الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع والعشرون باب المفعول له
[تعريفه - ناصبه - أنواعه - وحكم كل نوع]
قال ابن مالك: (وهو المصدر المعلّل به حدث شاركه في الوقت ظاهرا أو مقدّرا، والفاعل تحقيقا أو تقديرا، وينصبه مفهم الحدث نصب المفعول به المصاحب في الأصل حرف جرّ، لا نصب نوع المصدر، خلافا لبعضهم، وإن تغاير الوقت أو الفاعل، أو عدمت المصدريّة جرّ باللّام أو ما في معناها، وجرّ المستوفي لشروط النصب مقرونا بـ «أل» أكثر من نصبه، والمجرّد بالعكس، ويستوي الأمران في المضاف، ومنهم من لا يشترط اتحاد الفاعل).
قال ناظر الجيش: قال المصنف (1): المفعول له هو ما دل على مراد الفاعل من الفعل، كدلالة التأديب من قولك: ضربته تأدبا، فإن لم يكن مصدرا ولا أنّ أو أن ظاهرة فلابد من لام الجر، أو ما في معناها نحو: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (2)، وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (3)، وكذا إن كان مصدرا ووقته غير وقت العامل كقول امرئ القيس:
1494 -
فجئت وقد نضّت لنوم ثيابها
…
لدى السّتر إلّا لبسة المتفضّل (4)
وكذا إن كان مصدرا وفاعله غير فاعل المعلل به كقول الشاعر (5): -
(1) شرح التسهيل لابن مالك (2/ 196).
(2)
سورة البقرة: 29.
(3)
سورة النحل: 44.
(4)
البيت من الطويل، وهو من معلقة امرئ القيس وينظر في: المقرب (1/ 161)، والارتشاف (ص 553)، والتذييل (3/ 263، 854)، وشذور الذهب (ص 286)، والعيني (3/ 66، 225) وقطر الندى (2/ 63)، وأوضح المسالك (1/ 174)، والمطالع السعيدة (ص 305)، والبهجة المرضية (ص 60)، والهمع (1/ 194)، والدرر (1/ 166)، وحاشية الخضري (1/ 195)، وديوانه (ص 14)، والأشموني (2/ 124).
والشاهد في قوله: «لنوم» ؛ حيث أدخل عليه لام العلة؛ لأن النوم لم يقارن نضوضها ثيابها.
اللغة: نضت: من نضوت الثوب إذا ألقيته عنك.
(5)
هو أبو صخر الهذلي، وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية. والبيت في ديوان المجنون أيضا (ص 56).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
1495 -
وإنّي لتعروني لذكراك هزّة
…
كما انتفض العصفور بلّله القطر (1)
فلو كان الفعل واحدا ولم يذكر لكان الحكم مثل ما هو مع وحدته إذا ذكر، وذلك نحو: ضرب الصبي تأديبا (2)، وكذا لو كان الفاعل غير واحد في اللفظ وواحدا في التقدير كقول النابغة:
1496 -
وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع
…
تخال به راعي الحمولة طائرا
حذارا على أن لا تنال مقادتي
…
ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا (3)
فإن فاعل «حلّت» في الظاهر غير فاعل «حذارا» وهو في التقدير واحد؛ لأن المعنى: وأحللت بيوتي حذارا، وكذا قوله تعالى: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً * (4)؛ لأن معنى يريكم: يجعلكم ترون، ففاعل الرؤية فاعل الخوف والطمع في التقدير، فلا يلزم جعل خَوْفاً وَطَمَعاً * حالين كما زعم الزمخشري (5)، -
(1) البيت من الطويل، وهو في: الإنصاف (1/ 253)، والمقرب (1/ 162)، وابن يعيش (2/ 67)، وأمالي القالي (1/ 149)، والغرة المخفية (278)، وابن القواس (ص 350)، والتذييل (3/ 264)، والارتشاف (553)، والبحر المحيط (1/ 205)، وتعليق الفرائد (1525)، والمطالع السعيدة (ص 306)، والبهجة المرضية (ص 60)، وأوضح المسالك (1/ 174)، وشذور الذهب (ص 287)، والعيني (3/ 67، 278)، والدرر (1/ 166)، والأشموني (2/ 124، 215)، وحاشية الخضري (1/ 195).
والشاهد في قوله: «لذكراك» ؛ حيث دخلت عليه لام الجر؛ لأن فاعل المصدر غير فاعل المعلل به.
(2)
ينظر: التذييل (3/ 260).
(3)
البيتان من الطويل، وهما للنابغة الذبياني، وينظر فيهما: الكتاب (1/ 368)، وشرح الأبيات للسيرافي (1/ 29، 30)، وابن يعيش (2/ 45)، والتذييل (3/ 266)، والغرة لابن الدهان (2/ 72)، وديوان النابغة (ص 64، 65)، ولم يكن البيتان في الديوان متتاليين بل وقع بينهما بيت آخر وهو:
تزل الوعول العصم عن قذفاته
…
وتضحى ذراء بالحساب كوافرا
وهذه الأبيات من قصيدة يمدح بها النعمان بن المنذر.
اللغة: اليفاع: المشرف من الأرض. الحمولة: الإبل التي قد أطاقت الحمل وتظن طائرا لبعدها عن الأرض. والمقادة: من قدته إذا سقته.
والشاهد: في البيت الثاني في قوله: «حذارا» ؛ حيث نصب مفعولا له بدون أن تدخل عليه لام الجر، مع أن فاعل الحذر ليس البيوت. ويستدل بهذا البيت من لا يشترط اتحاد الفاعل. ومن يشترط ذلك يؤوله على أن الفاعل في التقدير واحد.
(4)
سورة الرعد: 12، وسورة الروم:24.
(5)
ينظر: الكشاف (1/ 405).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا يكون التقدير: يريك البرق وإراءة خوف وطمع (1)، وقد يكون عامل المفعول له محذوفا، ومنه حديث محمود بن لبيد [2/ 393] الأشهلي:
قالوا: ما جاء بك يا عمرو أحدبا على قومك أو رغبة في الإسلام؟
أي: أجئت حدبا أو رغبة (2)، وأجاز ابن خروف حذف الجار مع عدم اتحاد الفاعل من كل وجه نحو: جئتك حذر زيد الشر، وزعم أنه لم ينص على منعه أحد من المتقدمين، قال: ومن حجة من أجازه شبهه في عدم اتحاد الفاعل بقولهم:
ضربته ضرب الأمير اللص، فكما نصب الفعل في هذا المصدر وفاعلاهما غيران (3) كذا ينصب حيث حذر زيد الشر، وفاعلاهما غيران، إذ لا محذور في ذلك من ليس ولا غيره (4)، وظاهر قول سيبويه يشعر بالجواز؛ لأنه قال بعد أمثلة المفعول له:
فهذا كله ينتصب؛ لأنه مفعول له كأنه قيل له: لم فعلت كذا؟ فقال: لكذا، ولكنه لما طرح اللام عمل فيه ما قبله كما عمل في «دأب بكار» ما قبله حين طرح مثل (5)، يشير إلى قول الراجز:
1497 -
إذا رأتني سقطت أبصارها
…
دأب بكار شايحت بكارها (6)
فشبه انتصاب المفعول له بانتصاب المصدر المشبه به، وفاعل المشبه به غير فاعل ناصبه، فلذا لا يمتنع أن يكون فاعل المفعول به غير فاعل ناصبه، وهذا بينّ، والله تعالى أعلم.
وأجاز ابن خروف في قول الشاعر (7):
1498 -
مدّت عليك الملك أطنابها
…
كأس رنوناة وطرف طمر (8)
-
(1) ينظر: المغني (2/ 562)، والتصريح (1/ 335).
(2)
في التذييل (3/ 259): «الحدث المعلل هنا مقدر، تقديره: أجئت حدبا على قومك؟» .
(3)
أي متغايران.
(4)
ينظر رأي ابن خروف في: التذييل (3/ 264) حيث أورد هذا النص، وينظر أيضا:
الارتشاف (552)، والتصريح (1/ 335)، وحاشية الصبان (2/ 123).
(5)
الكتاب (1/ 369، 370).
(6)
تقدم ذكره.
(7)
هو عمرو بن أحمر بن قيس بن عيلان من شعراء الجاهلية، وقد أدرك الإسلام، وتوفي في عهد عثمان - رضي الله تعالى عنه - وينسب البيت أيضا للأعشى.
(8)
البيت من السريع، وهو في: المقرب (1/ 162)، والغرة لابن الدهان (2/ 71)، والتذييل (3/ 265)، وخلق الإنسان للأصمعي (186)، وشرح الجمل لابن الضائع (2/ 245)، -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أن يكون نصب الملك على أنه مفعول له، وأطنابها على أن يكون مفعولا به، والمعنى: وصف المخاطب بكون همته مقصورة على الأكل والشرب ونحوهما، ورجح هذا الوجه على وجه غيره، وهو أن يكون الملك مفعولا به، وأطنابها بدل، والضمير عائد على الملك بتأويل الخلافة (1). وزعم بعض المتأخرين أن المفعول له منصوب نصب نوع المصدر (2)، ولو كان كذلك لم يجز دخول لام الجر عليه، كما لا تدخل على الأنواع نحو: سار الجمزى (3)، وعدا البشكى (4)، ولأن نوع المصدر يصح أن يضاف إليه كل ويخبر عنه بما هو نوع له كقولك: كل جمزى سير، ولو فعل ذلك بالتأديب والضرب من قولك: ضربته تأديبا لم يصح، فثبت بذلك فساد هذا المذهب. وزعم من لا يحترز في النقل أن الزجاج يذهب إلى هذا المذهب (5)، ولا يصح ذلك عنه؛ فإنه قال في كتاب المعاني في قوله تعالى:
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ (6): ونصب ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ على معنى المفعول له، المعنى: يشريها لابتغاء مرضات الله (7)، فقدر اللام كما يقدرها سيبويه وغيره (8)، فصح أنه برئ من ذلك المذهب، وأن من عزاه إليه غير -
- والخصائص (2/ 22).
اللغة: الأطناب: حبال الخباء، كأس رنوناة: أي دائمة على الشرب ساكنة، طرف: فرس كريم الأطراف يعني: الآباء والأمهات، والطمر: الفرس الجواد، وقيل: المستفز للوثب، وقيل: الطويل القوام.
والشاهد في قوله: «الملك» ؛ حيث نصب مفعولا له، ولم يجر باللام مع أن فاعل الملك غير فاعل العامل، وهذا ما يراه ابن خروف، وغيره يرى أن (الملك) مفعول به و (أطنابها) بدل منه.
(1)
هذا رأي ابن عصفور في المقرب (1/ 162).
(2)
نسب هذا الرأي في شرح الكافية للرضي (1/ 92)، إلى الزجاج، وفي الهمع أنه رأي الكوفيين، الهمع (1/ 194).
(3)
الجمزى: من «جمز» الإنسان والبعير والدابة يجمز جمزا وجمزى، وهو عدو دون الحضر الشديد وفوق العنق، اللسان «جمز» .
(4)
البشك في السير سرعة نقل القوائم، وقيل: هو السير الرقيق، وقيل: السرعة. ينظر: اللسان «بشك» .
(5)
ينظر: التذييل (3/ 262)، وشرح الكافية للرضي (1/ 192).
(6)
سورة البقرة: 207.
(7)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 269).
(8)
يشير المصنف بذلك إلى رأي البصريين، وهو أن المفعول له منصوب بنزع الخافض، وليس مفعولا مطلقا للفعل المذكور؛ لملاقاته له في المعنى كما يرى الكوفيون، ينظر: شرح المقدمة الجزولية (ص 261) تحقيق د/ شعبان عبد الوهاب، وحاشية الخضري (1/ 194).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
محق، والله تعالى أعلم.
وانجرار المستوفي لشروط النصب جائز مختصّا كان بالألف واللام كقول الراجز:
1499 -
لا أقعد الجبن عن الهيجاء
…
ولو توالت زمر الأعداء (1)
أو مضافا كقول حاتم:
1500 -
وأغفر عوراء الكريم ادّخاره (2)
أو غير مختص كقول حاتم: [2/ 394]
1501 -
وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّما (3)
إلا أن انجرار المختص بالألف واللام أكثر من نصبه، ونصب غير المختص أكثر من انجراره. ويستوى الأمران في المختص بالإضافة. وزعم الجزولي: أنه لا يكون المنجر إلا مختصّا، يعني أنه لا يجوز أن يقال: جئت لإعظام لك، قال أبو علي الشلوبين: -
(1) الرجز في الارتشاف (554)، ومنهج السالك لأبي حيان (145)، والتذييل (3/ 269)، والعيني (3/ 69)، والتصريح (1/ 336)، والأشموني (2/ 125)، والهمع (1/ 195)، والدرر (1/ 167)، والمطالع السعيدة (ص 307)، والبهجة المرضية (ص 61)، وأوضح المسالك (1/ 174)، وشرح ابن عقيل (1/ 195)، وشرح الألفية للمرادي (2/ 88).
اللغة: الهيجاء: الحرب. الزمر: جمع زمرة وهي الجماعة.
والشاهد في قوله: «الجبن» ؛ حيث جاء مفعولا له مختصّا بالألف واللام، وهو منصوب على الرأي الراجح.
(2)
صدر بيت، وعجزه الشاهد الذي بعده، والبيت من الطويل، وهو في: الكتاب (1/ 368)، ونوادر أبي زيد (ص 355)، برواية (ذات) مكان (شتم)، ومعاني القرآن للفراء (2/ 5) برواية النوادر أيضا، والمقتضب (2/ 348)، والكامل (1/ 291)، وشرح الجمل لابن العريف، وحاشية التفتازاني (1/ 234)، والغرة لابن الدهان (2/ 68)، وعمدة الحافظ (ص 289)، والتذييل (3/ 270)، وابن يعيش (2/ 54)، والخزانة (1/ 49)، والعيني (3/ 75)، وشروح سقط الزند (ص 619)، واللمع (ص 141)، والفصول الخمسون (ص 193)، وشرح ابن عقيل (1/ 195)، واللسان «عور - خصص» .
اللغة: العوراء: القبيحة. ادخاره: إبقاء عليه.
ويروى (اصطفاعه) مكان (ادخاره) كما في الديوان (ص 80).
والشاهد في قوله: «ادخاره» ؛ حيث نصب مفعولا له وهو مضاف.
(3)
عجز البيت السابق، وانظره في المراجع السابقة.
والشاهد فيه: قوله «تكرما» ؛ حيث جاء مفعولا له، وهو غير مختص (بأل) ولا مضاف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهذا غير صحيح، بل هو جائز؛ لأنه لا مانع يمنع منه، ولا أعرف له سلفا في هذا القول (1)، قلت: ويمكن أن يكون «القسط» من قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ (2) مفعولا له؛ لأنه مستوف للشروط، والجر في هذا الباب إما باللام وهو الكثير، وإما بمن كقوله تعالى: خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (3) وأما بالباء كقوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا (4) وبفي كقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ امرأة دخلت النار في هرّة» (5) أي من أجل هرة. انتهى كلام المصنف (6).
ثم في الباب مباحث:
الأول:
الحد الذي ذكره المصنف فيه مناقشة وهي: إدخاله ما هو من شروط المحدود في الحد، ولا شك أن الشروط والقيود المتعلقة بالمحدود خارجة عن ماهيته، ولا شك أن مشاركة المفعول له لما هو معلول به في الوقت والفاعل
شرط، وكذا كون الحدث المعلل قد يكون مقدرا، وكون الفاعل قد يكون واحدا تقديرا، وقوله في الشرح:
المفعول له ما دل على مراد الفاعل من الفعل أحسن وأحصر مما ذكره في المتن، والحد المعتبر ما ذكره ابن الحاجب من أن المفعول له: ما فعل لأجله فعل مذكور، واحترز بقوله: فعل مذكور من مثل: يعجبني التأديب، وكرهت التأديب، فهو وإن كان علة لفعل، فليس علة لفعل مذكور (7). -
(1) المقدمة الجزولية (ص 673)، وينظر: الارتشاف (ص 553)، والتصريح (1/ 336)، والهمع (1/ 195)، وشرح الألفية للمرادي (2/ 88)، وابن عقيل (1/ 195).
(2)
سورة الأنبياء: 47.
(3)
سورة الحشر: 21.
(4)
سورة النساء: 160.
(5)
حديث شريف أخرجه البخاري في كتاب: بدء خلق الإنسان (4/ 130)، ومسلم في كتاب:
التوبة (ص 211)، وابن حنبل (2/ 261، 269، 457، 467، 501)، وابن ماجه في كتاب:
الزهد (ص 1421).
ونص الحديث كما في البخاري: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» .
(6)
شرح التسهيل للمصنف (2/ 199).
(7)
شرح كافية ابن الحاجب للرضي (1/ 191)، وشرح ابن الحاجب على كافيته (1/ 282).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثاني:
قال ابن الحاجب - في شرح المفصل (1) -: إذا قلت: ضربته تأديبا، فالتأديب سبب الضرب؛ فإن قلت: كيف يكون الضرب سببا لشيء، وذلك الشيء سبب له؟ فإنا نقطع بأن الضرب سبب للتأديب؟
فالجواب: أن التأديب له جهتان: هو باعتبار أحدهما سبب، والآخر مسبب، فباعتبار عقليته ومعلوميته، وفائدته سبب للضرب، وباعتبار وجوده مسبب للضرب، فالوجه الذي كان به سببا غير الوجه الذي كان به مسببا، وإنما يتناقض أن لو كان سببا مسببا بشيء واحد من وجه واحد، وكل فعل هو سبب لوجود أمر، فإن معقولية ذلك الأمر سبب للإقدام على الفعل، كقولك: أسلم تدخل الجنة، فالإسلام سبب لدخول الجنة، ومعقولية دخول الجنة وفائدته سبب الإقدام على الإسلام، وكقولك: ابن بيتا تستظله، فالبناء سبب الاستظلال، ومعقولية الاستظلال هو الحامل
على البناء (2)، وقال في شرح المقدمة: وقد توهم بعض النحويين أن المفعول من أجله مسبب عن الفعل نظرا إلى مثل: ضربته تأديبا، وأسلمت لدخول الجنة، ومشبهه [2/ 395]، فإن الضرب سبب التأديب والإسلام سبب لدخول الجنة، وليس بمستقيم؛ لأنه قد ثبت قولهم: قعدت عن الحرب جبنا، ونظائره، ولا يستقيم أن يقال: القعود سبب الجبن بوجه، ويستقيم (3) أن يقال: التأديب هو السبب الحامل على الضرب، وإذا استقام ذلك وجب رد الجميع إليه (4). انتهى.
وإذا تأملت ما قاله علمت أن كلامه في شرح المفصل أنصع من كلامه في شرح المقدمة، والذي قاله لا يخفى وجه صحته، فإن التأديب هو الغاية المطوية، وقد قال أرباب المعقول: إنّ العلة الغائية علة في الذهن ومعلولة في الخارج، فعبر ابن الحاجب عن هذا المعنى بقوله: إن التأديب له جهتان: هو باعتبار أحدهما سبب والآخر مسبب؛ فأورد معنى ما قاله أرباب المعقول بعبارة يستعملها النحاة وغيرهم كيلا -
(1) انظر: الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب (1/ 325). تحقيق موسى العليلي.
(2)
انظر: شرح المقدمة الكافية لابن الحاجب (ص 4941) تحقيق د/ جمال مخيمر.
(3)
في (ب): (ومستقيم).
(4)
شرح ابن الحاجب على كافيته (1/ 282).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يكون متكلما في فن بعبارة أهل فن آخر، فإن ذلك من أكبر عيوب المصنفين والمقررين، فرحمه الله تعالى.
الثالث:
قد عرفت أن المفعول له إنما ينتصب بثلاثة شروط وهي: أن يكون مصدرا، وأن يكون ذلك المصدر مشاركا للفعل المعلل في الوقت والفاعل، أي: أن يكون فاعلهما واحدا (1).
قال ابن الحاجب: وإنما اشترط ذلك يعني هذه الثلاثة؛ ليقوى معنى التعليل؛ فيصح حذف الحرف الدال عليه، قال: فوزانه وزان الظرف، باعتبار حذف «في» فشرطه أن يكون اسما ظاهرا؛ ليقوى أمر المستظرفية (2)، فيصح حذف «في» .
قال: ووجه قوة التعليل عند الشرائط أنها الغالب في التعليلات، فكان لها تنبيه على التعليل، فيصح حذف الحرف لما فيها من القوة، ولهذا إذا فات شرط منها ضعفت دلالة التعليل، واحتيج إلى حرفه، كما إذا غير اسم الزمان الظاهر بمضمر، أو إشارة وجب الإتيان بحرف الظرف (3). انتهى.
ثم اعلم أن في اشتراط كل من الثلاثة خلافا:
فأما اتحاد الفاعل: فقد ذكر المصنف الخلاف فيه، وعلمت ما ذكره عن ابن خروف أنه لم ينص على ذلك أحد من المتقدمين، وقال ابن طاهر: قول سيبويه يشعر بذلك (4).
وأما المشاركة في الوقت: فقد ذكر الشيخ أن القائل باشتراط ذلك هو الأعلم وناس من المتأخرين، وأن سيبويه لم يشترطه ولا أحد من المتقدمين (5).
وأما المصدر: فإنه كالمجمع على اشتراطه، ولم يخالف في ذلك إلا يونس (6) -
(1) ينظر: المطالع السعيدة (ص 305)، والتوطئة (ص 362).
(2)
في (ب): (الظرفية).
(3)
شرح ابن الحاجب على المفصل المسمى بالإيضاح (1/ 326).
(4)
ينظر: الهمع (1/ 194)، وحاشية الصبان (2/ 123) ففيهما إشارة إلى هذا الرأي.
(5)
التذييل (3/ 264)، وينظر رأي الأعلم أيضا في الهمع (1/ 194)، والتصريح (1/ 335)، والمطالع السعيدة (ص 305).
(6)
ينظر: الكتاب (1/ 389)، والهمع (1/ 194)، وأوضح المسالك (1/ 173)، والأشموني (2/ 122).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال الشيخ: تضافرت النصوص على شرط أن يكون مصدرا، وزعم يونس أن قوما يقولون:«أما العبيد فذو عبيد» بالنصب، وتأويله على المفعول له، وإن كان العبيد غير مصدر، والمعنى: مهما يذكر شخص لأجل العبيد، فالمذكور ذو عبيد، وقبح ذلك [2/ 396] سيبويه، وإنما أجازه على ضعفه؛ إذ لم يرد عبيدا بأعيانهم (1) يعني: أن لا يراد بذلك الاسم معين، فلو قيل: أما البصرة فلا بصرة لكم، وأما الحارث فلا حارث لك - لم يجز؛ لأنهما مختصان، قال: وقدر الزجاج في نحو: أما العبيد مصدرا مضافا، كأنه قيل: أما تلك العبيد أي: مهما تذكره من أجل تملك العبيد، كأن الزجاج يخرج ما ورد من نحو: أما العبيد على ذلك مراعاة للمصدر، إذ لا يكون المفعول له غير المصدر (2).
واعلم أن بعض النحاة اشترط أمورا زائدة على ما ذكر: -
فمنها: مغايرة معنى المصدر لمعنى الفعل، وهذا لا يحتاج إليه؛ لأن المفعول له علة للفعل، والعلة يجب مغايرتها للمعلول؛ لأن الشيء لا يكون علة لنفسه.
ومنها: أن يقع بعد فعل لا يتعدى أو قد انتهى في تعدية، وليس بشيء لجواز:
أعطيتك إكراما لزيد (3).
ومنها: أن يكون من أفعال النفس الباطنة، ولا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة نحو: جاء زيد جزعا ورغبة، بخلاف نحو: جاء زيد قراءة للعلم وقتالا للكفار (4)، والظاهر عدم اشتراط ذلك. -
(1) ينظر: الكتاب (1/ 389).
(2)
التذييل (3/ 258).
(3)
ينظر: التذييل (3/ 260)، والهمع (1/ 194).
(4)
الذي اشترط ذلك هو السهيلي، وهذا الشرط أحد شروط ثلاثة اشترطها في المفعول له - يقول:
ولذلك لا يكون المفعول من أجله منصوبا حتى يجتمع فيه ثلاثة شروط: -
الأول: أن يكون مصدرا.
والثاني: أن لا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة.
والثالث: أن يكون من فعل الفاعل المتقدم ذكره. اه.
نتائج الفكر للسهيلي (ص 395).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الرابع:
قد عرفت قول المصنف: وينصبه مفهم الحدث المصاحب في الأصل حرف جر، وهو كلام حسن، قال الشيخ: وهو مذهب سيبويه (1)، والفارسي (2)، وهو الأصح بدليلين: -
أحدهما: أنك إذا أضمرته وصل الفعل إليه باللام نحو: ابتغاء ثواب الله هو الذي تصدقت له، فدل الوصول إليه باللام على أن الأصل أن يصل إلى الظاهر باللام؛ لأن المضمرات كثيرا ترد الأشياء إلى أصولها.
والثاني: ما ذكره سيبويه والفارسي من أنه في جواب: لمه؟ والجواب أبدا على حسب السؤال في مختار كلامهم، فأصل جواب من يقول: لم ضربت زيدا؟ أن يكون: ضربته للتأديب، إلا أن اللام أسقطت ونصب لشبهه بالمصدر؛ لأن معنى:
ضربت زيدا تأديبا، أدبت زيدا بضربي له تأديبا، فانتصب لذلك، إذ الفعل قد يعدى تعدية الفعل الذي في معناه، ولذلك إذا اختل شرط تعدي إليه بحرف العلة (3). انتهى.
ولما كان انتصابه إنما هو على الوجه الذي ذكره - أتبع المصنف كلامه الأول بقوله: (لا نصب نوع المصدر؛ خلافا
لبعضهم). فأشار بذلك إلى ما يقال: إنه مذهب الكوفيين من أن المفعول له ينتصب انتصاب المصادر، وقيل: إنهم لم يترجموا له لذلك، وقال بعض البصريين بذلك، والمشهور أنه الزجاج (4)، ولكن قد أنكر المصنف ثبوت ذلك عنه كما تقدم؛ ولهذا نسب ذلك في متن الكتاب إلى بعضهم، وهذا المذهب ليس بصحيح، والدليل على بطلان نصبه على المصدر، أنه لو كان كذلك لجاز أن يقام مقام الفاعل، وهو ممتنع بالإجماع.
الخامس:
يجوز تقديم المفعول له على عامله إن لم يكن فيه مانع، قال الشاعر (5): -
(1) ينظر: الكتاب (1/ 367 - 370، 390)، (3/ 126).
(2)
ينظر: الإيضاح للفارسي (ص 197).
(3)
التذييل (3/ 261).
(4)
ينظر: التذييل (3/ 261)، والهمع (1/ 194، 195)، وشرح الكافية للرضي (1/ 192)، وحاشية الخضري (1/ 194).
(5)
هو الكميت، وهذا البيت مطلع قصيدة يمدح فيها أهل البيت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
1502 -
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب (1)
[2/ 397] ولا يجوز أن يكون لعامل واحد منصوبان كل منهما مفعول له، إلا أن يجعل أحدهما بدلا من الآخر (2)، وقوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3)، تَذْكِرَةً منصوب بإضمار فعل تقديره: إلا أنزلناه تذكرة (4). وذهب الجرمي والرياشي (5) إلى أن المفعول له لا يكون إلا نكرة (6)، وهو مذهب مردود لا ينبغي التشاغل بمثله. وفي شرح الشيخ: اشتركت كي وحتّى في أحد معانيها في أنهما للتعليل، تقول: أسلمت كي أدخل الجنة (7)، ومع ذلك -
(1) صدر بيت من الطويل، وعجزه:
ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
والبيت في: الخصائص (2/ 281)، والمحتسب (1/ 50)، والتذييل (3/ 272)، وشرح الهاشميات (ص 36)، وشرح التسهيل للمرادي، والأمالي الشجرية (1/ 267)، والمغني (1/ 14)، وشرح شواهده للسيوطي (1/ 34)، والهمع (1/ 195)، (2/ 69)، والدرر (1/ 167)، (2/ 85)،
وحاشية الخضري على شرح ابن عقيل (1/ 194)، والمطالع السعيدة (ص 308).
والشاهد قوله: «شوقا» ؛ حيث جاء مفعولا له مقدما على عامله.
(2)
في المطالع السعيدة (ص 308): «ولا يجوز تعدد المفعول له منصوبا كان أو مجرورا، ومن ثم منع في قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة: 231]- تعلق لِتَعْتَدُوا ب تُمْسِكُوهُنَّ على جعل ضِراراً مفعولا له، وإنما يتعلق به على جعل ضِراراً حالا» . اه. وينظر: الهمع (1/ 195).
ومن ثم فعبارة الشارح هنا: «إلا أن يجعل أحدهما بدلا من الآخر» ليس فيها إشارة إلى مثل هذا الوجه، فكان يجب عليه أن يتبع عبارته بقوله:«أو حالا» .
(3)
سورة طه: 2، 3.
(4)
في إملاء ما منّ به الرحمن (2/ 118) ذكر أبو البقاء في «تذكرة» إعرابا آخر أيضا، فقال:«قوله تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً هو استثناء منقطع، أي لكن ذكرنا به تذكرة، ولا يجوز أن يكون مفعولا له لأنزلنا المذكورة؛ لأنها قد تعدت إلى مفعول له، وهو لِتَشْقى فلا يتعدى إلى آخر من جنسه، ولا يصح أن يعمل فيها لِتَشْقى لفساد المعنى، وقيل: تَذْكِرَةً مصدر في موضع الحال» . اه.
(5)
هو العباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي اللغوي النحوي، قرأ عليه المازني اللغة، وقرأ هو على المازني النحو، وأخذ عن المبرد وابن دريد، صنف كتاب الخيل، وكتاب الإبل، وما اختلف اسماؤه من كلام العرب، وغير ذلك. توفي مقتولا على يد الزنج بالبصرة سنة 257 هـ.
أخبار النحويين البصريين (ص 68 - 70)، والبغية (2/ 27)، تحقيق محمد أبو الفضل.
(6)
وهو رأي المبرد أيضا كما في: التذييل (3/ 272)، والهمع (1/ 194).
(7)
زاد في (ب): (وأسلمت حتى أدخل الجنة) وهو الموافق لعبارة أبي حيان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يجوز في: كي وما بعدها أن يكونا مفعولا له، ولا يجوز ذلك في حتى، وإنما جاز ذلك في كي؛ لأن لها محملين في لسان العرب.
أحدهما: أن تكون حرف جر، فيكون النصب بإضمار «أن» بعدها، وهي في هذه الحال لا تكون مفعولا له.
والثاني: أن تكون حرف نصب؛ فتكون مصدرية كأن، فتكون في هذه الحالة مفعولا له، وأما حتى فلا تنصب بنفسها إنما تنصب بإضمار «أن» بعدها، فهي حرف جر، وإذا كانت حرف جر لم ينسبك منها ومن الذي بعدها مصدر؛ إنما ينسبك من «أن» المضمرة بعد حتى، ومن الفعل المنصوب بأن المضمرة، ولا يكون مفعولا له إلا ما كان مصدرا، أو مقدرا به بالشروط التي تقدمت (1).
* * *
(1) التذييل (2/ 272).