الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل السادس:
أن الفعل لغير علة وغاية مطلوبة، إما أن يكون لمانع يمنع من إرادة تلك الغاية وقصدها، أو لاستلزامه نقصًا ومنافاته كمالًا.
ولا مانع يمنع الرب تبارك وتعالى من فعل ما يريد يقول سبحانه "إن الله يفعل ما يريد"
(1)
ويقول: "إن الله يفعل ما يشاء"
(2)
فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يتصرف في ملكه كما يشاء سبحانه.
أما استلزام النقص فيدرك في أول العقل أن من يفعل لحكمة وغاية مطلوبة يحمد عليها أكمل ممن يفعل لا لشيء البتة.
ثم إن الفعل لغير غرض عبث ينزه الله عنه وقد نفى سبحانه هذا عن خلقه للمخلوقات بقوله: "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين"
(3)
. فقد خلق المخلوقات لحكمة وغاية وليس لعبًا.
والفعل لغاية لا يستلزم النقص إلا إذا كان الفاعل لا يقدر على الفعل إلا لهذه الغاية، ولا يقول أصحاب التعليل بذلك بل يقولون بكمال قدرة الله على كل شيء.
فإن قيل: إن من يفعل لعلة فإنه يكون قبلها ناقصًا.
قلنا: إن أردتم بذلك، عدم ما تجدد فغير مسلم أن عدمه قبل ذلك الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه يكون نقصًا.
وإن أردتم بكونه ناقصًا معنى غير ذلك فممنوع. بل يقال عدم
(1)
سورة الحج: آية (14).
(2)
سورة الحج: آية (18).
(3)
سورة الدخان: آية (38).
الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه من الكمال كما أن وجوده في وقت اقتضاء الحكمة وجوده كمال، فليس عدم كل شيء نقصًا بل عدم ما يصلح وجوده هو النقص كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص فتبين أن وجود هذه الأمور حين اقتضت الحكمة عدمها هو النقص لا أن عدمها هو النقص
(1)
.
يقول ابن القيم: "إن كمال الرب تعالى وجلاله وحكمته وعدله ورحمته وقدرته وإحسانه وحمده ومجده وحقائق أسمائه الحسنى تمنع كون أفعاله صادرة منه لا لحكمة ولا لغاية مطلوبة، وجميع أسمائه الحسنى تنفي ذلك وتشهد ببطلانه"
(2)
.
ما أشرنا إليه من الأدلة على تعليل أفعال الله تعالى جزء قليل من أدلة القائلين بالتعليل رأينا في هذا القدر منها كفاية، وإلا فإن الأدلة على ذلك كثيرة جدًّا.
فقد استدل ابن القيم في كتابه شفاء العليل من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على تعليل أفعال الله وأنه لا يفعل إلا لحكمة محمودة باثنين وعشرين نوعًا من الأدلة
(3)
.
بعد أن عرضنا مذهب ابن حزم في تعليل أفعال الله تعالى، وبينا أن الراجح لدينا خلافه وبيناه وذكرنا بعض أدلته، نعود لنجيب على شبه المذهب المرجوح كما وعدنا فنقول:
(1)
انظر رسالة الإرادة والأمر لابن تيمية ضمن المجموعة الكبرى: (1: 379 - 381). وشفاء العليل ص (429).
(2)
شفاء العليل: ص (430).
(3)
انظر شفاء العليل: ص (400 - 430).
إن ذهاب ابن حزم إلى القول بعدم تعليل أفعال الله تعالى يخالف ما يدعيه من المذهب - الأخذ بظواهر النصوص - فالله سبحانه ذكر في كتابه في مواضع كثيرة أنه فعل كذا من الأفعال، لكذا من الأغراض، وذلك نص ظاهر على تعليل أفعاله سبحانه، ولو التزم الظاهرية لحتمت عليه القول بتعليل أفعال الله ولكنه تجاهلها هنا كعادته في مواضع أخرى نبهنا على ما هو في موضوعنا منها.
ومما رأى ابن حزم أنه مانع من تعليل أفعال الله تعالى، أن الخلق لا يقع منهم الفعل إلا لعلة والله خلاف خلقه.
وهذا القول غير صحيح فإن الخلق يقع الفعل منهم لعلة ولغير علة كتصرفات فاقد الوعي، والذي يفعل من الخلق لعلة أكمل ممن يفعل لغير علة.
والله سبحانه متصف بالكمال المطلق. ومما هو متفق عليه:
أن كل كمال ثبت لموجود من غير استلزام نقص فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بالتنزه عنه وأولى ببراءته منه
(1)
.
والله تعالى متصف بالكمال المطلق، وهو خلاف خلقه بلا شك وإذا كان لا يفعل إلا لعلة، وكان في خلقه من هو متصف بذلك، فلا يلزم من ذلك تشابه بين الخالق والمخلوق فلكل ما يخصه ويناسبه
(1)
انظر رسالة الإرادة والأمر لابن تيمية ضمن المجموعة الكبرى (1: 382)، وموافقة صحيح المنقول (2: 119) ورسالة التوحيد لمحمد عبده ص (33، 34). وشرح العقيدة الواسطية للهراس ص (23، 24). والأسئلة والأجوبة الأصولية لابن سلمان ص (53).
فالعلل التي يفعل لأجلها المخلوق تناسب عجزه وافتقاره، والتي يفعل لأجلها الخالق سبحانه تناسب كماله وقدرته، ولا يدرك منها الخلق إلا القليل فلا تشابه إلا في مجرد الاسم كسائر صفات الله تعالى، فقد وصف الله نفسه بالحياة كما في قوله:"الله لا إله إلا هو الحي القيوم"
(1)
. وقوله: "وتوكل على الحي الذي لا يموت"
(2)
. وقوله: "هو الحي لا إله إلا هو"
(3)
.
ووصف سبحانه بعض خلقه بالحياة بقوله و: "وجعلنا من الماء كل شيء حي"
(4)
. وقال: "يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي"
(5)
.
ووصف الله تعالى نفسه بالسمع والبصر في غير ما آية من كتابه قال: "إن الله سميع بصير"
(6)
. وقال: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"
(7)
.
ووصف بعض خلقه بالسمع والبصر، قال:"إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا"
(8)
.
ونحن لا نشك بأن ما في القرآن حق وبأن لله جل وعلا صفة حياة
(1)
سورة البقرة: آية (255) وآل عمران: آية (2).
(2)
سورة الفرقان: آية (58).
(3)
سورة غافر: آية (65).
(4)
سورة الأنبياء آية (30).
(5)
سورة يونس: آية (31) وسورة الروم: آية (19).
(6)
سورة الحج: آية (75) وسورة لقمان. آية (28)، وسورة المجادلة: آية (1).
(7)
سورة الشورى: آية (11).
(8)
سورة الإنسان: آية (2).
حقيقة لائقة بكماله وجلاله، وله صفتا سمع، وبصر حقيقيان لائقان بجلاله وكماله. كما أن للمخلوقين حياة وسمعًا وبصرًا حقيقة صفات لهم تناسب حالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم وبين صفات الخالق والمخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق وذلك بون شاسع بين الله وخلقه
(1)
.
وجعل ابن حزم تعليل أفعال الله تعالى سؤالًا له عما يفعل غير صحيح.
فهو سبحانه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وحمده وأن أفعاله عن تمام الحكمة والرحمة والمصلحة، فكمال علمه وحكمته وربوبيته وكون تصرفه في ملكه الذي لا يشاركه فيه أحد - فهو المتفرد بالألوهية والسلطنة لذاته - ينافي اعتراض المعترضين عليه وسؤال السائلين له
(2)
.
يقول ابن تيمية: "قولهم: لا يقال في أفعاله "لم" لا ينفي ثبوت الحكمة التي تكون مقصودة له في نفس الأمر، ولا كونه مريدًا لها قاصدًا، وإن كان ذلك ينفيه من ينفيه من نفاة التعليل ومثبتيه، ولهذا قال بعض السلف: إن الله علم علمًا علمه عباده، وعلم علمًا لم يعلمه العباد، وإن القدر من العلم الذي لم يعلمه العباد"
(3)
.
ونقول: إن معرفة الحكمة التي لأجلها خلق الله تعالى ليست سؤالًا له بل هي من النظر في مخلوقاته ومن التدبر لها وهذا مما أمر به
(1)
انظر منهج ودراسات لآيات الصفات للشنقيطي ص (6، 7).
(2)
انظر مختصر الصواعق المرسلة: (1: 203)، وتفسير البيضاوي (6: 249).
(3)
بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (1: 198).
الخلق يقول سبحانه في الثناء على المتفكرين في آيات خلق السموات والأرض: "الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار"
(1)
.
فإن قيل: إن ابن حزم لم ينف حكمة الله تعالى، فهو يقول: بأن فعل الله تعالى كله عدل وحكمة أي شيء كان. وقد ذكرتم هذا في عرضكم لمذهبه.
قلنا: إن الحكمة التي يثبتها ابن حزم محل اتفاق فلا ينفيها أحد من المسلمين.
يقول ابن تيمية: " .. أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوف بالحكمة، لكن تنازعوا في تفسير ذلك فقالت طائفة الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده، ولم يثبتوا إلا العلم والإِرادة والقدرة.
وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم: بل هو حكيم في خلقه وأمره والحكمة ليست مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيمًا، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة"
(2)
.
والجواب على الدليل الذي رآه ابن حزم مانعًا من تعليل أفعال الله تعالى من أوجه:
(1)
سورة آل عمران: آية (191).
(2)
منهاج السنة النبوية لابن تيمية (1: 34) وانظر رسالة التوحيد لمحمد عبده ص (55، 54).