المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[تقسيم الفعل إلى متعد ولازم - إجراء اللازم مجرى المتعدي] - تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - جـ ٤

[ناظر الجيش]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثامن عشر باب الفاعل

- ‌[تعريفه]

- ‌[من أحكام الفاعل: الرفع وتقديم الفعل]

- ‌[من أحكام الفاعل: تأنيث الفعل وجوبا وجوازا]

- ‌[من أحكام الفاعل: ألا تلحقه علامة تثنية أو جمع]

- ‌[من أحكام الفاعل: جواز حذف الفعل]

- ‌الباب التاسع عشر باب النّائب عن الفاعل

- ‌[أغراض حذف الفاعل - ما ينوب عنه]

- ‌[جواز نيابة غير المفعول مع وجود المفعول]

- ‌[جواز نيابة أي المفعولين]

- ‌[بعض المنصوبات لا تجوز إنابتها]

- ‌[التغييرات التي تحدث في الفعل عند بنائه للمجهول]

- ‌[أحكام تأخير المفعول عن الفاعل وتقديمه عليه]

- ‌الباب العشرون باب اشتغال العامل عن الاسم السّابق بضميره أو ملابسه

- ‌[مواضع نصب المشغول عنه وجوبا]

- ‌[مواضع ترجيح النصب في المشغول عنه]

- ‌[جواز الرفع والنصب على السواء في المشغول عنه]

- ‌[مسألتان اختلف فيهما النحاة أيهما أرجح]

- ‌[ترجح رفع الاسم على الابتداء]

- ‌[أنواع ملابسة الضمير للمشغول عنه]

- ‌[مسألة يترجح فيها الرفع]

- ‌[رفع الاسم المشغول عنه وأحكامه في ذلك]

- ‌[مسألة أخيرة في باب الاشتغال]

- ‌الباب الحادي والعشرون باب تعدي الفعل ولزومه

- ‌[تقسيم الفعل إلى متعدّ ولازم - إجراء اللازم مجرى المتعدي]

- ‌[نوعا المتعدي: متعد إلى واحد - متعد إلى اثنين]

- ‌[مسائل تأخير المفعول وجوبا وتقديمه وجوبا وجواز الأمرين]

- ‌[حذف العامل الناصب للمفعول به جوازا ووجوبا]

- ‌[مواضع حذف المفعول ومواضع ذكره]

- ‌[تعدي الفعل بالهمزة والتضعيف]

- ‌الباب الثاني والعشرون باب تنازع العالمين فصاعدا معمولا واحدا

- ‌[تعريف التنازع - العامل في المتنازع فيه]

- ‌[خلاف البصريين والكوفيين في العامل]

- ‌[حكم ضمير المتنازع فيه من الإظهار أو الحذف]

- ‌[مسائل أربع في باب التنازع ختم بها الباب]

- ‌الباب الثالث والعشرون باب الواقع مفعولا مطلقا من مصدر وما يجري مجراه

- ‌[تعريف المصدر - وأسماؤه وأصالته]

- ‌[المفعول المطلق: ناصبه - أنواعه - ما ينوب عنه]

- ‌[حذف عامل المفعول المطلق - جوازا ووجوبا - ومواضع ذلك]

- ‌[أحكام للمفعول المطلق المحذوف عامله وجوبا]

- ‌الباب الرابع والعشرون باب المفعول له

- ‌[تعريفه - ناصبه - أنواعه - وحكم كل نوع]

- ‌الباب الخامس والعشرون باب المفعول المسمّى ظرفا ومفعولا فيه

- ‌[تعريف الظرف - نوعاه]

- ‌[تقسيم ظرف الزمان إلى متصرف وغير متصرف]

- ‌[تقسيمات مختلفة لظرف الزمان وأمثلة لكلّ]

- ‌[حكم الظرف الواقع في جواب كم أو متى بالنسبة لحصول الفعل]

- ‌[أحكام إذ حين تجيء ظرفا وغير ظرف]

- ‌[أحكام إذا حين تجيء ظرفا وغير ظرف]

- ‌[أحكام مذ ومنذ حين تجيئان ظرفا وغير ظرف]

- ‌[أحكام الآن وبناؤه وإعرابه]

- ‌[أحكام قط وعوض]

- ‌[أحكام أمس من بنائه وإعرابه]

- ‌[الصالح للظرفية المكانية من أسماء الأمكنة]

- ‌[أحكام بعض الظروف المكانية مثل أسماء الجهات وحيث ولدن]

- ‌[التوسع في الظرف المتصرف]

- ‌الباب السادس والعشرون باب المفعول معه

- ‌[تعريفه وشرح التعريف]

- ‌[ناصب المفعول معه والآراء في ذلك]

- ‌[واو المفعول معه وحديث عنها]

- ‌[المفعول معه وحكم تقديمه]

- ‌[أقسام خمسة لما بعد الواو وحكم كل قسم]

- ‌[تعقيب على أقسام المفعول معه السابقة]

- ‌[أمثلة مختلفة في هذا الباب وما يجوز فيها]

- ‌[مسألتان في ختام هذا الباب]

الفصل: ‌[تقسيم الفعل إلى متعد ولازم - إجراء اللازم مجرى المتعدي]

‌الباب الحادي والعشرون باب تعدي الفعل ولزومه

[تقسيم الفعل إلى متعدّ ولازم - إجراء اللازم مجرى المتعدي]

قال ابن مالك: (ان اقتضى فعل مصوغا له باطّراد اسم مفعول تامّ نصبه مفعولا به وسمّي: متعدّيا وواقعا ومجاوزا، وإلّا فلازما: وقد يشهر بالاستعمالين فيصلح للاسمين. وإن علّق اللّازم بمفعول به معنى عدّي بحرف جرّ، وقد يجرى مجرى المتعدّي شذوذا، أو لكثرة الاستعمال أو لتضمين معنى يوجب ذلك. واطّرد الاستغناء عن حرف الجرّ المتعيّن مع «أنّ» و «أن» محكوما على موضعهما بالنّصب لا بالجرّ، خلافا للخليل والكسائيّ، ولا يعامل بذلك لتعيّن الجارّ غيرهما، خلافا للأخفش الأصغر، ولا خلاف في شذوذ بقاء الجرّ في نحو:

أشارت كليب بالأكفّ الأصابع)

قال ناظر الجيش: ترجمة هذا الباب لا تطابق ما بني عليه ترتيب أبواب الكتاب؛ لأنه من هنا شرع في ذكر المنصوبات، ولا شك أن المفاعيل الخمسة أصلها، وهو قد ترجم كلّا من أبواب المفاعيل الأربعة، أعني المفعول المطلق، والمفعول فيه، والمفعول له، والمفعول معه بما وضعه له، وهذا باب المفعول به، وقد عدل عن ترجمته بذلك إلى الترجمة بتعدي الفعل ولزومه؛ ولذلك صدر الباب ببيان كل من الفعلين، وكان الواجب أن يترجمه بالمفعول به، لتوافق الأبواب الخمسة، في ترجمة كل منها بما هو له [2/ 308]، وليكون سرد تراجم الأبواب مطابقا لما تقدمت إشارته إليه، حيث قال: والنصب للفضلة، وهي مفعول مطلق، أو مقيد، أو كذا أو كذا؛ وإذ قد نبه على هذا فاعلم أن الفعل له متعلقات منها الفاعل، ومنها المفاعيل الخمسة، وكلها من مقتضيات الفعل؛ ولكن اقتضاؤه لها بجهات مختلفة، وقد تعرض النحاة إلى ذكرها، قال ابن أبي الربيع: ما يطلبه الفعل ببنيته هو عمدة، وهو الفاعل، ولا يجوز إسقاطه لما في ذلك من نقض الغرض، وما جاء بعد ذلك مما يقتضيه الفعل أو يستدعيه أو يلازم مستدعاه ينصبه، والذي يقتضيه الفعل شيئان: المصدر وظرف الزمان، والذي يلازم مستدعاه: ظرف المكان، والذي يستدعيه ثلاثة أشياء: محله، -

ص: 1719

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وباعثه، ومصاحبه. انتهى (1).

واعلم أن هذا الذي ذكره بالنسبة إلى المفاعيل الخمسة مأخوذ من كلام الجزولي؛ فإنه قال في الجزولية: المفعول: ما تضمنه الفعل من الحدث، والزمان، والتزمه من مكان واستدعاه من محل، وباعث، ومصاحب (2). وعبارته أحسن من عبارة ابن أبي الربيع، وقد استفيد منها أن دلالة الفعل على الحدث، دلالة تضمن، وكذا دلالته على الزمان؛ فتكون دلالته عليهما معا دلالة مطابقة، وأن دلالته على المكان دلالة إلزام؛ وأن لا دلالة على المفعول به، ولا المفعول له، ولا المفعول معه، لكنها مستدعاة له.

وأما قول ابن أبي الربيع: ما يطلبه الفعل ببنيته فهو الفاعل، فكلام حسن، ومعناه أن كلّا من الأفعال الثلاثة اشتق من المصدر، ليسند إلى فاعل؛ إذ لو لم يقصد إسناد «ضرب» مثلا إلى فاعل فعل ذلك في زمان مخصوص؛ لقيل: كان ضرب أو وجد ضرب، أو وقع ضرب ونحو ذلك، فلما كان القصد ببنية الفعل إسناده إلى فاعل؛ لم يجز حذف الفاعل، إذا كان المسند إليه فعلا، أو ما شاركه في الاشتقاق، لما في ذلك من نقض الغرض، كما قال ابن أبي الربيع، ومن ثمّ جاز حذف الفاعل، إذا كان المسند إليه مصدرا (3).

وبهذا الذي قررناه، اندفع سؤال من يقول: لأي شيء لا يجوز حذف الفاعل، وإن كان عمدة إذا دلّ عليه دليل، كما

جاز حذف المبتدأ، وحذف الخبر ثم المفعول به؟

قال ابن عصفور: وهو كل فضلة انتصب عن تمام الكلام، يصلح وقوعها في جواب من قال: بأيّ شيء وقع الفعل؟ أو يكون على طريقة، ما يصلح ذلك فيه (4) وهو حد طويل عريض.

وشرحه بأن قال: إنما قلت: كل فضلة، ولم أقل: كل اسم؛ لأن المفعول به قد يكون في تقدير اسم، نحو: تذكرت أنك قائم، وأريد أن تقوم، ونحو ذلك، وقد يكون [2/ 309] جملة، نحو: قال زيد: يقوم عمرو، فالفضلة تعم الجميع، قال: -

(1) انظر: البسيط في شرح جمل الزجاجي، لابن أبي الربيع (1/ 272، 367) تحقيق د/ عياد الثبيتي.

(2)

المباحث الكاملية شرح المقدمة الجزولية (ص 23) تحقيق د/ حمدي المقدم رسالة بكلية اللغة العربية.

(3)

نحو قوله: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً، وينظر: الهمع (1/ 161).

(4)

المقرب (1/ 113).

ص: 1720

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وتحرزت بقولي: انتصب عن تمام الكلام، من الفضلات المجرورة، نحو: مررت بزيد؛ لأن الباب موضوع للمفعول به المسرح، وتحرزت بقولي: يصلح وقوعها في جواب من قال .. إلى آخره، من سائر المفعولات، وهي المصدر، وظرف الزمان، وظرف المكان، والمفعول معه، والمفعول من أجله (1)، فإن جميع ذلك غير صالح لما ذكر، ومثال ما يصلح وقوعه في جواب من قال: بأي شيء وقع الفعل؟:

ضربت زيدا؛ فزيد يصلح وقوعه في جواب من قال: بأي شيء وقع الضرب؟.

ومثال ما لا يصلح لذلك؛ لكنه على طريقة ما يصلح ذلك فيه: ما ضربت زيدا؛ لأن زيدا لم يوقع به شيء؛ فلم يصلح جوابا، لكنه على طريقة ما يصلح ذلك فيه، وحده صاحب المفصل: بأنه الذي يقع عليه فعل الفاعل (2)، وفسر الشراح الوقوع هنا بالتعلق المعنوي؛ فقالوا: المراد بالوقوع التعلّق المعنوي، لا الأمر الحسي (3)؛ إذ ليس كل الأفعال المتعدية واقعة على مفعولها حسّا، كقولك:

علمت زيدا قائما؛ فإنه لم يقع في الحس على زيد شيء، إنما تعلق به؛ ولا شك أن الذي يقع عليه حسّا هو متعلق به معنى، فكان التعلق مطردا في القسمين.

قلت: يجب أن يكون المراد بالوقوع التعلّق؛ لأن زيدا من قولك: ما ضربت زيدا، لم يقع عليه شيء، لكنه تعلق به.

وحاصل الأمر: أن تعلق الفعل بالشيء قد يكون على طريق الثبوت، وقد يكون على طريق النفي، والظاهر: أنهم

إنما عدلوا في الحد عن لفظ التعلق إلى لفظ الوقوع؛ لموجب، وهو أنه لو قيل: المفعول به ما يتعلق به فعل الفاعل، لم يكن الحد مطردا، لدخول بقية المفاعيل فيه؛ إذ كل منها من متعلقاته فعدل إلى لفظ الوقوع ليخلص الحد لما هو المقصود، وفسر الوقوع بالتعلق كما عرفت، فكان في لفظ الوقوع إشعار بأنه إذا قيل: ضربت زيدا مثلا، كان تعلقه به من جهة وقوعه عليه، وإذا تقرر هذا فلنرجع إلى شرح كلام المصنف، فنقول أولا:

اعلم أن المفعول به هو الفارق بين المتعدي من الأفعال واللازم؛ فالمتعدي: هو الذي له متعلق تتوقف عقليته عليه، فما كان متعديا إلا باعتبار هذا التعلق، ولهذا -

(1) ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (1/ 161) طبعة العراق.

(2)

المفصل للزمخشري (ص 34).

(3)

ينظر: الهمع (1/ 165)، والمطالع السعيدة للسيوطي (ص 269).

ص: 1721

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لا يقال: متعدّ، ويطلق القول إلا للمتعدي إلى المفعول به، وما لا يتعدى إلى المفعول به فهو لازم، ولا يقال له: متعدّ إلا بالتّقييد، فيقال: متعدّ إلى المفعول المطلق، أو المفعول فيه، أو متعدّ بحرف جر (1)، ولما كان الفارق بين الفعلين إنما هو المفعول به؛ أجاز المصنف معرفة كل منهما على ذلك، فقال:(إن اقتضى فعل مصوغا له باطراد اسم مفعول تام نصبه مفعولا به، وسمي [2/ 310] متعديا وواقعا، ومجاوزا، وإلا فلازما)(2)، يعني إن اقتضى فعل اسما؛ يصاغ لذلك الاسم من مادّة ذلك الفعل اسم مفعول تام نصب الفعل ذلك الاسم مفعولا به، وكان ذلك الفعل متعديا، وواقعا، ومجاوزا، وإن لم يكن كذلك؛ بأن لا يقتضي الفعل ذلك الاسم المقيد بما ذكر؛ وذلك بأن لا يصاغ من مادته اسم مفعول أصلا، كقام زيد، وجلس عمرو، أو يصاغ منها اسم مفعول غير تام، نحو: جلس زيد في الدار، ومرّ زيد بعمرو؛ إذ يصح أن يقال: الدار مجلوس فيها، وعمرو ممرور به؛ كان ذلك الفعل لازما (3)، ويقال له: قاصر أيضا، واحترز بقوله: باطراد، من شيء وهو أن يكون الفعل يتعدى بحرف الجر، فيحذف ذلك الحرف للضرورة مثلا، نحو قول القائل:

1306 -

تمرّون الدّيار ولم تعوجوا (4)

-

(1) في التوطئة للشلوبين (ص 160): «والمتعدي ما نصب مفعولا به، أو اقتضاه بواسطة، إلا أن ما نصب مفعولا به، يقال فيه: متعد مطلقا، وما

اقتضاه بواسطة، لا يقال فيه: متعد مطلقا؛ وإنما يقال فيه: مقيدا، فيقال: متعدّ بحرف جر» اه.

(2)

ينظر: التسهيل (ص 83).

(3)

ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (1/ 299) طبعة العراق، وأوضح المسالك (1/ 156، 157).

(4)

صدر بيت من الوافر، وقائله جرير، وعجزه:

كلامكم عليّ إذا حرام

وهو في شرح الجمل لابن عصفور (1/ 306)، والمقرب (1/ 115)، والتذييل (3/ 62)، والغرة لابن الدّهان (2/ 10)، والارتشاف (936) والتوطئة (ص 161) والكامل (1/ 33)، وابن يعيش (8/ 7)، (9/ 103)، والبحر المحيط (7/ 79)، وتعليق الفرائد (1406)، والكافي شرح الهادي (ص 403)، وما يجوز للشاعر (ص 102، 103)، والمغني (1/ 102)، (2/ 473)، وشرح شواهده للسيوطي (1/ 311)، والخزانة (3/ 671)، والعيني (2/ 560)، والهمع (2/ 83)، والبهجة المرضية (ص 55)، والدرر (2/ 107)، وشرح ابن عقيل (1/ 180)، وشرح شواهده (ص 113)، وديوانه (ص 512).

والشاهد قوله: «تمرون الديار» ؛ حيث حذف حرف الجر للضرورة، وهو إما الباء، والأصل: تمرون بالديار، وإما «على» ، والأصل: تمرون على الديار.

ص: 1722

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فإنه إذا اضطر الشاعر يقول: الديار ممرورة، فقد صيغ للديار من «تمرون الديار» اسم مفعول تام، لكن هذا الصوغ لا يضطرد، وأشار المصنف بقوله:(وقد يشتهر بالاستعمالين)، إلى أن الفعل قد يستعمل بالتعدي واللزوم على السواء، فيصلح لذلك أن يسمى متعديا ولازما، فما تعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر؛ ولم يكن أحد الاستعمالين مستندرا فيه؛ قيل فيه: متعدّ بوجهين، نحو: شكرته وشكرت له، ونصحته ونصحت له، وقد ذكروا مع هذين الفعلين فعلين آخرين:

مسحت، وخشنت؛ قالوا: ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالسماع (1).

قال ابن عصفور: وزعم بعض النحويين؛ أنه لا يتصور أن يوجد فعل يتعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر؛ لأنه محال أن يكون الفعل قويّا ضعيفا في حال واحدة، ولا المفعول محلّا وغير محل في حين واحد وهو الصحيح.

قال: فينبغي إذا أن تجعل: نصحت زيدا وأمثاله الأصل فيه: نصحت لزيد، ثم حذف حرف الجر منه في الاستعمال، وكثر فيه الأصل والفرع؛ لأن النصح لا يحل بزيد، فإن كان الفعل يحل بنفس المفعول ويوجد تارة متعديا بنفسه، وتارة بحرف جر جعلنا الأصل وصوله بنفسه، وحرف الجر زائدا نحو: مسحت رأسي، ومسحت برأسي، وخشّنت بصدره وصدره؛ لأن التخشين يحل بالصدر، والمسح يحل بالرأس (2). انتهى.

وكان قد قرر قبل هذا الكلام؛ أن المتعدي بنفسه، هو الذي يطلب مفعولا؛ ويكون ذلك المفعول يحل به الفعل، نحو: ضربت زيدا؛ وأن المتعدي بحرف جر هو الذي يطلب مفعولا به، إلا أنه لا يكون محلّا للفعل، نحو: مررت بزيد، وجئت إلى عمرو، وعجبت من بكر (3). قال: فالمرور لا يحل بزيد، ولا المجيء بعمرو، ولا التعجب من بكر (4). -

(1) ينظر: نتائج الفكر للسهيلي (ص 352)، وشرح الألفية للمرادي (2/ 53)، والهمع (2/ 80)، والمقرب (1/ 114)، وحاشية الخضري (1/ 180).

(2)

شرح الجمل لابن عصفور (1/ 300، 301) طبعة العراق.

(3)

شرح الجمل لابن عصفور (1/ 299، 300).

(4)

شرح الجمل لابن عصفور (1/ 300).

ص: 1723

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قلت: هذا الذي اختاره، وقال: إنه صحيح هو الذي يقتضيه النظر؛ وذلك لأن المتعدي [2/ 311] من الأفعال هو الذي له متعلق تتوقف عقليته عليه (1) كما تقدم، ولا شك أن اللازم ليس كذلك، أي: ليس له متعلق تتوقف عقليته عليه، ومحال أن يتجمع الأمران؛ إذ الضدان لا يجتمعان، وأيضا: فالفرق بين ما يحل به الفعل، وما لا يحل به الفعل واضح، وقد عرفت أن هذا الأمر أيضا فاصل بين المتعدي واللازم، ومنهم من قال: إن الفعل إذا تعدى بنفسه كان له معنى، وإذا تعدى بحرف جر كان له معنى آخر، فنصحت زيدا؛ محمول على ضده وهو «غشّ» ، ونصحت لزيد؛ محمول على نظيره وهو «خلص» ، فمعنى نصحت له: خلص عملي له (2)، ولا يخفى بعد هذا عن مقاصد العرب.

وجعل ابن أبي الربيع الذي يتعدى بنفسه تارة، وبحرف جر تارة ثلاثة أقسام:

1 -

قسم الأصل فيه حرف الجر، ثم أسقط اتساعا، نحو: شكرت لزيد وزيدا.

2 -

قسم عكسه، نحو: قرأت السورة وبالسورة.

3 -

قسم هما فيه أصلان، نحو: جئتك وجئت إليك، فمن قال: جئتك؛ لحظ قصدتك، ومن قال: جئت إليك؛ لحظ وصلت إليك (3).

واعلم أنهم إنما اختلفوا في تعلق الفعل بالمفعول به؛ أهو من نفس معنى الفعل أم بالنقل؟

قال ابن عمرون: وأكثر النحاة على الأول قال: وذهب بعضهم إلى أن المتعدي موقوف على السماع بدليل: نقص الماء وأنقصته (4)، وقد مال المصنف إلى هذا القول؛ فإنه قال: وما لا بد له من حرف الجر، فهو لازم، ولا يتميز المتعدي من اللازم بالمعنى والتعلق؛ فإن الفعلين قد يتحدان معنى، وأحدهما متعدّ والآخر لازم، كصدقته وآمنت

به، ونسيته وذهلت عنه، وحببته ورغبت فيه، وأردته وهممت به، وخفته وأشفقت منه، واستطعته وقدرت عليه، ورجوته وطمعت فيه، وتجنبته -

(1) ينظر: شرح الكافية للرضي (2/ 272).

(2)

ينظر: نتائج الفكر (ص 71).

(3)

ينظر: التذييل (3/ 66)، وشرح التسهيل للمرادي (1/ 568).

(4)

ينظر: التذييل (3/ 65)، ونتائج الفكر (ص 71).

ص: 1724

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وأعرضت عنه (1)؛ وإنما يتميز المتعدي بأن يتصل به كاف الضمير، أو هاؤه أو ياؤه باطراد؛ وبأن يصاغ منه اسم مفعول تام باطراد، نحو: صدقته، وحببته، وأردته، ورجوته، فهو مصدق، ومحبوب، ومراد، ومرجو، وبهذا علم أن قال: متعدّ لاطراد، نحو: قلته فهو مقول، ولو قصد هذان الأمران من ذهلت، ورغبت، وطمعت، وأعرضت لم يستغن عن الحرف، كقولك: ذهلت عنه ورغبت فيه وطمعت فيه وأعرضت عنه، فهو مذهول عنه، ومرغوب فيه، ومطموع فيه، ومعرض عنه؛ فلا يتأتى لك صوغ المفعول تامّا، بل ناقصا أي: مفتقرا إلى حرف الجر؛ فعلم بذلك لزومه وعدم تعدّيه، كما علم بالتمام التعدي. انتهى.

وما قاله من أن المتعدي لا يتميز من اللازم بالمعنى والتعلق، خلاف قول الأكثرين وأما ما [2/ 312] ذكره من أن الفعلين قد يتّحدان معنى، وأحدهما متعد والآخر لازم، كصدقته، وآمنت به، إلى آخر الأمثلة التي ذكرها؛ فلك أن تمنع اتحاد معنى الفعلين في جميع ما أورده، وهو الظاهر، فيقال: معنى آمنت به أخص من معنى صدقته؛ إذ قد يصدق الإنسان غيره ولا يؤمن به.

وكذا إذا حقق الناظر نظره، أمكنه أن يفرق بين معنى نسيته وذهلت عنه، وكذا بقية الأمثلة.

واعلم أن المصنف قد تعرض في الألفية إلى ذلك.

وأما قول المصنف: (وإن علق اللازم بمفعول به معنى عدّي بحرف جر)، فظاهر، ثم إن الحرف - أعني حرف الجر - قد يحذف فيصل الفعل بنفسه إلى ما كان مجرورا به، وإلى ذلك الإشارة بقوله:(وقد يجري مجرى المتعدي شذوذا، أو لكثرة الاستعمال، أو لتضمين معنى يوجب ذلك)، فهذه ثلاثة أسباب، أما الشذوذ فنحو: قول الشاعر: -

ص: 1725

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

1307 -

كأنّي إذا أسعى لأظفر طائرا

مع النّجم في جوّ السّماء يصوب (1)

وقول الآخر:

1308 -

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة

وأخفي الّذي لولا الأسى لقضاني (2)

الأصل: لأظفر بطائر، ولقضي عليّ، وأما كثرة الاستعمال فنحو قولهم: دخلت الدار، والمسجد، ونحو ذلك، فيقاس على هذا دخلت الدار، والبيت وغير ذلك من الأمكنة (3)، ومن المقتصر فيه على السماع: توجّه مكة، وذهب الشام، ومطرنا السهل -

(1) البيت من الطويل، لقائل مجهول في: شرح التسهيل للمصنف (2/ 148)، ومعاني القرآن للأخفش (197)، والتذييل (3/ 68). اللغة: يصوب: يتنزل.

والشاهد قوله: «لأظفر طائرا» ؛ حيث عدى الفعل اللازم شذوذا.

(2)

البيت من الطويل وهو لعروة بن حزام، وهو في: التذييل (3/ 67، 73)، والارتشاف (734، 934)، وتعليق الفرائد (ص 1410)، والبحر المحيط (4/ 28)، (5/ 10)، (7/ 240)، وشرح الألفية لابن الناظم (ص 96)، وشرح الألفية للمرادي (2/ 53)، والمغني (1/ 142)، (2/ 577)، وشرح شواهده للسيوطي (1/ 414)، والهمع (2/ 29، 81)، والدرر (2/ 22، 106)، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 307).

والشاهد قوله: «لقضاني» ؛ حيث حذف منه حرف الجر فعداه إلى الضمير، والأصل: قضى علي وقيل: إنه ضمن معنى «أهلكني أو قتلني» فعداه بنفسه.

(3)

في شرح الصفار للكتاب ق (40 / ب): «وزعم أبو الحسن أن «دخلت» متعدية إلى مفعول به، وأن الدار وما أشبهه بعدها بمنزلة «زيدا» بعد «ضربت» مفعولا به. والذي حمله على ذلك المراد وصولها بنفسها لكل ظرف مكان مختص، ولم يجعله بمنزلة: دهيت الشام لقلته، وهذا الذي ذهب إليه فاسد من غير جهة؛ وذلك أن «دخلت» نقيض «خرجت» ، «وخرجت» غير متعد؛ فكذلك ينبغي أن يكون نقيضه؛ لأن النقيض يجري مجرى النظير؛ ومنها أن مصدر دخلت: الدخول، والمفعول في الغالب مصدر ما لا يتعدي، نحو: القعود والجلوس؛ ولا يجيء في المتعدي إلا قليلا، نحو: لزمه لزوما، ونهكه نهوكا، والحمل على الأكثر أولى، ومما يدل دلالة قطعية على فساد مذهبه: أن طلب «دخلت» لاسم المكان

بعده كطلب الظرف، ألا ترى أن الفرق بين الظرف والمفعول به: أن المفعول به محل الفعل خاصة، والظرف محل للفعل والفاعل معا.

ومما يدل أيضا على فساد مذهبه: أنهم يقولون: دخلت في الأمر، ولا يصل إلى الأمر وما أشبهه من المعاني إلا بـ «في» ، فلو كانت دخلت: متعدية بنفسها لما عدوها إلى الأمر بـ «في» ، فدل ذلك على أنها غير متعدية» اه.

وينظر في هذه المسألة: الكتاب (1/ 35، 159)، والأمالي الشجرية (1/ 367، 368)، والمسائل البغداديات للفارسي (ص 332) رسالة بجامعة عين شمس، تحقيق إسماعيل أحمد عمايرة، واللباب في علل البناء، والإعراب للعكبري (ص 217 - 219)، ونتائج الفكر للسهيلي (ص 321)، والمقتصد شرح الإيضاح (ص 183).

ص: 1726

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والجبل، وضرب فلان الظهر والبطن؛ فلا يقاس على هذه الأسماء وما أشبهها غيرها (1).

قال المصنف (2): وإذا ثبت أن اللازم، هو المفتقر إلى حرف جر، فليعلم أن الأصل أن لا يحذف حرف الجر؛ فإن ورد حذفه وكثر، قبل وقيس عليه؛ يعني كما قيل في دخلت؛ وإن لم يكثر قبل ولم يقس عليه؛ يعني كما قيل: في توجّه، وذهب، ومطرنا السهل والجبل، وضرب فلان الظهر والبطن؛ وأما تضمين معنى يوجب ذلك؛ فنحو قول بعضهم (3): رحبكم الدخول في الطاعة، فإنه ضمنه معنى وسع، فأجراه مجراه، ومنه قول علي: إن بشرا طلع اليمن (4)، ضمنه معنى بلغ، وقد قالوا في قوله تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ (5): إنه ضمنه معنى: ولا تعقدوا (6)، قالوا: وإذا دخل التأويل فيما يتعدى بنفسه، فنقل إلى ما لا يتعدى بنفسه، كقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (7) فضمن معنى يُخالِفُونَ معنى الخروج والانفصال، فعدّي بعن (8) فهنا أجوز؛ لأنه نقل من الأضعف إلى الأقوى [2/ 313].

واعلم أن المصنف لما ذكر أن حرف الجر يحذف فيصل الفعل اللازم إلى الاسم بنفسه، مثل لذلك بقوله تعالى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (9)، وبقوله تعالى:

أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ (10)، وقال: الأصل: على صراطك، وعن أمر ربكم، وأنشد البيتين المحكوم بشذوذهما عقب ذكر الآيتين الشريفتين، فأوهم ذلك أن حذف الحرف في الآيتين الشريفتين محكوم بشذوذه، وليست هذه عادته في الكتاب العزيز، والحكم بالشذوذ في ذلك صعب شديد، ولا يبعد أن الفعلين ضمنا معنى ما يتعدى بنفسه، فأجريا مجراه فضمن لَأَقْعُدَنَّ معنى:«لأرصدن» ، وأَ عَجِلْتُمْ -

(1) ينظر: الكتاب (1/ 158، 159).

(2)

شرح التسهيل للمصنف (2/ 148، 149) تحقيق د/ عبد الرحمن السيد، وزميله.

(3)

هو نصر بن سبيار أمير خراسان في الدولة الأموية، وكان أول من ولاه هشام بن عبد الملك، ينظر:

اللسان مادة «رحب» ، والتذييل (3/ 68).

(4)

ينظر: شرح الأشموني (2/ 97).

(5)

سورة البقرة: 235.

(6)

ينظر: إملاء ما من به الرحمن (1/ 99).

(7)

سورة النور: 63.

(8)

ينظر: الكشاف (2/ 102)، وإملاء ما منّ به الرحمن (2/ 160)، وتفسير البيضاوي (6/ 365).

(9)

سورة الأعراف: 16.

(10)

سورة الأعراف: 150.

ص: 1727

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

معنى: «أسبقتم» (1).

وقول المصنف: (واطرد الاستغناء عن حرف الجر المتعين مع أنّ وأن)؛ كأنه استثناء من الكلام الذي قبله؛ فكأنه قال: ولا يحذف حرف الجر المعدي حذفا مطردا إلا مع هاتين الكلمتين.

قال المصنف: واطرد حذف حرف الجر مع «أنّ وأن» ؛ إن تعين عند حذفه، نحو: عجبت أن يتعصب ناصح وطمعت أنك تقبل، فلو لم يتعين الحرف عند حذفه مع «أنّ وأن» لامتنع الحذف، نحو: رغبت أن يكون كذا، فإنه لا يدري هل المراد: رغبت في أن، أو عن أن يكون؟ (2) والمرادان متضادان معنى؛ فيمتنع الحذف في مثل هذا. انتهى (3).

والمسوغ لاطراد الحذف مع أنّ وأن طولهما بالصلة والطول يستدعي التخفيف (4)، قاله ابن عصفور (5)، قال الشيخ: وقد جاء الحذف في قوله: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ (6)، فقدره بعضهم: عن أن تنكحوهن، وقدره بعضهم: في أن تنكحوهن (7).

وتبع الشيخ في ذكر ذلك المعتبرون من الطلاب، ومن ثم جعلوه كالاستدراك على المصنف، والحق أن لا استدراك، فإن من قدر «في» قال: إن تقديرها متعين فلا يجيز تقدير «عن» ، ومن قدّر «عن» كانت متعينة عنده أيضا؛ فلا يجيز تقدير «في» وعلى هذا؛ فالحرف المحذوف متعين قطعا، وإنما كان يكون استدراكا لو أجيز التقديران معا على التخيير، والأمر ليس كذلك، ثم قال المصنف: ومذهب الخليل، والكسائي، في أنّ وأن عند حذف حرف الجر

المطرد حذفه أنهما في محل جر، ومذهب سيبويه والفراء أنهما في محل نصب، وهو الأصح؛ لأن بقاء الجر بعد حذف عامله قليل، والنصب كثير، والحمل على الكثير أولى من الحمل على -

(1) ينظر: شرح الكافية للرضي (2/ 273).

(2)

ينظر: شرح الألفية لابن الناظم (ص 96)، وشرح الألفية للمرادي (2/ 54)، وشرح ابن عقيل (1/ 180).

(3)

شرح التسهيل للمصنف (2/ 150)، تحقيق د/ عبد الرحمن السيد، وزميله.

(4)

ينظر: التصريح (1/ 313)، وشرح الأشموني (2/ 92)، وشرح الكافية للرضي (2/ 273)، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 304، 305) طبعة العراق، والمقتضب (2/ 314).

(5)

ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (1/ 304، 305) طبعة العراق.

(6)

سورة النساء: 127.

(7)

التذييل (3/ 70).

ص: 1728

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

القليل (1) وقد يستشهد لمذهب الخليل والكسائي بما أنشده الأخفش من قول الشاعر (2):

1309 -

وما زرت ليلى أن تكون حبيبة

إليّ ولا دين بها أنا طالبه (3)

انتهى (4).

ومما يرجح به مذهب [2/ 314] سيبويه: أن الأصل والأكثر أنه إذا حذف حرف -

(1) اعترض صاحب التصريح على ما ذهب إليه ابن مالك في هذه المسألة، وما نسبه إلى الخليل وسيبويه، فقال:«وما ذهب إليه الموضح من أن محل أنّ وأن نصب بعد الحذف، هو مذهب الخليل، وأما سيبويه فقال بعد ما أورد أمثلة من الحذف: ولو قال قائل، إن الموضع جر لكان قولا قويّا، وله نظائر نحو قولهم: لاه أبوك، ثم نقل النصب عن الخليل، فظهر بهذا أن ما نقله ابن مالك تبعا لابن العلج، من أن الخليل يقول بالجر سهو» اه التصريح (1/ 313)، وما ذكره صاحب التصريح هذا هو الحق؛ حيث إن سيبويه صرح في كتابه بأن القول بالنصب هو مذهب الخليل، فقال: «وسألت الخليل عن قوله جل ذكره: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فقال: إنما هو على حذف اللام، كأنه قال:

ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، وقال: نظيرها لِإِيلافِ قُرَيْشٍ؛ لأنه إنما هو لذلك (فليعبدوا)؛ فإن حذفت اللام من «أن» فهو نصب، كما أنك لو حذفت اللام من (لإيلف) كان نصبا، هذا قول الخليل، إلى أن قال: ولو قال إنسان: إنّ «أن» في موضع جر في هذه الأشياء؛ ولكنه حرف كثر استعماله في كلامهم، فجاز فيه حذف الجار؛ لكان قولا قويّا، وله نظائر نحو قوله:

لاه أبوه، والأول قول الخليل» اه الكتاب (3/ 126 - 128)، وينظر: حاشية الصبان (2/ 92).

وأقول: مما يلفت النظر في هذه المسألة أن كثيرا من النحويين ساروا على ما ذهب إليه ابن مالك فنسبوا القول بالجر إلى الخليل، والقول بالنصب إلى سيبويه. ينظر: شرح الكافية للرضي (2/ 273)، والهمع (2/ 81)، والبهجة المرضية (ص 55).

وقد أورد الصبان في حاشيته على شرح الأشموني (2/ 92) تصحيحا لما نسب إلى الخليل، وسيبويه، فقال: قوله: «مذهب الخليل إلخ» كذا في البسيط، والتسهيل؛ لكن قال شيخنا وغيره: الصواب ذكر سيبويه مكان الخليل، والخليل مكان سيبويه كما في المغني والتصريح» اه، وينظر المغني (2/ 526) فقد ورد فيه رأي ابن مالك فقال:«وأما نقل جماعة منهم ابن مالك أن الخليل يرى أن الموضع جر؛ وأن سيبويه يرى أنه نصب فسهو» اه.

(2)

هو الفرزدق والبيت من قصيدة يمدح فيها المطلب بن عبد الله المخزومي.

(3)

البيت من الطويل وهو في: الكتاب (3/ 29)، والإنصاف (1/ 395)، والتذييل (3/ 71)، والأمالي الشجرية (1/ 418)، والمغني (2/ 526)، وشرح شواهده للسيوطي (2/ 585)، وتعليق الفرائد (ص 1414)، وشرح الألفية لابن الناظم (ص 97)، والأشموني (2/ 92، 235)، والهمع (2/ 81)، والبهجة المرضية (ص 55)، والدرر (2/ 105)، وحاشية الخضري (1/ 180)، وديوانه (ص 93). ويروى البيت أيضا برواية «سلمى» مكان «ليلى» ، كما في الكتاب.

والشاهد قوله: «أن تكون حبيبة» ؛ حيث حذف الحرف، فاستدل به من ذهب إلى أنه في موضع جر؛ وذلك لأنه قد عطف عليه قوله:«ولا دين» بالجر.

(4)

شرح التسهيل للمصنف (2/ 150).

ص: 1729

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الجر أن لا يبقى له عمل البتة، ولا يضمر وآنذا يكون إعراب ما حذف منه الحرف على حسب الطالب للموضع، فإن كان الموضع يقتضي رفعا رفع الاسم، نحو:

كفى الله في كَفى بِاللَّهِ * (1)، وما في الدار أحد في: ما في الدار من أحد، وإن كان الموضع يقتضي نصبا نصب الاسم؛ وإنما وقع الخلاف في «إنّ وأن»؛ لأن حرف الجر لم يظهر له عمل وتأثير فيما دخل عليه؛ وإنما قال المصنف:

وقد يستشهد لمذهب الخليل، والكسائي، بما أنشده الأخفش من قول الشاعر:

1310 -

وما زرت ليلى

... ......... البيت

ولم يقطع بالاستشهاد به؛ لاحتمال أن يكون في موضع نصب، وأن يكون «ولا دين» معطوفا على توهم الجر (2).

ثم قال الشيخ (3): ما ذكره المصنف أنه مذهب الخليل ليس بصحيح، بل مذهب الخليل أنه في موضع نصب، وهو

منصوص في كتاب سيبويه ثم أورد النص.

ثم قال المصنف: وأجاز علي بن سليمان الأخفش (4)؛ أن يحكم باطراد حذف حرف الجر، والنصب، فيما لا لبس فيه (5)، كقول الشاعر:

1311 -

وأخفي الّذي لولا الأسى لقضاني (6)

والصحيح أن يتوقف فيه على السماع، قال سيبويه بعد أن حكى قولهم:

عددتك ووزنتك وكلتك، ولا تقول: وهبتك؛ لأنهم لم يعدوه؛ ولكن: وهبت لك (7)، قال المبرد: لا يقال: وهبتك؛ لئلا يتوهم كون المخاطب موهوبا، وإذا زال الإشكال، نحو: وهبتك الغلام؛ جاز.

(1) سورة الرعد: 43، سورة الإسراء:96.

(2)

ينظر: المغني (2/ 527).

(3)

التذييل (3/ 72) وفيه كلام سيبويه.

(4)

هو علي بن سليمان بن الفضل النحوي أبو الحسن الأخفش الأصغر، أحد الثلاثة المشهورين، قرأ على ثعلب، والمبرد، وأبي العيناء، قال المرزباني: ولم يكن بالمتسع في الرواية للأخبار، والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئا، ولا قال شعرا، وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر كثيرا. قدم مصر سنة سبع وثمانين ومائتين وخرج إلى حلب سنة ثلاثمائة، توفي فجأة في بغداد سنة (315 هـ) وقيل:(316 هـ)، البغية (2/ 167). تحقيق محمد أبو الفضل.

(5)

ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (1/ 307)، والهمع (2/ 82)، وشرح الكافية للرضي (2/ 273).

(6)

تقدم ذكره.

(7)

الكتاب (1/ 318).

ص: 1730

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وحكى أبو عمرو الشيباني (1): انطلق معي أهبك نبلا، تريد: أهب (2) لك.

انتهى (3). وكذا قاله ابن عصفور لما أنشد:

1312 -

تمرّون الدّيار (4)

وقول الآخر:

1313 -

تحنّ فتبدي

...... البيت (5)

وقول الآخر:

1314 -

فبتّ كأنّ العائدات فرشنني

هراسا به يعلى فراشي ويقشب (6)

أي: فرشن لي، قال: وزعم علي بن سليمان الأخفش؛ أنه لا يجوز حذف حرف الجر، إذا تعين موقع الحذف، والمحذوف قياسا على ما جاء من ذلك، نحو:

بريت القلم السكين، تريد بالسكين؛ لأنه قد تعين المحذوف وهو «الباء» ، وموضع الحذف وهو السكين؛ فإن اختل الشرطان أو أحدهما منع، نحو: رغبت الأمر؛ لأنه لا يعلم هل المراد «في» أو «عن» ؟ وكذلك لا يجوز: اخترت إخوتك الزيدين؛ لأنه لا يعلم هل أردت اخترت إخوتك من الزيدين، أو الزيدين من إخوتك؟ قال: والصحيح: أنه لا يجوز شيء من ذلك وإن وجد الشرطان فيه؛ لقلة ما جاء من ذلك، إذ لا يحفظ منه إلا الأفعال [2/ 315] التي ذكرها (7). انتهى.

والأفعال التي ذكرها هي: اختار، واستغفر، وسمّى، وكنّى، ودعا بمعنى:

سمّى، وأمر، مما سيأتي الكلام عليها عند إشارة المصنف إليها.

ثم قال المصنف: ولا خلاف في شذوذ حذف حرف الجر وبقاء عمله، كقول الشاعر: -

(1) سبقت ترجمته.

(2)

ينظر: شرح الجمل لابن الضائع (2/ 207 / أ).

(3)

شرح التسهيل للمصنف (2/ 150).

(4)

تقدم ذكره.

(5)

تقدم ذكره.

(6)

هو للنابغة الذبياني، والبيت ضمن أبيات يعتذر فيها إلى النعمان، ويمدحه بها، والبيت من الطويل، وهو في شرح الجمل لابن عصفور (1/ 307)، والتذييل (3/ 78)، ومنهج السالك لأبي حيان (ص 200)، وإصلاح المنطق (ص 449)، واللسان مادة «قشب» ، وديوانه (ص 17) طبعة. بيروت.

اللغة: العائدات: الزائرات في المرض. فرشن: بسطن. الهرس: نبات فيه شوك.

والشاهد قوله: «فرشتني» ؛ حيث حذف الجار، والتقدير: فرشن لي.

(7)

شرح الجمل لابن عصفور (1/ 307).

ص: 1731

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

1315 -

إذا قيل أيّ النّاس شرّ قبيلة

أشارت كليب بالأكفّ الأصابع (1)

أراد: أشارت إلى كليب، فحذف «إلى» وأبقى عملها.

ومثله:

1316 -

وكريمة من آل قيس ألفته

حتّى تبذّخ فارتقى الأعلام (2)

أراد: إلى الأعلام؛ فحذف وأبقى الجر .. انتهى (3).

بقي الكلام على مسألة واحدة وهي: أنهم اختلفوا في الناصب للمفعول به على مذاهب:

الأول: وهو مذهب الجمهور: وهو أن الناصب له الفعل، أو ما يقوم مقامه؛ لأن العامل ما به يتقوم المعنى المقتضى، والذي يتقوم به معنى المفعولية هو الفعل، والدليل عليه أنه يختلف باختلافه؛ فإنك تقول: ضربت زيدا، وأعطيت عمرا درهما، فالمفعول مع «ضربت» واحد، ومع أعطيت اثنان، والفاعل المتكلم في الصورتين، فلو كان العامل غير الفعل لم يختلف باختلافه، ولأنه متى كان الفعل متصرفا جاز تقديمه عليه، وما لم يكن متصرفا نحو: ما أحسن زيدا؛ لا يجوز تقديمه على الفعل، فلولا أنه عامل لم يكن كذلك.

الثاني: مذهب هشام، وهو أن الناصب له الفاعل، ويبطل مذهبه جواز تقديمه عليه مع أنه غير متصرف، وأنه يأتي دون فاعل مع المصدر، نحو قوله تعالى (4): -

(1) عجز بيت للفرزدق، وهو من الطويل، وصدره:

إذا قيل أيّ النّاس شرّ قبيلة

وينظر: التذييل (3/ 61، 79)، والارتشاف (ص 747)، وتعليق الفرائد (1417)، والمغني (1/ 11)(2/ 643)، وشرح شواهده للسيوطي (1/ 12)، والخزانة (3/ 669)، (4/ 208)، والعيني (3/ 542)، (3/ 354) والتصريح (1/ 312)، وأوضح المسالك (1/ 158)، وحاشية الخضري على شرح ابن عقيل، (1/ 180)، والأشموني (2/ 90، 233)، والهمع (2/ 36، 81)، والدرر (2/ 37، 106)، وديوانه (ص 520)، وشرح الألفية لابن الناظم (ص 96)، وشرح الألفية للمرادي (2/ 51).

والشاهد قوله: «أشارت كليب» ؛ حيث حذف حرف الجر وأبقي عمله، والأصل: أشارت إلى كليب.

(2)

لم أهتد إلى قائله، وهو من الكامل، وينظر في: التذييل (3/ 71)، والارتشاف (ص 747)، والعيني (3/ 341)، والهمع (2/ 36)، والدرر (2/ 67)، والأشموني (2/ 234)، واللسان «ألف - بذخ» .

اللغة: كريمة: صفة مذكر أي ربّ رجل كريم. ألفته: أعطيته ألفا أو صحبته. تبذخ: تكبر وعلا.

الأعلام: جمع علم وهو الجبل.

والشاهد قوله: «فارتقى الأعلام» ؛ حيث حذف حرف الجر وهو «إلى» وأبقى عمله.

(3)

شرح التسهيل للمصنف (2/ 151).

(4)

في (ب): سبحانه وتعالى.

ص: 1732