الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
فتح باب الطعن في الصحيحين
مما لا شك فيه أن أصح الكتب بعد كتاب الله عند أهل السنة والجماعة هما صحيحاً البخاري وسلم، وقد أجمعت الأمة على تلقي كتابيهما بالقبول، وذلك لشدة تحريهما وشدة شروطهما في قبول الحديث.
قال البخاري: «ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وما تركت من الصحاح أكثر» . (1)
وقال: «أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح» . (2)
وقال مسلم: «ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه» . (3)
فلصحيحي البخاري ومسلم مكانة علمية كبيرة في التراث الإسلامي، كيف لا وهما كما ذكرنا أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، مازالت هذه المكانة العلمية باقية في قلوب المسلمين وعلماء الأمة.
(1) علوم الحديث لأبن الصلاح 16.
(2)
نفس المصدر والصفحة.
(3)
نفس المصدر والصفحة.
إلى أن جاء أصحاب المدرسة العقلية الحديثة وعلى رأسهم الشيخ محمد رشيد رضا ومن قبله أستاذه محمد عبده.
فقام ـ بدعوى البحث العلمي، وتصفيه العقيدة وتنقية السنة مما علق بها من الإسرائيليات ـ برد العشرات من الأحاديث الواردة في الصحيحين كالأحاديث الواردة في المسيح الدجال وحديث الجساسة.
والأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان والأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان أيضا وغيرها من الأحاديث الأخرى الكثيرة.
وكل ذلك لا لعلةٍ في أسانيدها، بل بدعوى التعارض والتناقض فيما بينها، ومخالفتها للسنن الكونية، وعدم تصديق العقل لها وغيرها من الأعذار التي في الحقيقة لا قيمة لها، ولا ترقي إلا رد جملة من الأحاديث الواردة بأصح الأسانيد في أصح الكتب.
وبسبب آراء رشيد رضا في هذه الأحاديث وجرأته في ردها والحكم عليها بالوضع، تجرأ العديد من بعده من الكتاب والمفكرين الذين ينتمون لنفس المدرسة وهي «المدرسة العقلية الحديثة» فقاموا بالطعن في صحيحي البخاري ومسلم جهاراً ونهاراً وبنشر ذلك في الصحف والمجلات، ولعمري إن هذا من أسوء الآثار الفكرية التي ورَّثها محمد رشيد رضا بعد وفاته، وهي فتح باب الطعن في الصحيحين وتجرئة الناس عليه.
حيث قام من بعده المدعو محمود أبو ريه، صاحب كتاب «أضواء على
السنة المحمدية أو دفاع عن الحديث» وذلك فملأ كتابه بالطعن في السنة النبوية وإنكار حجيتها، والطعن في صحيحي البخاري ومسلم طعناً لا هوادة فيه، لكي تفقد الأمة الثقة بأصح كتب الحديث عندها، وحتى يسهل فيما بعد الطعن في باقي كتب السنن والمعاجم الأخرى والتي هي دونه في الصحة والضبط.
معتمداً في طعونه على آراء وأقوال رشيد رضا في رده لجمله من الأحاديث الواردة في الصحيحين التي توافق هواه ومنهجه المنحرف.
ومن بعد محمود أبو ريه، جاء الضال الزائق المدعو السيد صالح أبو بكر وألف كتاباً أسماه «الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها» .
والذي زعم فيه أن من أهدافه كما يقول «تقديم حصيلة الفحص الدقيق للأحاديث المعارضة للقرآن، والمنافية لما يليق بالله وبرسوله والتي جمعناها من صحيح البخاري باعتباره عمدة المراجع في هذا المجال وعددها مئة وعشرون حديثاً، والتعقيب القرآني على كل منها بما يثبت أنها دخيلة على كلام النبي صلى الله عليه وسلم» . (1)
والذي عد من أهدافه أيضاً: «القضاء على مشاركة الحديث الباطل للقرآن الكريم» ، ومنها «إدراك العواقب المترتبة على ترك الأحاديث المخالفة
(1) الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها، السيد صالح أبو بكر 3 - 6، وقد رد على كتابه هذا الشيخ محمود التويجري في كتاب أسماه «الرد القويم على المجرم الأثيم» مكتبة دار العليان الحديثة.
للقرآن الكريم دون تجريح وإظهار عيوبها»، ومنها «إثبات أن دين الله هو القرآن بدايةً ونهايةً» . (1)
وفي الحقيقة أن المؤلف السيد صالح أبو بكر، غالب كتابه نقولات عن كتاب محمود أبو ريه والتي هي في الحقيقة آراء وأقوال رشيد رضا ومحمد عبده.
بل إن بدء هجومه على أبي هريرة- رضي الله عنه يصدره برأي مدرسة المنار والتي رشيد رضا مؤسسها ومنظرها الأول فيضع فصلاً بعنوان «أبو هريرة ورأي علماء الحديث فيه ممثلاً في مدرسة المنار» (2)، حيث خصص من صـ 58 إلى صـ 63 في الطعن في أبي هريرة- رضي الله عنه وفي روايته.
وإن شئت مثالا من الأحاديث المئة والعشرين التي كذبها المؤلف من صحيح البخاري وأسلوبه في التكذيب، حتى تدرك بعد منهجه عن عنوان الكتاب «الأضواء القرآنية» وعن أهدافه التي زعمها فإليك واحدا منها.
ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال إني لأنذركموه وما من نبي إلا أنذره قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور» رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب قول الله عز وجل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} .
أتدرون ماذا قال المؤلف بعد أن نقله نقلا غير ملتزم بألفاظه كما هو
(1) نفس المصدر والصفحة.
(2)
نفس المصدر 58.
شأن علماء الحديث الصالحين أتحسبون الرجل استند إلى آية قرآنية واحدة في رد الحديث فضلا عن التزام «الأضواء القرآنية» ! ! لا لا ليس الأمر كما تحسبون. بل قال «ودلائل الزيف في هذا الحديث وغيره من أحاديث الدجال كلها نقول فيها ما يلي:
أولا: إن المسيح الدجال هو كل مبدل وكل ماسخ لجمال الحق
…
وأن هذا المسيح ليس رجلاً واحداً فقط، ولكنهم كثيرون، وهم عور وغير عور، يعيشون معنا وأناس منا وكانوا مع من قبلنا، وسيكونون مع من بعدنا، وفي كل زمان ومكان .. وليسوا مسيحاً واحداً كما يقول الحديث.
ثانياً: إذا كان المسيح سيظهر في آخر الزمان فقط .. فمن هو المسيح الدجال الذي كان سببا في ظهور الفساد والفتن في عهود الخلفاء وزمن التابعين بل زماننا هذا.
ثالثا: إذا كان المسيح الدجال رجلا واحدا ولا يأتي إلا في آخر الزمان فمن أي مسيح كان يتعوذ النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه والتابعون .. ومن أي مسيح نتعوذ نحن الآن في نهاية كل صلاة كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم؟ ؟
رابعا: بأي عقل نصدق أن يعطيه الله كل هذه الأسباب ثم يأمرنا بمحاربته أو بلوم أتباعه، وقد أعطاه من وسائل الإغراء والإقناع للناس ما لا يعطي الأنبياء والمرسلين.
خامسا: في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن المسيح الدجال رجل أعور وإن ربكم ليس بأعور، فكيف يعقل أن تجري هذه الألفاظ على لسان النبي
- صلى الله عليه وسلم وأن تكون ألفاظه قد وصلت إلى هذا النقص في التعبير عن ذات الله وأن يتكلم عن خالقه بتلك الصورة المزرية الركيكة.
سادسا: كيف أنذر نوح قومه من المسيح الدجال كما يقول الحديث مع أن الأحاديث التي وردت فيه تقول كلها أن المسيح سيأتي في آخر الزمان. (1)
وليس هدفنا هنا أن نرد على شبهة ونبطلها فليس هذا موضعه وإنما أردنا أن نظهر أسلوبه في النقد وأن أدلته تلك ليست أضواء قرآنية كما زعم، ولم يستند فيها إلى آية آية قرآنية بل كلها شبه من فكره ومن مفهومه الضال الذي لم يستند إلى كتاب ولا إلى سنة أيضا.
وليس هذا الأمر في هذا الحديث فحسب، بل هو في كل الأحاديث التي أوردها، لم يستدل فيها بآية قرآنية إلا آية تعرض عرضا في حديثه وليس فيها من معارضة الحديث شيء.
إذا فلا عجب إذا ما أكثر النقل عن «محمود أبو ريه» وعض على أقواله بنواجذه، ولا عجب أيضا إذ ما استند إلى أقوال محمد عبده ورشيد رضا بل وإلى مدرسة المنار. (2)
ولقد رد الشيخ حمود التويجري علي السيد صالح أبي بكر في كتابه «الرد القويم على المجرم الأثيم» في جزءين فأفحمه .. قال الشيخ: «فقد رأيت كتاباً لبعض أهل الزيغ والفساد والإلحاد من العصريين تهجم فيه
(1) الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية: السيد صالح أبو بكر صـ 206 - 207.
(2)
يتعرف من منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير صـ 750 وما بعد.
على بعض الصحابة والتابعين، وعلى مائة وعشرين حديثا في صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد القرآن، وزعم أنها أحاديث إسرائيلية وأنه يكتسحها بالأضواء القرآنية، ويطهر البخاري منها. وتهجم أيضا على غير ذلك من الأحاديث الصحيحة وقابلها بالرد والإنكار، وقد سمى المؤلف نفسه بالسيد صالح أبي بكر، وليس بسيد ولا صالح ولا كرامة ولا نعمة عين، لما رواه أبو داود والنسائي والبخاري في الأدب المفرد عن أبي بريدة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل» ورواه الحاكم في مستدركه والبيهقي بنحوه وصححه الحاكم، وفي تهجمه على بعض الصحابة والتابعين وعلى الأحاديث الصحيحة أوضح دليل على زيغه وفساد عقيدته وأنه ليس بصالح في الحقيقة.
وقد سمى الملحد كتابه «الأضواء القرآنية، في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها» .. وكلام الملحد كله شبهات وحمل لكتاب الله على غير محامله، فهو في الحقيقة ظلمات بعضها فوق بعض كما سأبينه إن شاء الله تعالى، ومن تأمل كتابه لم يشك أنه محارب للإسلام والمسلمين، وأنه إنما أراد بكتابه الطعن في الإسلام وأهل الإسلام، وإن أظهر ذلك في قالب الإصلاح فهو بلا شك ممن يسعى في الأرض فسادا وإن زعم أنه مصلح. وقد قال الله تعالى مخبرا عن سلف هذا الملحد:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} وهذه الآية الكريمة مطابقة لحال الملحد غاية المطابقة، طهر الله الأرض منه ومن أمثاله من المفسدين إنه سميع مجيب. وقد رأيت
من الواجب الرد على أباطيل هذا الزائغ المفتري على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وتطهير الأحاديث في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة من تلطيخ هذا الظالم المعتدي». (1)
وللشيخ الفاضل أحمد شاكر رحمه الله كلام حسن في توجعه من آراء بعض معاصريه من أصحاب المدرسة العقلية الحديثة وآراء رشيد رضا من قبلهم حول السنة النبوية وصحيح البخاري، حيث قال رحمه الله في الكلام على حديث أبي هريرة «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم» في الجزء الثاني عشر صفحة مائة وأربعة وعشرون من تحقيق المسند «وهذا الحديث مما لعب فيه بعض معاصرينا ممن علم وأخطأ، وممن علم وعمد إلى عداء السنة، وممن جهل وتجرأ، فمنهم من حمل على أبي هريرة وطعن في روايته وحفظه، بل منهم من تجرأ على الطعن في صدقه فيما يروي حتى غلا بعضهم فزعم أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة إن لم يزعم أنها لا أصل لها، بما رأوا من شبهات في نقد بعض الأئمة لأسانيد قليلة فيهما فلم يفهموا اعتراض أولئك المتقدمين الذين أرادوا بنقدهم أن بعض أسانيدها خارجة عن الدرجة العليا من الصحة التي التزامها الشيخان لم يريدوا أنها أحاديث ضعيفة، ومن الغريب أن هذا الحديث بعينه، حديث الذباب - لم يكن مما استدركه أحد من أئمة الحديث على البخاري بل هو عندهم جميعاً مما جاء على شرطه في أعلى درجات الصحة
…
».
إلى أن قال: «والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث لما وقر في نفوسهم
(1)«الرد القويم على المجرم الأثيم» للشيخ حمود التويجري ص (1، 2) - مكتبة دار العليان الحديثة.
من أنه ينافي المكتشفات الحديثة من المكروبات ونحوها، وعصمهم إيمانهم على أن يجرؤا على المقام الأسمى فاستضعفوا أبا هريرة، والحق أيضاً أنهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب، ولكنهم لا يصرحون ثم اختطوا لأنفسهم خطة عجيبة أن يقدموها على كل شيء، وأن يؤلوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربي إذا ما خالف ما يسمونه «الحقائق العلمية» وأن يردوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه، افتراءً على الله وحباً في التجديد، بل إن منهم لمن يؤمن ببعض خرافات الأوربيين وينكر حقائق الإسلام أو يتأولها، فمنهم من يؤمن بخرافات استحضار الأرواح، وينكر وجود الملائكة والجن بالتأويل العصري الحديث، ومنهم من يؤمن بأساطير القدماء وما ينسب إلى القديسين والقديسات ثم ينكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، ويتأول ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء السابقين يخرجونها عن معنى الإعجاز كله وهكذا وهكذا .. ».
(1) تحقيق مسند الإمام أحمد «12/ 124).
هذا هو الأثر الفكري لآراء رشيد رضا حول الأحاديث الصحيحة الواردة في الصحيحين ورده بها لا لعلةٍ في أسانيدها كما قلنا من قبل بل لأنها لم تتفق مع منهجه العقلي الذي يسير عليه، ففتح باباً على صحيحي البخاري ومسلم فقام من بعده العديد ممن أعجب بآرائه وأقواله بترديدها والزيادة عليها بلا عقل ولا فهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.