الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس والعشرون باب المفعول المسمّى ظرفا ومفعولا فيه
[تعريف الظرف - نوعاه]
قال ابن مالك: (وهو ما ضمّن - من اسم وقت أو مكان - معنى «في» باطّراد لواقع فيه مذكور أو مقدّر ناصب له).
قال ناظر الجيش: قال المصنف (1): ما ضمن معنى في يتناول الحال والظرف، ونحو السهل والجبل من قول العرب: مطرنا السّهل والجبل (2)، فخرج الحال بقولي: من اسم وقت أو مكان، وخرج السهل والجبل ونحوهما بقولي: باطراد، فإنه لا يقاس عليهما، إذ لا يقال: مطرنا القيعان والتّلول، ولا أخصبنا السهل والجبل، بل يقتصر على ما سمع، ولا يزاد عليه إلا ما يحصل بسماع ممن يوثق به بخلاف المنصوب على الظرفية نحو: جلست أمامك، فإنه مطّرد لجواز أن يخلف فيه الفعل والاسم غيرهما (3) ولا يتناول أيضا قولي: ما ضمن معنى «في» ما نصب بدخل من مكان مختص، وخرج بذكر الاطراد، فإن المطرد لا يختص بعامل دون عامل، ولا باستعمال دون استعمال، فلو كان نصب المكان المختص بدخل على الظرفية لم ينفرد به «دخل» ، بل كان يقال: مكثت البيت، كما يقال:
دخلت البيت، وكان يقال: زيد البيت، فينتصب بمقدر كما يفعل بما تحققت ظرفيته، لأن كل ما ينتصب على الظرفية بعامل ظاهر، يجوز وقوعه خبرا، فينصب بعامل مقدر (4)؛ ولذا قال سيبويه - بعد أن مثل بقلب زيد الظّهر والبطن، ودخلت البيت، وليس المنتصب هنا بمنزلة الظروف؛ لأنك لو قلت:[2/ 398] هو ظهره وبطنه، وأنت تريد مشى على ظهره وبطنه، لم يجز (5). هذا نصه.
وقد غفل عن هذا الموضع الشلوبين مع اعتنائه بجمع متفرقات الكتاب، وتبين -
(1) شرح التسهيل لابن مالك (2/ 200) تحقيق د/ عبد الرحمن السيد، ود/ محمد بدوي المختون.
(2)
ذكر سيبويه هذا القول في الباب الذي عنون له بقوله: هذا باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول، ويجري على الاسم كما يجري أجمعون على الاسم، وينصب بالفعل لأنه مفعول. اه.
الكتاب (1/ 158). وعلى هذا فهو يجيز فيه الرفع على البدل والنصب. اه.
(3)
ينظر: المطالع السعيدة (ص 309)، والهمع (1/ 195).
(4)
ينظر: التذييل (3/ 273).
(5)
الكتاب (1/ 159).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بعضها ببعض (1)، ونبهت بقولي: لواقع فيه ناصب له مذكور أو مقدر؛ على أن الظرف منصوب بما دل على المعنى الواقع فيه، وأن الدال على الواقع فيه، قد يكون مقدرا كما يكون مذكورا؛ فالمذكور غير ظاهر، والمقدر كالعامل فيما وقع خبرا، كزيد عندك (2). انتهى.
وفيه أبحاث:
الأول:
ناقش الشيخ المصنف في قوله: (ضمن)؛ قال: لأن مفهوم كلامه أن اسمي كل من الزمان والمكان يدل على معنى «في» بالتضمن، ولو كان كذلك لوجب بناء الاسم كما في أسماء الشرط والاستفهام (3)، وهذا الذي ذكره الشيخ ما زالت الطلبة تلهج به ويستشكلون قوله في الألفية:
الظرف وقت أو مكان ضمنا
…
في باطراد كهنا امكث أزمنا
والذي يظهر أن يقال: إن أسماء الشرط وأسماء الاستفهام مثلا حال وضعها ضمنت معنى الحرف؛ فالتضمين حاصل لها قبل التركيب، وأما الاسم المستعمل ظرفا، فإنما تضمن معنى «في» بعد التركيب، أعني بعد استعماله ظرفا (4)، وإذا -
(1) اعترض أبو حيان على قول المصنف هنا (ابن مالك): «وقد غفل عن هذا الموضع الشلوبين» ورد هذا القول على المصنف ردّا عنيفا، فقال: وقوله: «وقد غفل عن هذا الموضع الشلوبين» لم يغفل عنه الأستاذ أبو علي كما زعم المصنف، بل رأى أنه لا حجة فيه، وقوله:«وهذا عجيب من الشلوبين مع اعتنائه بجمع متفرقات الكتاب وتبين بعضها ببعض» ، ليس ذلك بعجيب، بل العجيب غفلة المصنف عن نص سيبويه أن دخلت البيت مثل ذهبت الشام في الشذوذ، وأما قوله:«مع اعتنائه بجمع متفرقات الكتاب» ، فإن الاعتناء بذلك هو الذي لم يجعله يقول بقول المصنف، ويغتر بما لا دليل فيه، ويترك النص الذي لا يحتمل تأويلا.
ولم يكتف أبو حيان بذلك بل تطاول على المصنف حين قال: وأين المصنف من رجل يقال: إنه ختم كتاب سيبويه بحثا ونظرا نحوا من ستين مرة، وأقرأ نحوا من ستين سنة، ورحل إليه الناس من أقطار الأرض، ولم يكن في عصره، بل في أعصار قديمة قبل عصره مثله رحمه الله. اه. التذييل (3/ 278).
وسوف يتناول الشارح هذه المسألة فيما سيأتي من أبحاثه.
(2)
شرح التسهيل للمصنف (2/ 201).
(3)
التذييل (3/ 274).
(4)
ذكر الشيخ يس هذا الاعتراض في حاشيته على التصريح (1/ 337) فقال: «قوله: ما ضمن معنى في» قال اللقاني: «إن قلت: هذا يقتضي بناءه لتضمنه معنى الحرف، قلت: المقتضي للبناء تضمنه إياه وضعا، وهذا عارض عند التركيب والاستعمال» اه. -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كان كذلك فإنما تضمن الظرف معنى الحرف بانضمام العامل فيه إليه، فكأن الذي تضمن معنى «في» حينئذ إنما هو مجموع الكلمتين لا الظرف وحده، ومما يدل على ذلك أنه لا ينسب إلى الاسم المتضمن المذكور، حتى يكون ظرفا، أي منصوبا، ولا يكون منصوبا إلا بانضمام عامله إليه، وفي ظني أن هذا الذي قررته يستفاد من قول المصنف:(لواقع فيه)؛ ذلك أن اللام لا بد لها من متعلق، فهي إما أن تتعلق بمحذوف على أنها مع مدخولها صفة لقوله:(اسم وقت أو مكان) وهو بعيد، إذ لا فائدة لهذا الكلام، فتعين أن تتعلق بقوله:(ضمن)، واللام للتعليل؛ فيصير معنى كلامه بأنه ضمن معنى «في» من أجل الواقع فيه، والواقع فيه هو العامل؛ فكأن التضمين إنما حصل بانضمام العامل إليه، وإذا كان الأمر كما قرر، اندفع اعتراض المعترض بأن الظرف لو كان متضمنا معنى «في» للزم بناؤه. وهذا الذي قررته في الظرف يتقرر بعينه في الحال، فإن المصنف قد قال: إن قوله: ما ضمن معنى «في» يتناول الحال، ولا شك أن الاسم الذي هو الحال إنما يتضمن معنى «في» حالة التركيب، أي حالة استعماله حالا، فالحال إنما تضمنت معنى «في» بانضمام أمر آخر إليها، وإذا كان كذلك، فإنما ينسب التضمن إلى مجموع الكلمتين، ومما يدل على أن المصنف لم يرد بالتضمين ما فهمه من اعترض عليه (1) من أنه أراد به ما يراد بالتضمن المعروف في أسماء الشرط والاستفهام، أنه قال في الكافية له:[2/ 399]
مكان او وقت حوى معنى في
…
ظرف كرح غدا مع الأشراف
فعبر بحوى، ولم يعبر بالتضمن، فعلم أنه لم يقصد معناه، وقال في شرح هذا:
المفعول فيه: ما نصب من اسم زمان أو مكان مقارن لمعنى في دون لفظها (2). فعبر بالمقارنة أيضا، وهذا يدل على عدم إرادة التضمن المصطلح عليه قطعا؛ وإذ قد عرفت أن المصنف قد عدل في غير هذا الكتاب عن لفظ «ضمن» إلى لفظ حوى أو قارن، فاعلم أن غيره يعبر بالتقدير أيضا فيقول: نصب الظرف على تقدير «في» (3). -
- وهذا ما أجاب به ناظر الجيش هنا عن اعتراض أبي حيان.
(1)
أي: أبو حيان.
(2)
الكافية الشافية لابن مالك (2/ 675) تحقيق د/ عبد المنعم هريدي.
(3)
هذا كلام ابن الحاجب، وهو في شرح الكافية للرضي (1/ 183).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ونكث عنه المصنف معللا ذلك بأن تقدير «في» يوهم جواز استعمال لفظ «في» مع كل ظرف، وليس الأمر كذلك؛ لأن من الظروف ما لا يدخل عليه «في» كعند ومع، وكلها مقارن لمعناها ما دام ظرفا؛ فكان ذكر المقارنة أجود (1). انتهى.
وقال الشيخ: لا يلزم من تقدير «في» جواز دخولها والتلفظ بها، وكم من مقدر لا يلفظ به نحو الفاعل في اضرب، ونحو الفعل الناصب للمنادى (2). انتهى.
والفرق ظاهر؛ فإن ما ذكره وضعه على أن لا يلفظ به، وأما الظرف فليس وضعه على أن لا تذكر «في» معه؛ إذ يجوز في «جلست اليوم» أن يقال:
جلست في اليوم، فلما كان الحرف المقدر مع الظرف قد يظهر وإن كانت الكلمة تخرج عند ذكره عن أن تكون ظرفا صناعيّا.
قال المصنف: لو قلت بتقدير «في» لأوهم ذلك أنه يجوز ظهورها كما في سائر الظروف، ثم إن المصنف جعل ذلك، أعني كون الاسم ضمّن معنى «في» أو حواه أو قارنه جزءا من أجزاء الحد، ولو جاز أن يذكر التقدير لجعله أيضا جزءا.
وأما غيره (3) فلم يدخل ذلك في الحد، وإنما قال بعد أن حد المفعول فيه بأنه: ما فعل فيه فعل مذكور، قال: وشرط نصبه تقدير «في» (4)؛ فجعل تقدير في شرطا، وكان هذا أولى، واحترز في الحد بقوله:(مذكور) من نحو يوم الجمعة حسن، قال: فإنه مما يفعل فيه الفعل، ولكنه لم يفعل فيه فعل مذكور (5).
البحث الثاني:
قد عرفت أن المنتصب بعد «دخل» من الأمكنة المختصة ليس منصوبا على الظرف عند المصنف، لكنه لم يصرح بجهة نصبه، وقد قال في شرح الكافية بعد أن ذكر أن المكان المختص لا يتعدى إليه فعل، يعني أنه لا ينصبه على الظرفية إلا نادرا:
فإن كان الفعل المتعلق بالمكان المختص «دخل» جاز أن يتعدى إليه بنفسه لا على أنه ظرف له، بل على أنه مفعول به متعدى إليه بحرف جر، ثم حذف (الجر)(6) -
(1) هذا كلام المصنف أيضا في الكافية الشافية (2/ 675).
(2)
التذييل (3/ 274).
(3)
هو ابن الحاجب.
(4)
هذا كلام ابن الحاجب في شرح الكافية للرضي (1/ 183).
(5)
المرجع السابق نفسه.
(6)
في (ب): (الحرف).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تخفيفا لكثرة الاستعمال، فوقع الفعل عليه ونصبه كما يتفق لغيره، ثم قال:
ولا يجوز الحكم على «دخل» بأنه متعدّ بنفسه إلى المكان المختص؛ لأنه لو تعدى بنفسه إلى المكان على أنه مفعول به لتعدى بنفسه إلى غير المكان، ولم يحتج معه إلى حرف الجر في [2/ 400] نحو قولهم: دخلت في الأمر (1). انتهى.
وأفهم كلامه أن من الناس من يقول: إنه متعد بنفسه، وذكر ابن عصفور أن ذلك هو مذهب الأخفش (2)، ثم رد هذا المذهب بأمور:
1 -
منها: أن دخل نقيض خرج، وخرج غير متعد، قال: والنقيض يجري كثيرا مجرى ما يناقضه.
2 -
ومنها: أن نظير «دخل» عبر وهو غير متعد، قال: والنظير يجري كثيرا مجرى نظيره.
3 -
ومنها: أن مصدره الدخول، والفعول في الغالب مصدر ما لا يتعدى.
4 -
ومنها: أنك إذا قلت: دخلت البيت كان البيت محلّا للدخول والداخل، وهذا شأن الظرف أن يكون محلّا لهما، ولو كان مفعولا به لكان محلّا للفعل خاصة؛ كضربت زيدا، قال: وهذا الدليل قاطع بفساد مذهب الأخفش.
5 -
ومنها: أنهم يقولون: دخلت في الأمر؛ فلا يصل إلى الأمور المعنوية إلا بفي، ثم قال: فلأي شيء لم يقولوا: أدخلت الأمر، كما قالوا: دخلت الدار؟
وأجاب بأن دخلت في الأمر مجاز؛ لأن الدخول إنما يتصور حقيقة في الأجسام، وحذف حرف الجر مجازا، فكرهوا التجوز بعد التجوز (3) انتهى.
وقد ثبت أن المذاهب في دخل من نحو: دخلت البيت ثلاثة:
1 -
النصب على الظرف تشبيها للمكان المختص بغير المختص (4). -
(1) شرح الكافية الشافية لابن مالك (2/ 683، 684) تحقيق د/ عبد المنعم هريدي.
(2)
ينظر: شرح الصفار للكتاب. حيث ذكر هذا المذهب للأخفش، وشرح الألفية للمرادي (2/ 91).
(3)
شرح الجمل لابن عصفور (1/ 328، 329) طبعة العراق.
(4)
هذا هو مذهب سيبويه والمحققين. يقول سيبويه: «قال بعضهم: ذهبت الشام يشبهه بالمبهم إذا كان مكانا يقع عليه المكان والمذهب، وهذا شاذ؛ لأنه ليس في ذهب دليل على الشام، وفيه دليل على المذهب والمكان، ومثل ذهبت الشام: دخلت البيت» . اه. الكتاب (1/ 35)، وينظر: التذييل (3/ 275)، -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
2 -
والنصب على أنه متعدّ في الأصل بحرف، ثم حذف الحرف اتساعا، فانتصب على المفعول به كما هو رأي المصنف، قيل: وهو مذهب الفارسي (1).
3 -
والنصب على أنه متعدّ بنفسه، كما هو مذهب الأخفش (2).
واعلم أن الشيخ نازع المصنف فيما فهمه من قول سيبويه بعد أن مثل بقلب زيد الظهر والبطن، ودخلت البيت، وليس المنتصب هنا بمنزلة الظرف إلى آخره، فقال:
لا حجة له في ذلك على أن البيت بعد دخلت ينتصب نصب المفعول به؛ لأن انتصاب الظهر والبطن ليس على تقدير «في» ؛ إنما هو على تقدير «على» والأصل: قلب زيد على ظهره وبطنه؛ ولذلك قال في امتناع أن ينتصب على الظرف: أنك لو قلت: هو ظهره وبطنه، وأنت تريد: مشيا على ظهره وبطنه لم يجز، فجعل المحذوف «على» ولم يجعل المحذوف «في» ؛ لأن حذف «على» ووصول الفعل إلى المجرور بها فتنصبه لا يكون نصبه على الظرف، إنما هو مثل:
مررت زيدا، ولا ينقاس ذلك، قال: وقد نص سيبويه على خلاف ما ادعاه المصنف عليه، قال سيبويه - بعد أن ذكر تعدي الفعل إلى اسم المكان -: وقال بعضهم: ذهبت الشام، فشبهه بالمبهم، إذ كان مكانا، وكان يقع عليه المكان والمذهب، وهذا شاذ؛ لأنه ليس في «ذهب» دليل على الشام: وفيه دليل على المذهب والمكان، ومثل ذهبت الشام: دخلت البيت (3). انتهى.
قال الشيخ: فهذا نص على أن انتصاب البيت بعد دخلت، مثل انتصاب الشام بعد ذهبت [2/ 401] وهما من الأمكنة المختصة، وقد قال: إن من قال: ذهبت الشام، شبهه بالمبهم، وجعل دخلت البيت مثله (4)، ثم قال: وقول المصنف:
وهذا عجيب من الشلوبين، ليس ذلك بعجيب، بل العجيب غفلته هو عن نص -
- وشرح الألفية للمرادي (2/ 90، 91).
(1)
ينظر: الإيضاح للفارسي (ص 171)، والإغفال (849 - 851)، وشرح الصفار للكتاب.
(2)
ذكر أبو حيان في التذييل أن مذهب الأخفش وجماعة في «دخل» : المراد هنا هو أنه يتعدى بنفسه تارة وبحرف الجر تارة أخرى. التذييل (3/ 275).
والذي ذكره الأخفش عن هذا الفعل هو قوله: قالوا: دخلت البيت، وإنما هو: دخلت في البيت. اه.
معاني القرآن للأخفش (107).
(3)
ينظر: الكتاب (1/ 35).
(4)
التذييل (3/ 277، 278).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
سيبويه الذي ذكرناه، ثم قال: وأين المصنف من رجل يقال: إنه ختم عليه كتاب سيبويه بحثا ونظرا نحوا من ستين مرة، ورحل إليه الناس من أقطار الأرض (1)، لم يكن في عصره، بل في أعصار قديمة مثله (2). انتهى.
وأقول: أما الشلوبين فقد بلغ المصنف في تعظيمه ورفعة شأنه وإجلاله الغاية القصوى، حيث وصفه بالاعتناء بجمع متفرقات الكتاب وتبيين بعضها ببعض، فإن هذا يدل على أنه لم يشاركه في ذلك أحد، ولم يسبقه إليه، هذا وقد تقدمه سادات شرحوا الكتاب، ثم لم يثبت المصنف الذي وصف الشلوبين به لأحد غيره، وأما رده على المصنف بكلام سيبويه، فالمصنف إنما استدل على ما ادعاه بكلام سيبويه أيضا، وقول سيبويه: وليس المنتصب هنا بمنزلة الظروف بعد أن ذكر: قلب زيد الظهر والبطن، ودخلت البيت (3) صريح في عوده إلى ما تقدم، والقول بعوده إلى مسألة: قلب زيد الظهر والبطن خاصة، دعوى تخالف الظاهر والإنصاف أن يكون لسيبويه في نحو: دخلت البيت قولان، وكما غفل الشلوبين عن أحد النّصّين، غفل المصنف عن النص الآخر، فسبحان من لا تجوز عليه الغفلة!
وبعد، فقد عرفت بطلان مذهب الأخفش في هذه المسألة (4)، وأما المذهبان الآخران، فالذي يظهر أرجحيته منهما مذهب المصنف، وذلك أن المكان المختص الواقع بعد دخلت، لو كان ينتصب على الظرفية لما جاز تعدي «دخل» إلى ضميره إلا بفي، على القاعدة المعروفة، وهي أنك إذا قلت: سرت يوم الجمعة، ثم قدمت اليوم، وسلطت الفعل على ضميره وجب أن نقول: يوم الجمعة سرت فيه، ولا يجوز: سرته، إلا إن اتسعت في الفعل، وقد عدي دخل إلى ضمير المكان المختصّ دون «في» ، قال الله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (5) وهذا دليل صريح على ما اختاره المصنف.
البحث الثالث:
قال ابن أبي الربيع: لو تعدى الفعل إلى المفعول فيه على حسب ما يطلبه لتعدى -
(1) سبق الحديث عن هذا النزاع بين أبي حيان والمصنف قريبا في هذا الباب.
(2)
التذييل (3/ 278).
(3)
الكتاب (1/ 159).
(4)
ينظر في بطلان مذهب الأخفش شرح الجمل لابن عصفور (1/ 328، 329)، طبعة العراق، وشرح الصفار.
(5)
سورة آل عمران: 97.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إليه بحرف الجرّ، ويجوز ذلك فيه، فتقول: جلست في يوم الجمعة، وركبت في يوم الخميس، ولا يكون حينئذ ظرفا، إنما يكون من قبيل ما يصل الفعل إليه بحرف الجر، ولا يسمي النحويون ظرفا إلا ما انتصب بالفعل على معنى «في» مما يكون زمانا أو مكانا، وإن كان المعنى واحدا، ولما فعل النحويون ذلك وفرقوا بينهما، وجعلوهما بابين، وسموهما باسمين لما فهموا من التفرقة بينهما، قال سيبويه: تقول العرب [2/ 402]: جلست وسط القوم، فتسكن السين ولا تفتحها، وإذا أدخلوا حرف الجر، فقالوا: جلست في وسط القوم، حرّكوا السين، كما يحركونها إذا كانت الكلمة مفعولا بها، أو دخل عليها غير «في» من حروف الجر، أو وقعت على وجه من وجوه الإعراب، ألا تراهم يقولون: ضربته وسطه، وجئت من وسط الدار، ومشيت إلى وسطها، ووسط الدار متسع، وأعجبني وسط هذه الدار، فانظر إلى تحريك السين في وسط إذا دخل عليه «في» ، واستعمالها على حال واحدة في سائر مواضعها، فإذا أسقطوا حرف الجر خالفوا بلفظها وسكنوا سينها (1)، وإنما ذلك والله أعلم؛ لأنها صارت عندهم من قبيل آخر.
البحث الرابع:
لم يتعرض المصنف في هذا الباب إلى ذكر ما يقوم مقام ظرف الزمان، ولا إلى ما يقوم مقام ظرف المكان، فينتصب انتصابهما، وكان الواجب ذكر ذلك كما فعل في باب المفعول المطلق؛ حيث ذكر ما يقوم مقامه، فينتصب انتصابه.
وبعد، فالذي ذكروا أنه يقوم مقام ظرف الزمان أربعة أشياء:
أحدها: صفته نحو: سير عليه طويلا، أي زمانا طويلا، فأقيمت الصفة مقام الموصوف بعد حذفه (2)، قال ابن
عصفور: وجاز في صفة الظرف قيامها مقام الموصوف، وإن لم يكن من قبيل الصفات الخاصة به، ولا من قبيل الصفات المستعملة استعمال الأسماء، كما جاز ذلك في الصفة المنتصبة على الحال لشبه الظرف بالحال، من جهة أنه ينتصب على تقدير في، كما أن الحال ينتصب على -
(1) الكتاب (1/ 411) بالمعنى، وشرح الجمل لابن الضائع.
(2)
ينظر: الكتاب (1/ 227)، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 325).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
معنى في، وجاز ذلك في الحال؛ لأن صاحبها هو الموصوف بها في المعنى، فاستغنت به عن موصوف تجري عليه لذلك (1).
ثانيها: ما أضيفت إلى الظرف بشرط أن يكون المضاف هو اسم الزمان في المعنى أو بعضه نحو: سرت جميع الشهر، أو كل اليوم، وبعض الشهر، وبعض اليوم (2).
ثالثها: ما أضيف إليه اسم الزمان، فيقام المضاف إليه مقامه بعد حذفه، والأكثر أن يكون المضاف إليه مصدرا بشرط أن يفهم تعيينا أو مقدرا نحو: كان ذلك خفوق النجم، أو صلاة العصر، وانتظرته نحر جزورين، وسير عليه ترويحتين (3)، وقلّ كون المضاف إليه اسم عين نحو: لا أفعل ذلك معزى الفزر (4)، ولا أكلم زيدا القارظين، ولا أسالم عمرا هبيرة بن سعد (5).
ومن كلامهم: لأفعلن ذلك الشمس والقمر، ولا أكلم فلانا الفرقدين، فينصبون هذا وأشباهه نصب الظروف، والتقدير: لا أفعل ذلك مدة فرقة غنم الفزر، ومدة مغيب القارظين، ومدة مغيب هبيرة بن سعد، ولأفعلن ذلك مدة بقاء الشمس والقمر، أو مدة طلوعهما، وهذا سبيل التوقيب بالفرقدين وغيرهما.
رابعها: ما شبه بظرف الزمان، وذلك كلمات أذكرها؛ إلا أن استعمال هذا النوع ظرفا موقوف على السماع، والكلمات هى قولهم: حقّا، وغير شك، وجهد رأيي، وظنّا منّي، يقولون: أحقّا [2/ 403] أنك قائم، ومنه قول الشاعر:
1503 -
ألا أبلغ بني جشم رسولا
…
أحقّا أنّ أخطلكم هجاني (6)
-
(1) ينظر: المقرب (1/ 150)، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 325، 335) بالمعنى. والتذييل (3/ 279).
(2)
ينظر: المقرب (1/ 144).
(3)
ينظر: الكتاب (1/ 230).
(4)
الفزر هو لقب سعد بن مناة بن تميم، ولقب بذلك لأنه وافي الموسم بمعزى، فأشبهها هناك، وقال:
من أخذ منها واحدة فهي له، ولا يؤخذ منها فزر. اللسان «فزر» ، ومجمع الأمثال (2/ 202).
(5)
ينظر: شرح الألفية لابن الناظم (ص 109، 110).
(6)
البيت من الوافر، وهو للنابغة الجعدي يهجو الأخطل. وهو في: الكتاب (3/ 137)، والتذييل (3/ 280)، والخزانة (4/ 306)، والعيني (1/ 504)، والهمع (1/ 72)، والدرر (1/ 47)، والأشموني (1/ 185)، وديوانه (164).
اللغة: بنو جشم: هم رهط الأخطل.
والشاهد في قوله: «حقّا» ؛ حيث نصب على الظرفية في موضع الخبر و «أن» وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والأمر في هذه الكلمة معرفة باللام كالأمر فيها دون اللام، فيقال: أألحق أنك قائم، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
1504 -
أألحق أن دار الرّباب تباعدت
…
أو انبتّ حبل أنّ قلبك طائر (1)
فأنّ مع صلتها في موضع رفع بالابتداء، وحقّا وأألحقّ ظرفان في موضع الخبر؛ لأنهما منصوبان على تقدير «في» ، والدليل على ذلك تصريحهم بها في بعض المواضع، قال الشاعر:
1505 -
أفي حق مواساتى أخاكم
…
بمالي ثمّ يظلمني الشّريس (2)
وقال آخر (3):
1506 -
أفي الحق أني مغرم بك هائم
…
وأنّك لا خل هواك ولا خمر (4)
والدليل على أن حقّا جار مجرى ظرف الزمان، أن العرب استعملته خبرا عن المصدر، ولم تستعمله خبرا عن الجثة، كما أن ظرف الزمان كذلك، وكذا يقولون: غير شك أنك قائم، وجهد رأيي أنك مقيم، وظنّا مني أنك ذاهب (5)، وجعل بعضهم من القائم مقام ظرف الزمان اسم العدد، أي اسم عدده نحو: سار -
(1) البيت من الطويل لعمر بن أبي ربيعة، وهو في: الكتاب (3/ 136)، والتذييل (3/ 280)، والتصريح (2/ 366)، والأشموني (4/ 278)، وديوان عمر بن أبي ربيعة (ص 109)، وديوان كثير عزة أيضا (ص 368) برواية (أجدك) مكان (أألحق).
اللغة: انبت: انقطع - والتعبير بالطيران كناية عن ذهاب العقل لشدة الحزن، أو كناية عن خفقاته.
والشاهد في قوله: (أألحق) حيث نصب على الظرفية، وهو في موضع الخبر و «أن» وما دخلت عليه في تأويل مبتدأ.
(2)
البيت من الوافر، وهو لأبي زبيد الطائي. وهو في: التذييل (3/ 280)، وخلق الإنسان للأصمعي (ص 232)، وابن القواس (ص 701)،
والخزانة (4/ 309)، والتصريح (1/ 221، 339).
ويروى البيت برواية (السريس) بالسين المهملة.
والسريس هو الذي لا يأتي النساء، وقيل: الذي لا يولد له.
والشاهد في قوله: «أفي حق» ؛ حيث دخلت «في» على حق وصرح بها، مما يدل على ظرفيتها حين تنصب.
(3)
هو عائد بن المنذر أو فاقد بن المنذر (ينظر معجم الشواهد ص 151).
(4)
البيت من الطويل وهو في: الخزانة (1/ 193)، عرضا والمغنى (1/ 55)، وشرح شواهده (1/ 172)، والعيني (3/ 81)، والتصريح (1/ 339)، وأوضح المسالك (1/ 176).
والشاهد في قوله: (أفي الحق) حيث دخلت «في» على «الحق» ، وهذا يدل على ظرفيتها حين تنصب.
(5)
ينظر: الكتاب (3/ 139)، والتذييل (3/ 281).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
القوم عشرين يوما، وابن عصفور جعل اسم العدد نفسه زمانا، لا قائما مقامه، ومن ثمّ قال في المقرب: ظرف الزمان هو اسم الزمان أو عدده أو ما قام مقامه (1) وعلل ذلك بأنه لما عد به الزمان صار مرادا به الزمان في المعنى، وذلك أن عشرين يوما من المثال المتقدم ونحوه أيام في المعنى، والذي قاله ابن عصفور هو الظاهر، بل هو المتعين، واعلم أنه كما قام مقام ظرف الزمان الأربعة المتقدمة الذكر، هكذا تقوم مقام ظرف المكان.
فالصفة: نحو قولك: قعد قريبا من زيد، يريد مكانا قريبا منه.
والمضاف إلى الظرف الذي هو اسم المضاف إليه في المعنى: نحو قولك: سرت جميع الميل، وقطعت بعض الفرسخ (2).
وما كان مضافا إليه اسم مكان فحذف اسم المكان وأقيم المضاف إليه مقامه نحو قولك: جلست قرب زيد، الأصل: جلست مكان قريب زيد (3)، ومنه قول العرب: تركته ملاحس البقر أولادها، الأصل: تركته مكان ملاحس البقر أولادها، وهذا إنما يكون إذا كان المضاف إليه اسم المكان مصدرا كما مثل، فهو في ظرف المكان نظير قولهم: كان ذلك خفوق النجم، وقدوم الحاج في ظرف الزمان، إلا أن ذلك كثير مع ظرف الزمان كما تقدم، وقليل مع ظرف المكان، ولا يجوز أن تكون «ملاحس» اسم مكان؛ لأنه نصب الأولاد، فتعين كونه مصدرا (4).
وأما ما شبه به: أعني بظرف المكان فقد مثلوا بقولهم: زيد فوق عمرو في الشرف، ودون بكر في العلم، قال ابن عصفور: ففوق ودون في هذا الكلام وأمثاله، ليسا باسمي مكان، وإنما حكم لهما بحكم ظرف المكان لشبههما بفوق ودون إذا أريد بهما المكان (5). انتهى.
وما ذكره غير ظاهر، فإن الشيء لا يشبه بنفسه، وإنما [2/ 404] المشبه هنا متعلق الفوقية والدونية، فالمراد تشبيه الرتبة المعنوية بالرتبة الحسية؛ لأن الفوقية وما -
(1) المقرب (1/ 144).
(2)
ينظر: المقرب (1/ 145)، وشرح الجمل لابن عصفور (1/ 325) طبعة العراق.
(3)
ينظر: المطالع السعيدة (ص 310)، وشرح الألفية للمرادي (2/ 96).
(4)
ينظر: التذييل (3/ 281).
(5)
المقرب (1/ 150) بالمعنى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يقابلها إنما يدركان بالنسبة إلى الأجسام، فإذا استعمل اللفظ الدال عليهما في الأمور المعنوية، وجب أن يكون التشبيه بين الرتب، فالرتبة التي لها شرف توصف بالعلو المعنوي، فيطلق عليها ما يطلق على ما يوصف بالعلو الحسي، والمرتبة التي ليس لها شرف توصف بالتسفل المعنوي، فيطلق عليها ما يطلق على ما يوصف بالتسفل الحسي، وإذا كان الأمر كذلك ففوق التي هي في قولنا:«زيد فوق عمرو في الشرف» هي نفس فوق التي هي قولنا: «زيد فوق الجدار» ، ففوق اسم مكان في الحالين، وكذا الكلام في دون أيضا، ثم قال ابن عصفور ردف كلامه الأول: ومن ذلك ما حكاه الأخفش من قول العرب: هم هيئتهم (1)، قال: فهيئتهم هنا ظرف مكان؛ لأنها منصوبة على تقدير في أي هم هيئتهم، والهيئة ليست باسم مكان، وإنما حكم لها بحكم اسم المكان لشبهها به من حيث كانت مشتملة على ذي الهيئة كاشتمال المكان على ما يحل فيه، قال: والدليل على أنها جعلت من قبيل ظروف المكان وقوعها خبرا عن الجثة (2). انتهى.
واعلم أن استعمال هذا النوع ظرف مكان، أعني ما شبه بظرف المكان - موقوف على السماع، كما أن استعمال ما شبه بظرف الزمان ظرف زمان كذلك (3).
البحث الخامس:
الناصب للظرف هو اللفظ الدال على المعنى الذي وقع في الظرف، وإذا كان كذلك علم أن في قول المصنف: ناصب له بعد قوله: لواقع فيه - تجوزا ثم إن هذا العامل قد يكون مذكورا وقد يكون مقدرا، فالمذكور ظاهر والمقدر قد يكون تقديره جائزا كقولك يوم الجمعة، لمن قال: متى جئت، وقبلي الجامع، لمن قال: أين جلست، إذ يجوز إظهاره، وقد يكون تقديره واجبا يعني أن يؤتى به مقدرا ولا يذكر لفظا (4)، وهذا هو الذي يعبر عنه النحاة بأنه يحذف
وجوبا، وذلك في أربع مسائل وهي: -
(1) ينظر: الغرة لابن الدهان (2/ 10).
(2)
ينظر: التذييل (3/ 281) حيث أورد هذا النص الذي نسبه الشارح هنا إلى ابن عصفور.
(3)
جعل المرادي في شرح الألفية له (2/ 96) نيابة الأشياء عن ظرف المكان قليلة وكثيرة في ظرف الزمان؛ ولذلك قال: وكثرته تقتضي القياس عليه. اه. ويقصد بذلك ظرف الزمان.
(4)
ينظر: شرح الجمل لابن عصفور (1/ 333) طبعة العراق، والمطالع السعيدة (ص 309).