن اللَّهِ ورحمتهِ بِزَعْمِه، وظاهرُ قوله:
(1) ذكره البغوي (4/ 494) ، وابن عطية (5/ 490) .
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أَنَّ الإعطاءَ والبخلَ المذكورين إنما هما في المال.
وقوله تعالى: إِذا تَرَدَّى، قال قتادة وغيره: معناه تردَّى في جهنم «1» . وقال مجاهد: تَرَدَّى معناه: هَلَكَ من الردَّى «2» ، وخَرَّج البخاريُّ وغيرُه عن علي- رضي الله عنه قال: «كُنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بَقِيعِ الغَرْقَدِ في جِنَازَةٍ، فقالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، أوْ مَا/ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَاّ وَقَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإلَاّ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، أفَلَا نتَّكِلُ على كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلى أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ؟ قال: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى إلى قوله:
لِلْعُسْرى» وفي روايةٍ، لَمَا قيلَ له: أفَلَا نتَّكِلُ على كِتَابِنَا، قال: لَا بَلِ اعملوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» الحديثَ، وخرَّجه الترمذيُّ أيضاً، انتهى، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» :
«وسأل شابّان رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: العَملُ فِيما جَفَّتْ بهِ الأَقْلَامُ وجَرَتْ بهِ المَقَادِيرُ أَمْ في شَيْءٍ مُسْتَأْنَفٍ؟ فقال: بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ، وجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ، قَالَا: فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ: قَالَ: اعملوا فَكُلُّ مُيسَّر لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ له» قالا: فالآنَ نَجِدُّ ونَعْمَلُ» «3» انتهى، وقال قوم: معنى تردى، أي: بأكْفَانِهِ مِنَ الرِّدَاءِ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
(1) أخرجه الطبري (12/ 617) ، (37481) ، وذكره البغوي (4/ 496) ، وابن عطية (5/ 491) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 520) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 606) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة.
(2)
أخرجه الطبري (12/ 617) ، (37482) ، وذكره البغوي (4/ 496) ، وابن عطية (5/ 491) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 520) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 606) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....]
(3)
أخرجه البخاري (11/ 530)، كتاب «القدر» باب: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (6605) ، (13/ 531)، كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (7552) ، ومسلم (4/ 2039، 2040)، كتاب «القدر» باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (6- 7/ 2647) ، وأبو داود (2/ 634- 635)، كتاب «السنة» باب: في القدر (4694) ، والترمذي (4/ 445)، كتاب «القدر» باب: ما جاء في الشقاوة والسعادة (2136) ، (5/ 441)، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (3344) ، وأحمد (1/ 82، 129، 132- 133، 140، 157) ، وابن حبان (2/ 43- 44- 45)، كتاب «البر والإحسان» باب: ما جاء في الطاعات وثوابها (233- 234) ، والطيالسي (1/ 32)، كتاب «القدر» باب: ما جاء في العمل مع القدر (61) ، وابن ماجه (1/ 30- 31)، «المقدمة» باب: في القدر (78) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.