الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث والعشرون باب الواقع مفعولا مطلقا من مصدر وما يجري مجراه
[تعريف المصدر - وأسماؤه وأصالته]
قال ابن مالك: (المصدر اسم دالّ بالأصالة على معنى قائم بفاعل، أو صادر عنه، حقيقة أو مجازا، أو واقع على مفعول، وقد يسمّى فعلا وحدثا وحدثانا، وهو أصل الفعل لا فرعه خلافا للكوفيّين، وكذا الصّفة خلافا لبعض أصحابنا).
قال ناظر الجيش: لم يذكر المصنف حد المفعول المطلق، مع أن هذا الباب إنما هو معقود له، بل عدل إلى ذكر حد المصدر الذي إذا نصب بما سنذكره كان مفعولا مطلقا، ولا شك أن المفعول المطلق أخص من المصدر، ولا يلزم من تعريف الأعم تعريف الأخص (1). وأصح حدود المفعول المطلق ما ذكره ابن الحاجب رحمه الله تعالى، فقال:«هو اسم ما فعله فاعل فعل مذكور بمعناه» (2) فاحترز بقوله: اسم ما فعله فاعل، عن اسم ما لم يفعله فاعل، وهو ظاهر، وبقوله: مذكور من نحو:
أعجبني القيام، فإن القيام اسم ما فعله فاعل، ولكنه ليس فاعلا لفعل مذكور، وبقوله: بمعناه من نحو: كرهت قيامي، فإنه اسم ما فعله فعل مذكور؛ لأن القيام [2/ 358] اسم لما فعله المتكلم وهو فاعل الفعل المذكور، فلما قيل بمعناه وجعل وصفا للفعل خرج: كرهت قيامي؛ لأن كرهت ليس بمعنى قيامي، قال: وقلت ها هنا: اسم ولم أذكر لفظ اسم في غيره من الحدود؛ لأنني لو لم أذكره لورد على الحد ضربت؛ فإنه شيء فعله فاعل فعل مذكور غدا، وقد أورد على هذا ضرب ضرب شديد؛ فإنه اسم لما فعله فاعل فعل مذكور بمعناه ولفظه، فيجب أن يدخل في الحد، وإذا دخل في الحد فيجب أن ينصب؛ لأنه إنما حدّ ليعرف فينصب، كما أن الفاعل إنما حدّ ليعرف فيرفع، وهو غير وارد؛ لأنه عندنا داخل في الحد.
ولا شك أن ذكرنا تعريفه هنا لينتصب، ولكن بعد أن عرفنا أنّ منه قسما يجب -
(1) ينظر: شرح الألفية للمرادي (2/ 5)، وشرح الأشموني (2/ 109).
(2)
شرح ابن الحاجب على كافيته (ص 388) المسمى بشرح المقدمة الكافية: تحقيق د/ جمال مخيمر رحمه الله (مكتبة نزار الباز)، وشرح الكافية للرضي (1/ 113).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
رفعه، وهو إذا قصد إقامته مقام الفاعل وجعله أحد الجزأين، فإذا حصل الإعلام بذلك ثم حد المفعول المطلق باعتبار ما هو مفعول مطلق، فيجب دخول المرفوع في الحد وإن كان الغرض من حدّه تعريف نصبه؛ لأن ما تقدم يفيد تخصيصه؛ لأنه خاص، وقد ذكر أن حكمه الرفع فكأنه قيل هاهنا: ينصب هذا المحدود في غير المحل الخاص الذي عرفنا أن رفعه واجب فيما تقدم، واستغني عن ذكره ها هنا؛ لأنّ ذكره راجع إلى تكرير محض لا فائدة فيه زائدة؛ لأنا لو ذكرناه ذكرنا عين ما تقدم، فتبين أنه لا حاجة إلى الاحتراز منه، ولزم وجوب أنه لو ذكر كان خطأ، ألا ترى أنه يكون مخرجا من حد المفعول المطلق، وقد قلنا: إن المفعول المطلق نفسه يرتفع إذا أقيم مقام الفاعل، فيصير حاصل الأمرين هو مفعول مطلق، وليس بمفعول مطلق من جهة واحدة، وهذا ظاهر الفساد غير خاف بالنظر المستقيم (1). وهو كلام يشهد لصاحبه بأنه في الرتبة العليا من التحقيق.
ثم ليعلم أن المفعول المطلق هو المفعول حقيقة؛ لأنه هو الذي يحدثه الفاعل (2)، أما المفعول به فهو محل الفعل خاصة، والزمان وقت يقع فيه الفعل، والمكان محل الفاعل والمفعول، ويلزم من ذلك أن يكون محلّا للفعل والمفعول لأجله علة لوجود الفعل، والمفعول معه مصاحب للفاعل أو للمفعول (3)؛ وإذا قد عرفت هذا فلنرجع إلى مقصود الكتاب، فنقول: أفادت ترجمة الباب أن الذي ينصب مفعولا مطلقا هو المصدر، وما ينوب منابه، وإلى ذلك أشار بقوله:(وما يجري مجراه)، وقد ذكر في الباب ما يقوم مقام المصدر كما ستعرفه، وقد حد المصدر بقوله:(المصدر اسم دال) إلى آخره، فتقييد الدلالة بالأصالة مخرج لأسماء المصادر، وهي عبارة عن كل اسم يساوي المصدر في الدلالة، ويخالفه بعلميّة كجماد حماد (4)، أو بتجرده لفظا وتقديرا دون عوض من زيادة في فعله كاغتسل غسلا، وتوضأ وضوءا، -
(1) شرح ابن الحاجب على كافيته (ص 388، 389) تحقيق د. جمال مخيمر رحمه الله.
(2)
ينظر شرح الكافية للرضي (1/ 113)، وشرح المفصل لابن يعيش (1/ 110)، وشذور الذهب (ص 283)، والمباحث الكاملية (ص 425).
(3)
ينظر: المطالع السعيدة للسيوطي (ص 298)، والهمع (1/ 186).
(4)
في (ب): (حاد) وهو خطأ. والجماد: البخيل في اللسان (جمد - حمد) يقال للبخيل:
جماد له أي لا زال جامد الحال، وهو نقيض حماد في المدح. اه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فهذه وأمثالها إذا عبر عنها بمصادر، فإنما ذلك مجاز، والحقيقة أن يعبر [2/ 359] عنها بأسماء المصادر (1)، واحترز بقوله: دون عوض من نحو: عدة وتعليم، فإنهما مصدران مع خلو «عدة» من واو «وعد» وخلو «تعليم» من تضعيف العين، فهاء «عدة» عوض من الواو، وياء «تعليم» عوض من التضعيف، وأشار بقوله: لفظا وتقديرا إلى أن بعض ما في الفعل قد يخلو لفظ المصدر منه، ويكون مقدرا، فلا يضرّ زواله من اللفظ، كقتال مصدر قاتل (2)، فإن أصله: قيتال كما سيأتي الكلام على ذلك في باب إعمال المصدر - إن شاء الله تعالى - والدال على معنى قائم بفاعل كحسن وفهم، والدال على معنى صادر عن فاعل كخط وخياطة، وقيام الحسن والفهم بالفاعل حقيقة، وكذا صدور الخط والخياطة من فاعلهما بخلاف نسبة العدم للمعدوم، والموت إلى الميت؛ فإنهما مجاز، والواقع على مفعول مصدر، وما لم يسم فاعله نحو: ضرب زيد ضربا، والمراد بالفاعل هنا الاصطلاحي، وكذا المفعول. فبهذا يعم الحد مصدر كل فعل، وإطلاق المصدر على ما تناوله الحد إطلاق متفق عليه، وقد يعبر عنه بالفاعل الحدث والحدثان (3)، وهو من التعبير عن الشيء بلفظ مدلوله (4). هذا كلام المصنف (5)، والظاهر أن قوله:(حقيقة أو مجازا) تقسيم لما هو صادر عن الفاعل خاصة، لا إلى المعنى القائم بالفاعل.
ثم هاهنا بحثان:
الأول:
قد تبين من تقرير المصنف أن اسم المصدر موافق للمصدر في الدلالة على شيء واحد لا فرق بينهما بالنسبة إلى ما دلّا عليه من المعنى إلا في أمرين:
أحدهما: أن دلالة المصدر بالأصالة بخلاف دلالة اسم المصدر، وكأنه يريد بالأصالة أن الكلمة موضوعة لذلك المعنى، وهذا بخلاف دلالة اسم المصدر؛ فكأن -
(1) ينظر: التذييل (3/ 173).
(2)
ينظر: الأشموني بحاشية الصبان (2/ 287)، وشرح الألفية للمرادي (3/ 10).
(3)
ينظر: شرح المفصل لابن يعيش (1/ 110).
(4)
التعبير عن المصدر بالحدث والحدثان هو مذهب سيبويه، يقول:«وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء» اه. الكتاب (1/ 12)
وينظر: المرجع السابق.
(5)
شرح التسهيل لابن مالك (2/ 187) تحقيق د/ محمد بدوي المختون، د/ عبد الرحمن السيد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
دلالة على ذلك نائبة عن دلالة المصدر (1)، ويحتاج تحقيق ذلك إلى نظر.
ثانيهما: أن اسم المصدر يخالف المصدر إما بعلمية، وإما بالتجرد الذي ذكره (2)، وقد فرق بين المصدر واسم المصدر بغير ما ذكره المصنف، فقيل: إن المصدر في الحقيقة هو الفعل الصادر عن الإنسان وغيره، كقولنا: إن ضربا مصدر في قولنا:
يعجبني ضرب زيد عمرا، فيكون مدلوله معنى، وسموا ما يعبر عنه مصدرا مجازا نحو ضرب في قولنا: إن ضربا مصدر منصوب إذا قلنا: ضربت ضربا، فيكون مسماه لفظا واسم المصدر اسم للمعنى الصادر عن الإنسان وغيره كسبحان المسمى بالتسبيح الذي هو صادر عن المسبح، لا لفظ (ت س ب ي ح) بل المعنى المعبر عنه بهذه الأحرف، ومعناه: البراءة والتنزيه (3)، واستؤنس لهذا القول بقول الزمخشري:
وقد أجروا المعاني في ذلك مجرى الأعيان، فسموا التسبيح بسبحان (4).
فنص على أن المسمى هنا معنى لا لفظ، وقال ابن يعيش: اسم المصدر مسماه لفظ نحو: سبحان، عبارة عن التسبيح، وقيل: إن المصدر يدل بالوضع، واسم المصدر وهو الذي لا يكون بصيغ المصدر [2/ 360] المستعملة، يوضع موضع المصدر في بعض المواضع، فيستفاد منه ما يستفاد من المصدر، لكن لا بالوضع بل بالاستعمال كما يوضع المصدر في موضع اسم الفاعل واسم المفعول (5). انتهى.
قلت: وبهذا يشعر كلام المصنف حيث قال إنه احترز بقوله: دال بالأصالة عن اسم المصدر.
البحث الثاني:
إن قول المصنف: أو واقع على مفعول؛ غير محتاج إليه؛ لأنه إذا قيل: ضرب -
(1) ينظر حاشية الخضري على شرح ابن عقيل (1/ 186).
(2)
ينظر في الفرق بين المصدر واسم المصدر: التصريح (1/ 325)، وشرح الألفية لابن الناظم (ص 160)، وشرح الألفية للمرادي (3/ 10).
(3)
هذا النص الذي ذكره الشارح وفرق به بين المصدر واسم المصدر ذكره السيوطي في الأشباه والنظائر (2/ 176) منسوبا إلى بهاء الدين بن النحاس. وينظر أيضا: المباحث الكاملية (ص 26).
(4)
المفصل للزمخشري (ص 10) وينظر: شرح المفصل لابن يعيش (1/ 37).
(5)
ينظر: شرح المفصل لابن يعيش (1/ 37) بالمعنى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيد ضربا صدق على «ضربا» أنه دال على معنى صادر عن فاعل، وكذا إذا قيل:
فهمت المسألة فهما، صدق أن «فهما» دال على معنى قائم بفاعل، إلا أن تريد أن ذلك الفاعل يكون مذكورا، وأن المفعول يكون مذكورا أيضا كما يشعر بذلك قوله:
والمراد بالفاعل هنا الاصطلاحي، وكذلك المفعول، فربما يحتاج إلى ذكر ذلك.
ثم قال المصنف (1): واتفق البصريون والكوفيون على أن الفعل والمصدر مشتق أحدهما من الآخر، لكن البصريين جعلوا الأصالة للمصدر، وجعلها الكوفيون للفعل، والصحيح مذهب البصريين (2)، ويدل على صحته ستة أمور:
أحدها: أن المصدر يكثر كونه واحدا لأفعال ثلاثة: ماض ومضارع وأمر، فلو اشتق المصدر من الفعل لم يخل من أن يشتق من الثلاثة أو من بعضها؛ فاشتقاقه من الثلاثة محال، واشتقاقه من واحد منها يستلزم ترجيحا دون مرجح، فتعين اطّراح ما أفضى إلى ذلك.
الثاني: أن المصدر معناه مفرد، ومعنى الفعل مركب من حدث وزمان، والمفرد سابق المركب، فالدال عليه أولى بالأصالة.
الثالث: أن مفهوم المصدر عام ومفهوم الفعل خاص، والدال على عام أولى بالأصالة من الدال على خاص.
الرابع: أن كل ما سوى الفعل والمصدر من شيئين: أحدهما أصل والآخر فرع؛ فإن في الفرع منهما معنى الأصل وزيادة كالتثنية والجمع بالنسبة إلى الواحد، وكالعدد المعدول بالنسبة إلى المعدول عنه، والفعل فيه معنى المصدر وزيادة تعين الزمان، فكان فرعا والمصدر أصل.
الخامس: أن من المصادر ما لا فعل له لفظا ولا تقديرا، وذلك نحو: ويح وويل، وويش وويب. فلو كان الفعل أصلا لكانت هذه المصادر فروعا لا أصول لها، وذلك محال، وإنما قلنا: إن هذه المصادر لا أفعال لها تقديرا؛ لأنها لو صيغ من بعضها فعل لاستحق فاؤه في المضارع من الحذف ما يستحق فاء «يعد» -
(1) شرح التسهيل لابن مالك (2/ 178).
(2)
ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف (1/ 235) وما بعدها، وشرح المفصل لابن يعيش (1/ 110)، وشرح الألفية للمرادي (2/ 76)، وشرح الألفية لابن الناظم (ص 102)، واللمع لابن جني (ص 131)، والمباحث الكاملية (ص 661).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولاستحق عينه من السكون ما استحق عين «تبيع» فيتوالى إعلال الفاء والعين، وذلك مرفوض في كلامهم، فوجب إهمال ما يؤدي إليه، وليس في الأفعال ما لا مصدر له مستعمل إلا وتقديره ممكن كتبارك وفعل التعجب، إذ لا مانع في اللفظ، ويقابل تلك الأفعال مصادر كثيرة تزيد على الأفعال كالأبوة [2/ 361] والبنوة والخؤولة والعمومة والعبودية واللصوصية وقعدك الله، وبله زيد وبهله، فبطلت المعارضة بتبارك ونحوه، وخلص الاستدلال بويح وأخواته، ولا حجة للكوفيين في أن المصدر يتبع الفعل في صحته وإعلاله نحو: لاوذ لواذا، ولاذ لياذا؛ لأن الشيئين قد يحمل أحدهما على الآخر وليس أحدهما أصلا للآخر كحمل يرضيان على رضيا، وأعطيا على يعطيان.
والأصل: يرضوان وأعطوا؛ لأنّ حكم الواو بين فتحة وألف التصحيح؛ لكن حمل ذو الفتحة على ذي الكسرة ليجريا على سنن واحد، فكذلك فعل بالمصدرين من لاوذ ولاذ، ولا حجة أيضا في توكيد الفعل بالمصدر؛ لأن الشيء قد يؤكد بنفسه نحو:
زيد قام قام. فلو دل التوكيد على فرعية المؤكّد لزم كون الشيء فرع نفسه، وذلك محال، ولا حجة أيضا في إعمال الفعل في المصدر؛ لأن الحرف يعمل في الاسم والفعل ولا حظ له في الأصالة، وببعض ما استدللنا على فرعية الفعل بالنسبة إلى المصدر يستدل على فرعية الصفة بالنسبة إليه، لأن كل صفة تضمنت حروف الفعل فيها ما في المصدر من الدلالة على الحدث، وتزيد بالدلالة على ما هي له كما زاد الفعل بالدلالة على الزمان المعين؛ فيجب كون الصفة مشتقة من المصدر لا من الفعل، إذ ليس فيها ما في الفعل من الدلالة على الزمان المعين (1). انتهى كلام المصنف (2).
وذكر الشيخ أن ابن طلحة ذهب إلى أن المصدر والفعل كل منهما أصل، وليس أحدهما مشتقّا من الآخر، وكأن ابن طلحة (3) نزع في هذه المسألة إلى مذهب من -
(1) ينظر في هذه الأدلة التي استدل بها المصنف على صحة مذهب البصريين: الإنصاف (1/ 235 - 241)، والهمع (1/ 186) وشرح الألفية لابن الناظم (ص 102، 103)، والأشموني (2/ 112)، والتذييل (3/ 175) وشرح المفصل.
(2)
شرح التسهيل لابن مالك (1/ 180).
(3)
هو محمد بن طلحة بن محمد بن عبد الملك بن خلف بن أحمد الأموي الإشبيلى، أبو بكر المعروف بابن طلحة، كان إماما في صناعة العربية نظارا عارفا بعلم الكلام وغير ذلك، تأدب بالأستاذ أبي إسحاق بن ملكون، وزعيم وقته بإقراء الكتاب جابر بن محمد بن ناصر الحضرمي،
وأبي بكر بن صاف، وأخذ عنه القراءات، وأجاز له هو وأبو بكر بن مالك الشريش وجماعة.
توفي سنة 618 هـ، بغية الوعاة (1/ 121، 122) تحقيق محمد أبو الفضل.