الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم، وانقطعوا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها». (1)
مناقشة الإشكال الثاني:
وهو قول الشيخ رشيد رضا عن الأحاديث الواردة في المسيح الدجال «ما ذكر فيها من الخوارق التي تضاهي أكبر الآيات التي أيد الله بها أولى العزم من المرسلين أو تفوقها، وتعد شبهه عليها كما قال بعض علماء الكلام وعد بعض المحدثين ذلك من بدعتهم
…
».
فالشيخ رشيد رضا رحمه الله وغفر له، يرى أن ما ذكر عن المسيح الدجال. وما سيأتي به من خوارق الأمور والأعمال التي تبهر العقول وتحير الألباب، مشابه أو مساوي لما أيد الله به أولى العزم من المرسلين من المعجزات والكرامات.
وهذا بحد ذاته يعتبر شبهةً وإشكالاً كبيراً عند رشيد رضا، بل وهذه الشبهة أو الإشكال كفيلة برد كل الأحاديث الصحيحة التي ذكرت في المسيح الدجال.
وفي الحقيقة أن المسألة أهون وأيسر من ذلك، لمن وفقه الله وأنار بصيرته للجمع بين النصوص أو التوفيق بينها.
فالمسألة في الواقع لا شبهة ولا إشكال فيها، فالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، مؤمنون بالله مقرون ومعترفون بربوبيته على خلقه،
(1) التذكرة للقرطبي، صـ 624.
ومقرون ومعترفون بأن ما جاءوا به من المعجزات إنما هو بتأييد الله لهم ليعلم الناس صدقهم وصدق ما جاؤوا به من الشرائع والأحكام، وأنهم ما أرسلوا إلا لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة من سواه.
بعكس المسيح الدجال، فهو وإن جاء ببعض الأعمال والأمور العظيمة التي تبهر العقول وتحير الألباب كإحياء الموتى وأمره للسماء أن تمطر فتمطر وغيرها من الأمور، فإن أمره واضحٌ وبين لمن ثبته الله في تلك الفتنة وربط على قلبه، وذلك أن الدجال لم يدع النبوة فيلتبس أمره، وإنما إدعى الألوهية ودعا الناس إلى عبادته والكفر بعبادة الله، وهو مع دعوته الناس إلى إتباعه وطاعته فهو ناقص ومعيب ومشوه الخلق، فهو أحقر وأذل أن يدعي هذه الدعوة.
ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين وحذر أمته من المسيح الدجال وبين صفاته، وأن من أوضح صفاته أنه مكتوبٌ بين عينيه كافر يقرؤها كل مؤمن كاتب وغير كاتب، وأنه أعور والله تعالى متصف بصفات الكمال والجمال والجلال وليس بأعور.
فبهذا يتبين الفرق بين ما جاء به أولوا العزم من الرسل وما سوف يجيء به المسيح الدجال من أعمال وخوارق، فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الأحاديث ويؤمنون بها وبما دلت عليه، ولا يعتبرون ما جاء فيها من الخوارق مظنة لردها، كما يقول أهل الكلام من المعتزلة والجهمية وغيرهم.
وإن قال البعض منهم بأن ما مع الدجال ليس له حقيقة، وأن ذلك إنما هو في نظر العين وليس بحقيقة، كابن حزم والطحاوي وآخرين إلا أن
هؤلاء دليلهم النقل لا غيره حيث تمسكوا بحديث حذيفة بن اليمان وغيره أن ماءه نار، وناره ماء بارد. (1)
ولا شك أن قول هؤلاء مخالف للصواب، ولما عليه ظاهر الحديث، ولما عليه جمهور أهل السنة والجماعة.
وقد رد الحافظ ابن حجر على هذا القول، حيث قال:«إن خوارق الدجال حقيقة وليست بخيالات ولا تمويهات، وهذه الخوارق من الأمور التي أقدره الله عليها فتنةً وابتلاءً للعباد، والدجال لا يمكن أن يشتبه حاله بحال الأنبياء، لأنه لم يثبت أنه يدعي النبوة حال ظهور الخوارق بين يديه، بل يكون ظهور الخوارق عند إدعائه الربوبية» . (2)
أما بالنسبة لقوله: «كيف يؤتي الله عز وجل الدجال هذه الخوارق لفتنة السواد الأعظم من عباده؟
فهذا سؤال ما كان ينبغي للشيخ رشيد رحمه الله وغفر له، أن يسأله فإن الله سبحانه وتعالى يسأل ولا يُسأل سبحانه، ومن نحن حتى نسأل الله كيف تفعل كذا وكذا؟ فالخلق خلقه والعبيد عبيده، يفعلُ ما شاء ومتى شاء سبحانه وتعالى لا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
ثم إننا لو فتحنا باب (كيف) و (لم) و (لماذا) لفتحنا على الدين وأهله باب شر لن يغلق، يلج منه كل مبغضٍ للدين وأهله، فاسد النية، خبيث
(1) النهاية في الفتن والملاحم (120/ 1)
(2)
فتح الباري (105/ 13)
الطوية للطعن في الدين وأحكامه وعقائده، ولأصبح الدين مسائل وأفكار قابلةً للأخذ والرد على حسب الأهواء والأمزجة، فذاك يستنكر حد الردة، وذاك يجادل في حد الرجم، وذاك يجادل في وجود الملائكة، وذاك يشكك في اليوم الآخر.
وهكذا يكون الدين ألعوبة لكل فاسقٍ وفاسد يشكك ويطعن بالدين بدعوى البحث عن الحقيقة، وما علم أن السلامة أن يمسك عن هذه الأقوال وعن هذا الجدل العقيم، فالأصلُ بالمؤمن أن يؤمن ويصدق بكل ما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة سواء علم الحكمة من ذلك أو لم يعلم، فقه معناه أو لم يفقههُ فذاك أسلم لدينه وخيرٌ لعاقبته.
إلا أننا نجيب عن ما يرى الشيخ رشيد أنه إشكال فنقول: إن الله تبارك وتعالى هو رب الخلق، خلقهم لعبادته وطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ثم إنه ابتلاهم بالشر والخير ليعلم الصادق في عبوديته لربه من الكاذب، فالله سبحانه وتعالى جعل الابتلاءات والمصائب كي يمحص إيمانهم وصدقهم فمن صبر واحتسب فله الأجر، ومن جزع واعترض فعليه الوزر.
وقد جاءت الكثير من الآيات في هذا الصدد.
(1) البقرة 155 - 156.
وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} (4)
فالإنسان في هذه الدنيا معرض للابتلاء والمصائب والفتن كما ذكرنا في الآيات السابقة، اختباراً وامتحاناً له.
وفتنة المسيح الدجال من جملة هذه الفتن التي يسأل الإنسان ربه أن يقيه شرها ويسلمه منها.
(1) آل عمران 179.
(2)
العنكبوت 2 - 3.
(3)
البقرة 214.
(4)
الأنبياء 35.