الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المفعول المطلق: ناصبه - أنواعه - ما ينوب عنه]
قال ابن مالك: (وينصب بمثله أو بفرعه أو بقائم مقام أحدهما، فإن ساوى معناه معنى عامله فهو لمجرّد التوكيد، ويسمّى مبهما، ولا يثنّى ولا يجمع، وإن زاد عليه فهو لبيان النّوع أو العدد، ويسمّى مختصّا ومؤقّتا، ويثنّى ويجمع، ويقوم مقام المؤكّد مصدر مرادف واسم مصدر غير علم، ومقام المبيّن نوع أو وصف أو هيئة أو آلة أو كلّ أو بعض أو ضمير أو اسم إشارة، أو وقت، أو «ما» الاستفهاميّة أو الشّرطيّة).
ــ
ينفي الاشتقاق أصلا؛ فإن الشيخ ذكر في ذلك مذاهب ثلاثة:
أحدها: مذهب الجمهور، وهو أن من الكلمات ما هو مشتق، ومنها ما ليس بمشتق.
ثانيها: أن كل لفظ مشتق، قال: وعزاه جماعة إلى الزجاج (1).
ثالثها: أن شيئا ليس مشتقّا من شيء، بل كل أصل بنفسه (2). انتهى.
وليس هذا مما يتشاغل به، ولا يضيع الزمان في ذكره.
قال ناظر الجيش: قال المصنف (3): وينصب المصدر بمثله، كقولك: عجبت [2/ 362] من قيامك قياما ونصبه بفرعه، كقولك: طلبتك طلبا، وأنا طالبك طلبا، وأنت مطلوب طلبا، ونصبه بقائم مقام أحدهما كقولك: عجبت من إيمانك تصديقا، وأنا مؤمن تصديقا، ولقاء الله مؤمن به تصديقا، والمصدر المنصوب في جميع هذه الأمثلة قد ساوى معناه معنى عامله فهو لمجرد التوكيد، ويسمى الواقع هكذا مبهما ولا يثنى ولا يجمع؛ لأنه بمنزلة تكرير الفعل فعومل معاملته في عدم التثنية والجمع، إذ هو صالح للقليل والكثير (4)، وإن زاد معناه على معنى عامله فهو لبيان النوع نحو: سرت خببا وعدوا، ورجعت القهقرى (5)، وقعدت القرفصاء (6)، -
(1) ينظر: الزجاج وأثره في النحو (ص 206).
(2)
التذييل (3/ 174)، وينظر في هذه المذاهب: الإيضاح للزجاجي (ص 56 - 63)، وتوجيه اللمع لابن الخباز (ص 111) وشرح ابن عقيل (1/ 187).
(3)
شرح التسهيل لابن مالك (1/ 180).
(4)
ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (1/ 326) طبعة العراق، واللمع لابن جني (ص 132).
(5)
القهقرى: مصدر قهقر، إذا رجع على عاقبتيه، اللسان «قهقر» .
(6)
القرفصاء: ضرب من القعود، واللسان «قرفص» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أو لعدد المرات نحو: قمت قومتين، وضربته ضربات. وقد يكون المبين للنوع بلفظ المؤكد، فيستفاد التنويع بوصفه أو إضافته أو إدخال حرف التعريف عليه أو بتثنيته أو بجمعه (1)، ويقوم مقام المؤكد مصدر مرادف نحو: جلست قعودا، أو اسم مصدر غير علم نحو: اغتسلت غسلا وتوضأت وضوءا، ولا يستعمل اسم المصدر العلم مؤكدا ولا مبيّنا فلا يقال: حمدت حماد ونحو ذلك؛ لأن العلم زائد معناه على معنى العامل، فلا ينزل منزلة تكرار الفعل، ولأنه كاسم الفعل، فلا يجمع بينه وبين الفعل، ولا ما يقوم مقامه (2). ومن قيام أحد المترادفين مقام الآخر قول امرئ القيس:
1400 -
ويوما على ظهر الكثيب تعذّرت
…
عليّ وآلت حلفة لم تحلّل (3)
وقول رؤبة:
1401 -
لوّحها من بعد بدن وسنق
…
تضميرك السّابق يطوى للسّبق (4)
لوحها ضمرها، والبدن السّمن، والسنق البشم، والسبق الخطر، والخطر هو الذي يوضع بين أهل السابق، ويقوم مقام المبين للنوع اسم نوع كالقهقرى -
(1) ينظر: شرح الكافية للرضي (1/ 114)، والمطالع السعيدة (ص 299)، والفصول الخمسون (ص 184) وابن يعيش (1/ 111).
(2)
ينظر: التذييل (3/ 184).
(3)
البيت من الطويل وهو في: التذييل (3/ 183، 190، 263)، والبحر المحيط (8/ 38)، وتعليق الفرائد (1481)، والهمع (1/ 187)، والدرر (1/ 161)، وديوان امرئ القيس (ص 12)، واللسان «حلل» والمثل شرح المقرب لابن عصفور.
اللغة: الكثيب: الرمل الكثير. التعذر: التشدد والالتواء. آلت: حلفت. لم تحلل: لم تستثن.
والشاهد قوله: «وآلت حلفة» ؛ حيث نصب حلفة على التوكيد بعد آلت؛ لأنه مرادف لمصدره، والناصب له «آلت» أو فعل محذوف.
(4)
البيتان من الرجز المشطور وهما لرؤبة في: الكتاب (1/ 385)، والتذييل (3/ 190)، وديوان رؤبة (ص 104) برواية:
لوح منه بعد بدن وسنق
…
تلويحك الضّامر يطوي للسبق
ولا شاهد في هذه الرواية.
اللغة: لوحها: أضمرها. البدن: السمن. السنق: التخمة.
والشاهد قوله: «تضميرك» ؛ حيث نصب على التوكيد بعد «لوحها» ؛ لأنه مرادف لمصدره والناصب له «لوحها» أو فعل محذوف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والقرفصاء، وكقوله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1)، أو وصف نحو: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً (2)، أو هيئة نحو: يموت الكافرون ميتة سوء، ويعيش المؤمنون عيشة مرضية، أو آلة نحو: ضرب المؤدب الصبيّ قضيبا أو سوطا، أو كل نحو قوله تعالى:
فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ (3)، أو بعض كقوله تعالى: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً (4)، أو ضمير كقوله تعالى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (5)، أو اسم إشارة نحو: لأجدّنّ ذلك الجدّ، ولا بد من جعل المصدر تابعا لاسم الإشارة المقصود به المصدرية؛ ولذلك خطئ من حمل قول المتنبي:
1402 -
هذي برزت لنا فهجت رسيسا (6)
على أنه أراد هذه البرزة برزت؛ لأن مثل ذلك لا تستعمله العرب.
وقد يقام مقام المصدر المبين زمان [2/ 363] مضاف إليه المصدر تقديرا كقول الشاعر:
1403 -
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا (7)
-
(1) سورة النازعات: 1.
(2)
سورة آل عمران: 41.
(3)
سورة النساء: 129.
(4)
سورة هود: 57.
(5)
سورة المائدة: 115.
(6)
صدر بيت من الكامل للمتنبي وعجزه:
ثمّ انصرفت وما شفيت نسيسا
وهو في: المقرب (1/ 177)، وشرح المفصل لابن يعيش (2/ 16)، والتذييل (3/ 192)، وتعليق الفرائد (1489)، والعيني (3/ 233)، والمغني (2/ 641)، والأشموني بحاشية الصبان (3/ 137)، وحاشية يس (1/ 327)، وديوان المتنبي (2/ 301).
اللغة: برزت: ظهرت. هجت: من هاجه إذا أثاره. الرسيس: مس الحمى أو الهم. النسيس: بقية النفس.
والشاهد في البيت: أن ابن مالك لا يجوز أن يكون اسم الاشارة نائبا عن المصدر؛ لأنه لا يشار إلى المصدر إلا إذا ذكر بعده المصدر تابعا له. وقد جوز ذلك أبو حيان حملا على ما ورد من كلام العرب.
(7)
صدر بيت من الطويل للأعشى وعجزه:
وبت كما بات السّليم مسهّدا
وهو في: الخصائص (3/ 322)، وشرح المفصل لابن يعيش (1/ 102)، والارتشاف (ص 537)، والتذييل (3/ 193)، وشرح التسهيل للمرادي وتعليق الفرائد (1489)، والمغني (2/ 624)، والهمع (1/ 188) والدرر (1/ 161) وحاشية يس (1/ 344).
والشاهد قوله: «ألم تغتمض .... ليلة أرمدا» ؛ حيث ناب الزمان وهو: ليلة أرمدا عن المصدر والأصل:
اغتماض ليلة أرمدا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أراد: ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة أرمد، فحذف المصدر وأقام الزمان مقامه كما عكس من قال: كان ذلك طلوع الشمس، إلا أن ذلك قليل وهذا كثير، أو (1) «ما» الاستفهامية نحو: ما تضرب زيدا، المعنى: أي ضرب تضرب زيدا، قال الشاعر (2):
1404 -
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما
…
لا ترقدان ولا بؤس لمن رقدا (3)
أو «ما» الشرطية نحو قولك: ما شئت فقم، كأنك قلت: أي قيام شئت فقم، قال الشاعر وهو جرير:
1405 -
نعب الغراب فقلت بين عاجل
…
ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب (4)
ومن قيام النوع مقام المصدر قول الشاعر:
1406 -
على كلّ موّار أفانين سيره
…
شؤوّا لأبواع الجمال الرّواتك (5)
ومن قيام الصفة قول ليلى الأخيلية:
1407 -
نظرت ودوني من عماية منكب
…
وبطن الرّكاء أيّ نظرة ناظر (6)
-
(1) من أول قوله: أو «ما» الاستفهامية إلى آخر كلام ابن مالك غير موجود بشرح التسهيل المطبوع.
(2)
هو عبد مناف بن ربع الجوبي شاعر جاهلي من شعراء هذيل.
(3)
البيت من البسيط وهو في: المخصص (14/ 20)، والتذييل (3/ 193)، والبحر المحيط (4/ 48)، وشرح التسهيل للمرادي وتعليق الفرائد (1490)، وديوان الهذليين (2/ 38).
اللغة: العويل: البكاء.
والشاهد قوله: «ماذا يغير؟» ؛ حيث نابت «ما» الاستفهامية عن المصدر.
(4)
البيت من الكامل وهو لجرير، وهو في: التذييل (3/ 193) وشرح التسهيل للمرادي وتعليق الفرائد (1490)، والمغني (2/ 624)، وديوان جرير (ص 22).
والشاهد قوله: «ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب» ؛ حيث نابت «ما» الشرطية عن المصدر.
(5)
البيت من الطويل لذي الرمة وهو في: التذييل (3/ 191)، وديوانه (ص 417) واللسان مادتي «رتك - جدا» .
اللغة: موار: متحرك من صار. الأفانين: ضروب من السير. شؤوّا: طلقا. أبواع: جمع باع وهو رمد اليدين. الرواتك: جمع راتكة وهي الناقة التي تمشي وكأن برجلها قيدا، وتضرب بيديها.
ويروى البيت برواية (الجوازي) مكان (الجمال).
والشاهد قوله: «شؤوّا» ؛ حيث نصب بعد ما ليس من لفظه؛ لأنه نوع من أنواع السير.
(6)
البيت من الطويل وهو في: التذييل (3/ 191)، وديوان ليلى الأخيلية (ص 77) برواية:
نظرت وركن من ذقانين دونه
…
مفاوز حوضي أيّ نظرة ناظر
-
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومثله قول الآخر:
1408 -
وضابع أن جرى أيّا أردت به
…
لا الشّدّ شدّ ولا التّقريب تقريب (1)
أي لا الشد شد معتاد ولا التقريب تقريب معتاد، بل هما خارقا العادة، والصحيح في المصدر الموافق معنى لا لفظا كونه معمولا لموافقة معنى، فحلفة من قوله:
1409 -
وآلت حلفة لم تحلّل (2)
منصوب «بآلت» لا بحلفت مقدرا (3)، لعدم الحاجة إلى ذلك؛ لأنه لو كان المخالف لفظا لا ينتصب إلا بفعل من لفظه لم يجز أن يقع موقعه ما لا فعل له من لفظه نحو: حلفت يمينا وفَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ (4) وفَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (5)، وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً (6)؛ فهذه وأمثالها لا يمكن أن يقدر لها عامل من لفظها، بل لا بد من كون العامل فيما وقع منها ما قبله مما هو موافق معنى لا لفظا، ووجب اطراد هذا الحكم في ما له فعل من لفظه، ليجري الباب على سنن واحد، وهذا الذي اخترته هو اختيار المبرد (7) والسيرافي (8)، ومن شواهد ذلك قراءة محمد بن السميفع (9):(فتبسّم ضحكا مّن قولها)(10) ذكرها ابن جني في -
- اللغة: عماية: موضع. الركاء: واد بنجد.
والشاهد فيه: أن قوله: «أي نظرة ناظر» وصف نائب عن المصدر المحذوف.
(1)
البيت من البسيط لقائل مجهول وهو في: التذييل (3/ 191).
والشاهد في قوله: «أيّا» ؛ حيث ناب وصف المصدر عن المصدر.
(2)
تقدم ذكره.
(3)
أجاز ابن عصفور في «حلفة» النصب على الوجهين أي إما أن يكون منصوبا بآلت أو بحلفت مضمرا وهو بذلك يخالف ابن مالك. ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (2/ 340) رسالة بجامعة القاهرة.
(4)
سورة النساء: 129.
(5)
سورة النور: 4.
(6)
سورة هود: 57.
(7)
ينظر رأي المبرد في: المقتضب (1/ 211، 212).
(8)
ينظر: شرح السيرافي (3/ 144)، وشرح الرضي على الكافية (1/ 126).
(9)
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن السميفع اليماني، له اختيار في القراءة ينسب إليه شذ فيه، ينظر: غاية النهاية (2/ 161، 162).
(10)
سورة النمل: 19.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المحتسب (1)، انتهى كلامه (2) رحمه الله تعالى.
ولكن لا بد من التنبيه على أمور:
1 -
منها: أن المصنف جعل ما ينتصب في هذا الباب وهو غير مصدر من الأشياء التي ذكرها قائما مقام المصدر، ومقتضى كلام ابن عصفور أنه يطلق عليها المصدر؛ فإنه قال: فأما المصدر هو اسم الفعل أو عدده أي ما قام مقامه (3)، وعبارة المصنف أولى، غير أن المصنف لم يذكر اسم العدد في ما يقوم مقام المصدر، ولا شك أنك إذا قلت: ضربته عشرين ضربة، فقد أقمت اسم العدد [2/ 364] مقام المصدر المبين، فكان ذكره متعينا.
2 -
ومنها: أن المصنف جعل الآلة قائمة مقام المصدر في نحو: ضربته سوطا.
وقرر الشيخ بهاء الدين بن النحاس بأن الأصل: ضربته ضربة بسوط، فحذف الموصوف الذي هو ضربة، وأقيمت الصفة التي هي بسوط مقامه، فصار: ضربته بسوط، ثم أسقط حرف الجر، ووصل الفعل إليه فنصبه فقيل:
ضربته سوطا (4).
وأما ابن عصفور فإنه جعل ذلك من قيام المضاف إليه مقام المضاف، فقال: الأصل:
ضربته ضربة سوط، فحذف المصدر وأقيم الاسم الذي كان مضافا إليه مقامه، فأعرب بإعرابه (5). ثم قال: ولا يجوز حذف المصدر وإقامة ما كان مضافا إليه مقامه بقياس إلا أن يكون ذلك (6) له نحو: ضربته سيفا ورشقته سهما وطعنته رمحا، الأصل: ضربة سيف ورشقة سهم وطعنة رمح، ولو قلت: ضربته خشبة أو رميته آجرّة (7) لم يجز، لأنه الخشبة ليست آلة للضرب، ولا الآجرة آلة للرمي (8)، فإن جاء شيء في غير أسماء -
(1) ينظر: المحتسب لابن جني (2/ 139).
(2)
هذا الجزء غير موجود بنسخ شرح التسهيل المطبوع، وهو في مخطوط دار الكتب ورقة 96.
(3)
المقرب (1/ 144)، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 324) طبعة العراق.
(4)
ينظر: التذييل (3/ 192)، وشرح الكافية للرضي (1/ 115)، والهمع (1/ 188)، والتصريح (1/ 328).
(5)
شرح الجمل لابن عصفور (1/ 324) طبعة العراق.
(6)
زاد في (ب) بعد قوله (ذلك): (الاسم الذي كان المصدر مضافا إليه قبل حذفه اسما للآلة التي يوقع بها الفعل الناصب له). اه.
(7)
الآجرّة: طبيخ الطين أو ما يبنى به، والجمع أجر وآجر. اللسان «أجر» .
(8)
ينظر التذييل (3/ 192).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الآلات التي يوقع بها الفعل الناصب للمصدر حفظ ولم يقس عليه نحو قوله:
1410 -
حتّى إذا اصطفّوا لنا جدارا (1)
وقول الآخر:
1411 -
ولم يضع ما بيننا لحم وضم (2)
الأصل: اصطفاف جدار وإضاعة لحم وضم، والجدار ليس آلة للاصطفاف، ولحم وضم ليس آلة للإضاعة.
3 -
ومنها: أن المصنف ذكر أن ما يقوم مقام المصدر وصفه، وأطلق ولم يقيد ومثل لذلك بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً (3). وأما ابن عصفور فإنه ذكر الوصف أيضا ومثل له بقوله: سرت قليلا أي سرت سيرا قليلا (4) إلا أنه قال: ولا يجوز إقامة صفة المصدر مقامه إلا إذا كانت من قبيل الصفات التي تستعمل استعمال الأسماء كقليل (5)، ألا ترى أن العوامل تباشره كما تباشر الأسماء التي ليست بصفات، فيقال: جئت قبل فلان بقليل، قال الله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (6) ومن ثم قال الشيخ بعد أن ذكر استشهاد المصنف بقوله تعالى: وَاذْكُرْ -
(1) البيت للعجاج بن عبد الله بن رؤبة الراجز المشهور، وهو من بحر الرجز، وبعده:
وكان ما بينهم طوارا
وينظر في: الخصائص (3/ 322، 323)، والمحتسب (2/ 121)، والارتشاف (537)، والتذييل (3/ 194)، وديوان العجاج (ص 414)، واللسان «لحم» .
والشاهد في قوله: «اصطفوا جدارا» ؛ حيث أقيم اسم العين مقام المصدر وهو الجدار، والأصل:
اصطفاف الجدار.
(2)
البيت من بحر الرجز المشطور وهو للعجاج أيضا وهو في: التذييل (3/ 194) وديوان العجاج (ص 278) وهو في الديوان هكذا مع بيت قبله:
وجعل الجيران أستار الحرم
…
ولم يكن جاركم لحم الوضم
فرواية الديوان مختلفة عن رواية البيت هنا.
اللغة: الوضم: كل شيء يوضع عليه اللحم من خشب أو غيره.
والشاهد في قوله: «ولم يضع .. لحم وضم» ؛ حيث أقيم اسم العين وهو (لحم وضم) مقام المصدر، والأصل: إضاعة لحم وضم.
(3)
سورة آل عمران: 41.
(4)
ينظر: المقرب (1/ 144).
(5)
ينظر: المقرب (1/ 150).
(6)
سورة المؤمنون: 40.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
رَبَّكَ كَثِيراً (1) وبما أنشده من قول ليلى الأخيلية:
1412 -
نظرت ودوني من عماية منكب
…
...... البيت (2)
وقول الآخر:
1413 -
وضائع أيّ جري ما أردت به (3)
مذهب سيبويه أن نصب هذا الوصف على الحال (4)، لأنه صفة غير خاصة بالموصوف، وإذا حذف الموصوف خرج الوصف عن أن يكون وصفا لعدم التبعية فكان حالا؛ إذ شأنها عدم الإتباع (5). انتهى.
وفي كل من الكلامين بحث، أما قول ابن عصفور: إنه لا يجوز إقامة الصفة إلا إذا كانت من قبيل الصفات التي تستعمل استعمال الأسماء فقد يمنع؛ لأن النحاة إنما اشترطوا في حذف المنعوت وإقامة النعت مقامه أن يكون النعت صالحا لمباشرة العامل (6) وأما ما ذكره الشيخ فإنه يقتضي أن الموصوف لا يحذف ويقام الوصف مقامه إلا إذا كانت الصفة خاصة بالموصوف، وليس [2/ 365] الأمر كذلك، بل الشرط أن يعلم جنس المحذوف، والعلم بذلك ليس منحصرا في الاختصاص، بل قد يكون بسبب اختصاص الوصف به كقولك: مررت بمهندس ولقيت كاتبا، وقد يكون بسبب مصاحبة ما يعيّنه كقوله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ (7) أي دروعا سابغات، وسابغات ليس وصفا مختصّا بالدروع، وإنما علم أن الموصوف المحذوف هو الدروع بسبب مقارنة ما ذكر قبله وهو الحديد، والحاصل أن المقصود حصول الدلالة على المحذوف من حيث الجملة، ولا شك أن بمقارنة «اذكر» في قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً علم الموصوف المحذوف، وإذا كان كذلك فلا حاجة إلى دعوى الحالية، إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك (8).
4 -
ومنها: أن قول المصنف: (أو هيئة) قد يقال فيه: إنه غير محتاج إليه؛ -
(1) سورة آل عمران: 41.
(2)
،
(3)
تقدم.
(4)
ينظر: الكتاب (1/ 228)، والمغني (2/ 652).
(5)
التذييل (3/ 191، 192).
(6)
ينظر: شرح الكافية للرضي (1/ 317).
(7)
سورة سبأ: 10، 11.
(8)
ينظر: مغني اللبيب (2/ 652) حيث إن رأي ابن هشام في هذه المسألة يتفق ورأي ناظر الجيش.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأن الهيئة نفسها مصدر، وهو ذكرها على أنها قائمة مقام المصدر، وواقعة موقعه.
5 -
ومنها: أن ابن عصفور لم يذكر «كلّا وبعضا» ، بل قال: أو ما أضيف إليه يعني إلى المصدر، بشرط أن يكون ذلك المضاف هو المضاف إليه في المعنى، أو بعضه، فالأول نحو: سرت كل السير، لأن كل السير هو السير، والثاني نحو:
سرت أشد السير (1)، فإن أشد السير سير، فقد يقال: شملت عبارة ابن عصفور:
سرت بعض السير (2)، ولم تشمل عبارة المصنف سرت أشد السير، فترجّح عبارة ابن عصفور، وليس كذلك؛ لأن المصنف لم يرد لفظ (بعض)، بل ما كان بعضا؛ ولذا مثّل بقوله تعالى: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً (3).
6 -
ومنها: أنه قد فهم من كلام المصنف في المتن والشرح أن الناصب للمصدر ولما يقوم مقامه هو العامل المذكور معه سواء أوافق لفظه أم لم يوافق، وقد نبّه على أن في ذلك خلافا بقوله: وهذا الذي اخترته هو اختيار المبرد (4) والسيرافي (5).
وقد تعرض ابن عصفور إلى ذكر ذلك مفصلا، فقال: وإذا كان المصدر منصوبا بعد فعل من لفظه، فإن كان جاريا على الفعل كان منصوبا به، وإن لم يكن جاريا -
(1) ينظر: المقرب (1/ 144).
(2)
مثل ابن عصفور بكل وبعض في شرح الجمل (1/ 325) فقال: «أو ما أضيف إليه إذا كان المضاف هو المضاف إليه في المعنى نحو: ضربت كلّ الضرب - أو بعضه نحو: ضربت بعض الضرب» اه.
(3)
سورة هود: 57.
(4)
ذكر الشيخ عضيمة في تحقيقه لهذه المسألة أنه ليس هناك خلاف بين المبرد وسيبويه، فقال: ماذا يراه المبرد في ناصب (تبتيلا) و (نباتا) في الآيتين؟ وهل بينه وبين سيبويه خلاف في هذا؟
الذي أراه أن المبرد يرى أن الناصب فعل محذوف بدليل قوله هنا: فكأن التقدير - والله أعلم - والله أنبتكم فنبتّم نباتا، وقوله في الجزء الثالث: ولكن المعنى - والله أعلم -: أنه إذا أنبتكم نبتم نباتا.
ويشهد لهذا أيضا سياق الحديث في الجزء الثالث، فقد ذكر آيات وشواهد شعرية حذف فيها الفعل الناصب للمصدر (صنع الله) ثم قال: ومثل هذان إلّا أن اللفظ مشتق من فعل المصدر من قوله عز وجل:
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل: 8] وليس بين سيبويه والمبرد خلاف في هذه المسألة» اه.
انظر: المقتضب.
وينظر في هذه المسألة: شرح المفصل لابن يعيش (1/ 112) وشرح الكافية للرضي (1/ 116).
(5)
وهو رأي أبي عثمان المازني أيضا، ينظر: أبو عثمان المازني (ص 164)، وشرح الكافية للرضي (1/ 116)، وشرح السيرافي (3/ 144)، والهمع (1/ 187).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عليه نحو قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (1) وقول القطامي:
1414 -
وخير الأمر ما استقبلت منه
…
وليس بأن تتبّعه اتّباعا (2)
ففي الناصب له خلاف، منهم من نصبه بفعل مضمر يجري عليه المصدر، ويدل عليه الفعل الظاهر، وهو مذهب المبرد وابن خروف (3)، وزعم أنه مذهب سيبويه (4)، ومنهم من ذهب إلى أنه منصوب بالفعل الظاهر، وإن لم يكن جاريا عليه (5)، ومنهم من فصّل فجعل ما كان معناه مغايرا لمعنى مصدر ذلك الفعل الظاهر منصوبا بفعل مضمر يدل عليه الظاهر كقوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً فنباتا منصوب بنبت مضمرا، أي فنبتّم نباتا، ودل نبت عليه، لأنهم إذا أنبتوا فقد نبتوا، وما [2/ 366] كان معناه غير مغاير لمعنى مصدر الفعل الظاهر جعله منصوبا بالفعل الظاهر؛ إذ لا موجب لتكلف الإضمار، وذلك نحو قول القائل:
1415 -
وقد تطوّيت انطواء الخصب (6)
-
(1) سورة نوح: 17.
(2)
البيت من الوافر وهو للقطامي وهو في: الكتاب (4/ 82)، والمقتضب (3/ 205)، والخصائص (2/ 309)، والأمالي الشجرية (2/ 141)، وابن يعيش (1/ 111)، والتذييل (3/ 180)، والخزانة (1/ 392) والشعر والشعراء (ص 724) وما يجوز للشاعر في الضرورة (131) والمباحث الكاملية (ص 430)، وطبقات ابن سلام (539)، واللسان «تبع» ، وديوانه (35).
والشاهد في قوله: «تتبعه اتباعا» ؛ حيث وقع قوله اتباعا مصدرا لغير فعله الجاري عليه وهو (تتبعه)؛ لأن المعنى واحد.
(3)
ينظر: التذييل (3/ 180)، والهمع (1/ 187).
(4)
الذي في كتاب سيبويه (4/ 81) هو قوله: «هذا باب ما جاء المصدر فيه على غير الفعل؛ لأن المعنى واحد وذلك قولك: اجتوروا تجاورا وتجاوروا اجتوارا؛ لأن معنى اجتوروا وتجاوروا واحد، وقال الله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً لأنه إذا قال: أنبته فكأنه قال: قد نبت، وقال عز وجل: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل: 8] لأنه إذا قال: تبتّل فكأنه قال: «بتّل» . اه.
وقال في بيت القطامي: لأن تتبعت واتبعت في المعنى واحد. اه. الكتاب (4/ 82) فليس في نص سيبويه ما يؤيد هذا الزعم، وينظر التذييل (3/ 181). ا. هـ.
(5)
الذي ذهب إلى ذلك هو المازني. ينظر: أبو عثمان المازني (ص 164)، والتذييل (3/ 180)، والهمع (1/ 187)، والارتشاف (ص 535).
(6)
هذا رجز لرؤبة بن العجاج وهو في: الكتاب (4/ 82)، وشرح الأبيات للسيرافي (1/ 291)، والمخصص (1/ 110)، وأمالي الشجري (2/ 141)، وابن يعيش (1/ 112)، والمقرب (2/ 135)،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فانطواء منصوب بتطويت؛ لأن الانطواء والتطوي بمعنى واحد، وقول الآخر:
1416 -
يلوح بجانب الجبلين منه
…
رباب يحفر التّرب احتفارا (1)
فاحتفار منصوب بتحفر؛ لأن الاحتفار والحفر بمعنى واحد، ومنه بيت القطامي المتقدم؛ لأن الاتباع والتتبع بمعنى واحد، قال ابن عصفور: والصحيح في المغاير أنه يجوز أن يكون منصوبا بالفعل، وأن يكون منصوبا بالفعل المضمر المدلول عليه بالظاهر، وهو الذي يعطيه كلام سيبويه، فإن عمل الظاهر راجح من حيث إنه لم يتكلف الإضمار، مرجوح من حيث المغايرة، وعمل المضمر راجح من حيث الموافقة لمعنى المصدر، مرجوح لتكلف الإضمار (2)، وإذا كان المصدر منصوبا بعد فعل من معناه، فإن لم يكن له فعل من لفظه كان منصوبا بذلك الفعل الذي هو من معناه نحو شيء من قول الهذلي (3):
1417 -
فعدّيت شيئا والدّريس كأنّه
…
يزعزعه ورد من الموم مردم (4)
فإنه مصدر منصوب بعاديت؛ لأنه واقع موقع معاداة، وكأنه قال: فعاديت -
- والتذييل (3/ 181)، والبحر المحيط (6/ 496)، والكافي شرح الهادي (ص 363)، والهمع (1/ 187)، وديوانه (ص 16)، واللسان «خصب - طوي» .
اللغة: الخصب: الذكر الضخم من الحيات، أو حية دقيقة.
والشاهد في البيت: وقوع الانطواء بعد تطويت وإن كان غير جار عليه؛ لأن المعنى واحد.
(1)
البيت من الوافر لقائل مجهول، وهو في: الارتشاف (ص 535)، والتذييل (3/ 181)، والبحر المحيط (2/ 424)
اللغة: الرباب: بجمع ربى على وزن فعلى، وهي الشاة التي ولدت حديثا، ويروى في البيت برواية (ركام) مكان (رباب) والركام: هو الرمل المتراكم وكذلك السحاب.
والشاهد قوله: «يحفر الترب احتفارا» ؛ حيث وقع المصدر بعد فعل غير جار عليه، ولكن معنى الفعلين واحد.
(2)
ينظر: التذييل (3/ 181، 182).
(3)
هو أبو خراش الهذلي، واسمه خويلد بن مرة، أحد بني هذيل، وهو من فرسان العرب وشاعر مخضرم، أسلم يوم حنين وهو شيخ كبير وحسن إسلامه، وكان ممن يعدو على رجليه فيسبق الخيل، ينظر:
الشعر والشعراء (2/ 663)، وأسد الغابة (5/ 178)، والإصابة (2/ 152)، والخزانة (1/ 433) وقد تقدمت ترجمته مفصلة.
(4)
البيت من الطويل وهو في: المسائل الشيرازيات للفارسي (ص 349) تحقيق علي جابر منصور، والمسائل والأجوبة لابن السيد (ص
459) إعداد محمد سعيد الحافظ رسالة بجامعة القاهرة، والأغاني (21/ 207)، وديوان الهذليين (1217)، واللسان «غرر» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
معاداة، قال: ومن هذا القبيل تعدي الفعل إلى الضمير العائد على المصدر المفهوم منه نحو قولك: ظننته زيدا قائما، تريد ظننت ظنّا زيدا قائما، وإن كان له فعل من لفظه نحو: حلفة من قول امرئ القيس:
1418 -
وآلت حلفة لم تحلّل (1)
ففيه خلاف: منهم من ذهب إلى أنه منصوب بالفعل الظاهر، وهو رأي المبرد والسيرافي، قال ابن عصفور: وإلى هذا المذهب عندي ذهب سيبويه بدليل جعله القهقرى من رجع زيد القهقرى منصوبا برجع لما كان ضربا من المرجوع وإن لم يكن من لفظ رجع، وذهب الفارسي وابن جني إلى أنه منصوب بفعل مضمر من لفظه (2)، وقد نص ابن جني في الخاطريات (3) له على امتناع انتصاب جلوس بقعد من قولك: قعد زيد جلوسا، وذكر ابن عصفور استدلاله على ذلك، واستدلال الفارسي أيضا، ثم أبطله، ثم قال: وقد نسب جماعة هذا المذهب إلى سيبويه، قالوا: ولذلك جعل المصادر التي هي «دأب بكار» من قول القائل:
1419 -
إذا رأتني سقطت أبصارها
…
دأب بكار شايحت بكارها (4)
و «طي المحمل» من قول أبي كبير الهذلي:
1420 -
ما إن يمسّ الأرض إلّا منكب
…
منه وحرف السّاق طيّ المحمل (5)
-
- اللغة: الدريس: الثوب الخلق. المردم: الملازم. وعديت: صرفت عنهم.
والشاهد فيه: نصب «شيئا» بعاديت؛ لأنه واقع موقع معاداة.
(1)
تقدم ذكره.
(2)
ينظر: التذييل (3/ 182، 183)، والارتشاف (ص 535، 536)، والهمع (1/ 187)، والخصائص (2/ 309).
(3)
هو كتاب لابن جني لم أتمكن من العثور عليه، وأغلب الظن أنه مفقود.
(4)
رجز لقائل مجهول وهو في: الكتاب (1/ 357)، والمقتضب (3/ 204)، والتذييل (3/ 196، 264)، وشرح السيرافي (3/ 143، 144).
اللغة: سقطت أبصارها: خشعت. الدأب: العادة. البكار: جمع بكر وبكرة وهو الفتي من الإبل.
شايحت: أي جدت ومضت.
والشاهد فيه: أن «دأب بكار» منصوب بإضمار فعل على الحال وعلى المصدر لعدم وجود فعل من لفظه. ذكر ذلك سيبويه.
(5)
البيت من بحر الكامل وهو في: الكتاب (1/ 359)، والمقتضب (3/ 204، 232)،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وتضميرك من قول رؤبة:
1421 -
لوّحها من بعد بدن وسنق
…
تضميرك السّابق يطوى للسّبق (1)
منصوبة بأفعال مضمرة لما لم يكن من الأفعال التي قبلها.
قال: والصحيح عندي أن مذهبه [2/ 367] ما ذكرته قبل من أن المصدر إذا جاء بعد فعل من معناه انتصب به، وإن لم يكن من لفظه، بدليل ما ذكرته من أنه جعل القهقرى من رجع زيد القهقرى منصوبا برجع لما كان ضربا من الرجوع، وأما دأب بكار، وطي المحمل، وتضميرك السابق، فلم يجئ شيء منها بعد فعل من معناه، إذ ليس الدأب سقوط البصر، ولا ضربا منه، والطي ليس المس ولا ضربا منه، والتضمير ليس التلويح ولا ضربا منه، وإنما هو شيء يلزم عنه التلويح، والتلويح هو التغيير، يقال: لوّحته الشمس إذا غيرته، والتضمير هو رد القوس إلى القوت بعد السمن، وذلك شيء يلزم منه التغيير، فلذلك جعلها سيبويه منصوبة بأفعال مضمرة يفسرها الكلام الذي قبلها، ومن هذا القبيل قولهم: تبسّمت وميض البرق؛ لأن التبسم ليس الوميض في المعنى، وإنما هو مشبه به، قال: وقد يجوز عندي أن يكون (دأب بكار) منصوبا (بسقطت) وتضميرك منصوبا (بلوّحها) ووميض البرق منصوبا بتبسمت على أن يكون التقدير: سقطت أبصارها سقوطا مثل دأب بكار، ولوحها تلويحا مثل تضميرك السابق، وتبسمت تبسّما مثل وميض البرق، فحذف المصدر وأقيمت صفته مقامه (2). انتهى.
وقد تقدم من كلام المصنف أن معنى (لوحها) ضمرها، وهذا مخالف لما قاله ابن عصفور، ثم قال: والصحيح عندي في المصدر المنصوب بعد فعل ليس من لفظه، بل من معناه أنه يجوز أن يكون منصوبا بذلك الفعل الظاهر، بالدليل الذي -
- والخصائص (2/ 309)، والإنصاف (1/ 230)، والارتشاف (ص 549)، والتذييل (3/ 246)، والعيني (3/ 54)، والتصريح (1/ 334)، وديوان الحماسة (1/ 21)، وشرح الحماسة للمرزوقي (90)، والأشموني (2/ 121)، وديوان الهذليين (2/ 93).
والشاهد في البيت: نصب (طي المحمل) بإضمار فعل دل عليه قوله:
(ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق) لأن هذا يدل على أنه طوى طيّا.
(1)
تقدم ذكره.
(2)
ينظر: شرح السيرافي للكتاب (3/ 143 - 145).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تقدم ذكره، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر من لفظه يدل عليه الظاهر (1)، وعلل ذلك بنظير ما تقدم.
قلت: وقد عرفت من كلام ابن عصفور أن الذي اختاره المصنف من أن المصدر الموافق معنى لا لفظا معمول لموافقه معنى، وأن الواجب اطراد هذا الحكم في ما له فعل من لفظه؛ ليجري الباب على سنن واحد هو الصّواب، فرحمه الله تعالى.
7 -
ومنها: أنه قد تقدم من كلام المصنف أن تنويع المصدر قد يستفاد بوصفه أو إضافته أو إدخال حرف التعريف عليه أو تثنيته أو بجمعه، فالوصف نحو: سار زيد سيرا عنيفا، والإضافة نحو: سار سير البريد أو سار سير الأثقال، وإدخال حرف التعريف نحو: ضربت الضرب تريد ضربا معهودا بينك وبين مخاطبك، كأنك قلت: ضربت الضرب الذي تعلم زمنه، قول الشاعر:
1422 -
لعمري لقد أحببتك الحبّ كلّه
…
وزدتك حبّا لم يكن قطّ يعرف (2)
وقول الآخر [2/ 368]:
1423 -
فدع عنك ليلى إنّ ليلى وشأنها
…
وإن وعدتك الوعد لا يتيسّر (3)
وقول الآخر (4):
1424 -
فلو تعلمين العلم أيقنت أنّني
…
وربّ الهدايا المشعرات صدوق (5)
-
(1) ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (2/ 340).
(2)
البيت من الطويل وهو لعبد الله بن المعتز الخليفة العباسي وهو في: الخصائص (2/ 448)، والمحتسب (1/ 238)، وتوجيه اللمع لابن الخباز (ص 115)، وابن القواس (326)، والتذييل (3/ 187)، والكافي شرح الهادي (360)، وديوان ابن المعتز (ص 320).
والشاهد في قوله: «أحببتك الحب» ؛ حيث إن المفعول المطلق مخصص بأل.
(3)
البيت من الطويل وهو لبشر بن أبي خازم وهو في: التذييل (3/ 187)، وديوان بشر بن أبي خازم (ص 82).
والشاهد في قوله: «وعدتك الوعد» ؛ حيث إن المفعول المطلق مخصص بأل.
(4)
هو مضرّس بن قرطة المزني شاعر محسن مقل. ينظر: الأغاني (5/ 19) وينسب البيت فيه أيضا إلى قيس بن ذريح.
(5)
البيت من الطويل وهو في: التذييل (3/ 187)، والأغاني (5/ 19) برواية.
ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني
…
لكم والهدايا المشعرات صدوق
ولا شاهد في هذه الرواية.
والشاهد في قوله: «فلو تعلمين العلم» ؛ حيث خصص المفعول المطلق بأل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال الشيخ - بعد إنشاد هذه الأبيات -: ولا يتصور أن تكون (أل) فيها جنسية، لأن الجنس لا يمكن وقوعه، قال: وإنما أريد بالحب أصناف الحب المعهودة من الناس وبالوعد، والوعد الذي كان يرجوه منها، بالعلم، العلم الذي يتوصل به إلى صدقه (1). انتهى.
وفيما قاله نظر؛ لأن الذي لا يمكن وقوعه الجنس من حيث هو جنس، أما وقوع فرد يتضمن الجنس فلا يتصور منع وقوعه، وأي مانع من أن يكون مراد من قال:
1425 -
وإن وعدتك الوعد (2)
وإن وعدتك وعدا، وكذا من قال:
1426 -
فلو تعلمين العلم (3)
يمكن أن يريد: فلو تعلمين علما، وأما إرادة أفراد الجنس في قول من قال:
1427 -
لقد أحببتك الحبّ كلّه (4)
فظاهرة، ويدل على ذلك التوكيد بكل، وأما تثنيته وجمعه فسنذكرهما.
8 -
ومنها: أن بعض النحاة أجاز أن يقال: ضربته أن أضربه. قال ابن عصفور:
والذي عليه الجمهور أن ذلك لا يجوز، قالوا: وقول الناس: لعنه الله أن لعنه - لحن، قال الزجاج: وإنما امتنع في مثل هذا أن يؤكد به الفعل، لأن أن تخلص الفعل للاستقبال، والتأكيد إنما يكون بالمصدر المبهم، وقد حكيت إجازة ذلك عن الأخفش، والذي ذكره في كتابه الكبير إنما هو منعه (5)، انتهى.
والتعليل الذي ذكر عن الزجاج غير ظاهر؛ لأن الاستقبال لا يخرج عن الإبهام؛ ولأن المؤكد إنما هو المصدر المنسبك من (أن) والفعل، والمصدر لا دلالة له على الاستقبال ولا غيره، ولو قيل في تعليل ذلك: إنّ (أن) والفعل بمنزلة اسم معرفة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر، والتعريف يخرج الكلمة من الإبهام إلى التخصيص - لكان أقرب. -
(1) التذييل (3/ 187).
(2)
،
(3)
،
(4)
تقدم ذكرها.
(5)
ينظر: التذييل (3/ 287)، والارتشاف (ص 539)، ومعاني القرآن للأخفش في تفسير قوله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، والهمع (1/ 187).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
9 -
ومنها: أن الشيخ لما مثل المصدر المختص بالإضافة بـ (قمت قيام زيد)، وقال: أصله قياما مثل قيام زيد حذف المصدر ثم صفته، وقام مقامها المضاف إليه فأعرب إعرابه - بحث فقال: فإن قلت: يلزم أن يكون انتصاب قيام زيد على الحال لا على المصدر؛ لأنه قائم مقام مثل، ومثل المحذوفة حال من جهة أن المصدر إذا حذف وأبقيت صفته انتصب على الحال لا على المصدر، فالجواب أنه لا ينتصب على الحال إلا إذا لم تكن خاصة بجنس الموصوف نحو: ساروا شديدا، وليس كذلك مثل قيام زيد، لأنه صفة خاصة بجنس الموصوف المحذوف، وهو قيامها (1)، انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا الجواب، والسؤال من أصله مدفوع؛ لأن دعوى التزام نصب صفة المصدر على الحال إذا لم [2/ 369] تكن خاصة بجنس الموصوف ممنوعة، وقد تقدم تقريره، وقد نقض الشيخ كلامه بعد ذلك بورقات، فقال: إذا قلت ضربت ضربا مثل ضرب الأمير، فضرب مصدر منصوب لضربت؛ فإذا قلت: مثل ضرب الأمير فمذهب سيبويه أنه حال (2)، وينبغي في القياس أن لا يحذف (مثل)؛ لأنك إذا حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه أعرب إعرابه، والمعرفة لا تكون حالا (3)، انتهى. وهذه مناقضة ظاهرة.
10 -
ومنها: أن المصنف نص على جواز تثنية المصدر المختص وجمعه، وكذا نص ابن الحاجب (4). فأما الذي يقصد به الدلالة على العدد فواضح أنه لا يتصور فيه خلاف، لأن المقصود به الدلالة على ذلك، وأما الذي لا يقصد به ذلك ففي تثنيته وجمعه عند اختلاف أنواعه خلاف، منهم من أجاز ذلك قياسا على ما سمع منه، ومنهم من قال: لا يثنى ولا يجمع. وإلى ذلك ذهب الشلوبين (5)، وهو ظاهر مذهب سيبويه، قال: واعلم أنه ليس كل جمع يجمع، كما أنه ليس كل مصدر يجمع كالأشغال والعقول والألباب والحلوم، ألا ترى أنك لا تجمع الفكر والفطن والعلم (6). انتهى، وقد قال الشاعر: -
(1) التذييل (3/ 188).
(2)
ينظر: الكتاب (1/ 228).
(3)
التذييل (3/ 195).
(4)
ينظر: شرح الكافية للرضي (1/ 114).
(5)
ينظر: الهمع (1/ 186)، والتصريح (1/ 329)، والأشموني (2/ 115)، والمطالع السعيدة (ص 299)، واللمع (ص 132)، ونتائج الفكر (ص 363).
(6)
الكتاب (3/ 619).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
1428 -
ثلاثة أحباب فحبّ علاقة
…
وحب تملّاق وحبّ هو القتل (1)
وقال آخر:
1429 -
هل من حلوم لأقوام فتنذرهم
…
ما جرّب الدّهر من غضّي وتضريسي (2)
ويقال: فلان ينظر في علوم كثيرة.
11 -
ومنها: أن الفعل إذا كان له مصدران مؤكد ومبين، فمذهب الأكثرين ومنهم الأخفش والمبرد وابن السراج أن الفعل لا ينصبهما معا، وأجاز السيرافي وابن طاهر نصب المصدرين، بل قالا: إن الفعل يجوز أن ينصب ثلاثة مصادر إذا اختلف معناها (3). قال الشيخ: وفي البديع إذا قلت: ضربت زيدا ضربا شديدا ضربتين، كان ضربتين بدلا من الأول، ولا يكونان مصدرين؛ لأن الفعل الواحد لا ينصب مصدرين، فأما قول الشاعر:
1430 -
ووطئتنا وطأ على حنق
…
وطأ المقيّد ثابت الهرم (4)
فلا يكون الثاني بدلا، لأنه غيره، ولكنه بمعنى: مثل وطء القيد. أو على إضمار فعل (5). انتهى. والظاهر في هذه المسألة مذهب الأخفش ومن وافقه وهم الأكثرون: أن الفعل لا ينصب مصدرين على ما تقتضيه قواعد الصناعة النحوية؛ -
(1) البيت من الطويل لقائل مجهول وهو في: مجالس ثعلب (1/ 23)، ونتائج الفكر للسهيلي (ص 364) طبعة جامعة قاريونس، وشرح المفصل لابن يعيش (6/ 47، 48)، (9/ 157)، والتذييل (3/ 189)، والبحر المحيط (1/ 456)، وابن القواس (ص 1074)، وحاشية يس (1/ 329).
اللغة: التملاق: مصدر تملقه وتملق له: أي تودد إليه وتلطف له.
الشاهد في قوله: «ثلاثة أحباب» ؛ حيث جمع المصدر وهو (حب) على أحباب.
(2)
البيت من البسيط، وهو لجرير، وهو في: التذييل (3/ 190)، وشرح الجمل لابن الضائع (2/ 115)، وابن القواس (324)، والعيني (2/ 363)، واللسان «حلم» .
والشاهد في قوله: «حلوم» ؛ حيث جمع المصدر المبهم لاختلاف أنواعه.
(3)
ينظر: الهمع (1/ 188).
(4)
البيت من الكامل وهو للحارث بن وعلة، في أمالي القالي (1/ 263)، والهمع (1/ 188)، والدرر (1/ 161)، واللسان «هرم» ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص 206).
والشاهد فيه: أن قوله: (وطأ) الثانية ليس بدلا من الأول؛ لأنه غيره، ولكنه على تقدير (مثل) أي (مثل وطء)، أو على إضمار فعل، والمقيد: صفة للبعير، والهرم: نبات ضعيف، والحنق: الغيظ.
(5)
التذييل (3/ 189، 190).