الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ
…
الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، واسْتُفْتِحَتْ بالاسْتِفْهَام تَعْجِيباً مِنَ القصَّةِ وتفخيماً لها، والخصم يوصف به الواحد والاثنان والجمع، وتَسَوَّرُوا معناه: عَلَوْا سُورَهُ، وهو جَمْعُ «سُورَةٍ» وهي القطعةُ من البناء، وَتَحْتَمِلُ هذه الآيةُ أن يكون المتسوّر اثنين فَقَطْ، فَعَبَّرَ عَنْهُما بلَفْظِ الجَمْعِ، ويحتملُ أن يكونَ معَ كلِّ واحدٍ منَ الخَصْمَيْنِ جَمَاعَةٌ، والْمِحْرابَ المَوْضِعُ الأرْفَعُ مِنَ القَصْرِ أو المَسْجِدِ، وهو موضع التعبُّد، وإنما فَزِعَ منهم مِنْ حَيْثُ دَخَلُوا من غير الباب، ودون استئذان، ولا خلافَ بَيْن أهلِ التأويلِ أنَّ هذا الخَصْمَ إنما كانوا ملائكةً بَعَثَهُمْ اللَّهُ ضَرْبَ مَثَلٍ لداودَ، فاختصموا إليه في نازلةٍ قَدْ وَقَعَ هُو في نَحْوِهَا، فأَفْتَاهُمْ بِفُتْيَا هِي وَاقِعَةٌ عليه في نازلته، ولَمَّا شَعَرَ وَفَهِمَ المُرَادَ، خَرَّ رَاكِعاً وأَنَابَ، واسْتَغْفَرَ، وأمَّا نَازِلَتُهُ الَّتي وَقَع فِيها، ففيها للقُصَّاصِ تَطْوِيلٌ، فَلَمْ نَرَ سَوْقَ جَمِيعِ ذلكَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ.
ورُوِيَ فِي ذلكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ما معناه أن دَاوُدَ كَانَ في مِحْرَابِهِ يَتَعَبَّدُ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ طَائِرٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، فَمَدَّ يَدَهُ إليْه ليأخذه، فزال مطمعا لَه مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى امْرَأَةٍ لَهَا مَنْظَرٌ وَجَمَالٌ، فَخَطَرَ فِي نَفْسِهِ أنْ لَوْ كَانَتْ مِنْ نِسَائِهِ، وَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ أَنَّهَا امْرَأَةُ أُورِيَّا، وَكَانَ في الجِهَادِ فَبَلَغَهُ أنَّه اسْتُشْهِدَ فَخَطَبَ المَرْأَةَ، وَتَزَوَّجَهَا، فَكَانَتْ أُمَّ سُلَيْمَانَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، فَبَعَثَ اللَّهُ الخَصْمَ لِيُفْتِيَ «1» ، قَالَتْ فرقةٌ من العلماء: وإنما وَقَعَتْ المعَاتَبَةُ على/ هَمِّهِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْه شَيْءٌ سِوَى الهَمِّ، وكانَ لِدَاوُدَ فِيما رُوِيَ تِسْعٌ وتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَفي كُتُبِ بَنِي إسرائيل في هذه القصة صُوَرٌ لَا تَلِيقُ، وقد قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ حَدَّثَ بِما قَالَ هؤلاءِ القُصَّاصُ في أَمْرِ دَاوُدَ، جَلَدْتُهُ حَدَّيْنِ لما ارتكب مِنْ حُرْمَةِ مَنْ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ «2» .
وقوله: خَصْمانِ تقديره: نحن خصمان، وبَغى معناه: اعتدى واسْتَطَالَ، وَلا تُشْطِطْ معناه: وَلَا تتعدّ في حكمك، وسَواءِ الصِّراطِ معناه: وسطه.
[سورة ص (38) : الآيات 23 الى 25]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 570) عن ابن عبّاس برقم: (29852)، وبرقم:(29853) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 52) ، وابن عطية في «تفسيره» (4/ 498) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 564) ، وعزاه لابن أبي شيبة في «المصنف» ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(2)
ذكره ابن عطية في «تفسيره» (4/ 499) .
وقوله: إِنَّ هَذَا أَخِي [إعرابُ «أخي» ]«1» عَطْفُ بَيَانٍ، وذلك أن مَا جرى من هذه الأشياء صِفةً كالخَلْقِ والخُلُقِ وسَائِر الأوْصَافِ، فَإنَّه نَعْتٌ مَحْضٌ، والعاملُ فيه هو العاملُ في الموصوفِ، وما كان مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ يُوصَفُ بهِ بَتَّةً، فهو بَدَلٌ والعَامِلُ فيه مُكَرَّرٌ أي:
تقديراً يقال: جَاءَنِي أخوك زيدٌ، فالتقديرُ: جَاءَنِي أَخُوكَ، جَاءَنِي زَيْدٌ، ومَا كَان مِنْها مِمَّا لَا يُوصَفُ بهِ واحتيج إلى أنْ يُبَيَّنَ بِه، وَيَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ.
«والنعجة» في هذه الآيةِ عَبَّرَ بِهَا عَنِ المَرْأَةِ، والنعجةُ في كلام العرب: تقعُ على أنثى بَقَرِ الوَحْشِ، وعلى أُنْثَى الضَّأْنِ، وتُعَبّرُ العَرَبُ بِهَا عن المَرْأَةِ.
وقوله: أَكْفِلْنِيها أي: رُدَّهَا في كَفَالَتِي، وقال ابنُ كَيْسَانَ: المعنى: اجعلها كِفْلِي، أي: نَصِيبي، وَعَزَّنِي معناه: غَلَبَنِي، ومنه قول العربِ:«مَنْ عَزَّ بَزَّ» أي: مَنْ غَلَبَ، سَلَبَ، ومعنى قوله: فِي الْخِطابِ أي: كان أوْجَهَ مِنِّي، فإذَا خَاطَبْتُهُ، كانَ كلامُه أقوى من كلامي، وقُوَّتُهُ أعْظَمَ مِنْ قُوَّتِي.
ويروى أنَّه لَمَّا قَالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ، تَبَسّما عند ذلكَ، وَذَهَبَا، وَلَمْ يَرَهُما لحِينه، فَشَعَرَ حينئذ للأمْرِ، ويروى أنّهما ذهبا نحو السّماء بمرأى منه.
والْخُلَطاءِ: الشُّرَكَاءِ في الأمْلَاكِ، والأُمُورِ، وهذا القَوْلُ مِنْ دَاوُدَ وَعْظٌ لِقَاعِدَةِ حَقٍّ، ليُحَذِّرَ الخَصْمَ مِنَ الوُقُوعِ في خلافِ الحقِّ.
وقوله تعالى: «إِلَاّ الذين ءامنوا وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ» : قال أبو حيان «2» :
وَقَلِيلٌ خبرٌ مقدَّم، و «مَا» زائِدةٌ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، انتهى.
وَرَوَى ابْنُ المبارَكِ في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أشَدُّ الأعْمَالِ ذِكْرُ اللَّهِ على كُلِّ حَالٍ، والإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُوَاسَاةُ الأخِ في المال» «3» انتهى.
وقوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ معناه: شعر للأمر وعلمه، وفَتَنَّاهُ أي:
ابْتَلَيْنَاهُ وامْتَحَنَّاهُ، وقال البخاريُّ: قال ابن عبّاس: فَتَنَّاهُ أي: اختبرناه، وأسند البخاريّ
(1) سقط في: د.
(2)
ينظر: «البحر المحيط» (7/ 377) .
(3)
ذكره الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (6/ 326) من طريق الشافعي عن مالك، عن نافع، عنِ ابن عمر، وقال: وهذا موضوع على هؤلاء رقم: (1163) .