الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في تلك الحال.
(1)
وهكذا في كل حال فإن تمادي الكلام وجب بما قدمناه اللانهاية، واللانهاية في العالم من مبدأه باطل ممتنع محال. فاذا قد بطل أن يخرج العالم بنفسه وبطل أن يخرج دون أن يخرجه غيره فقد ثبت الوجه الثالث ضرورة اذ لم يبق غيره البتة فلابد من صحته وهو أن العالم أخرجه غيره من العدم إلى الوجود، وهذا المخرج هو الله الواحد تبارك وتعالى.
(2)
الطريق الثاني:
هو طريق الاستدلال بما في الفلك من الآثار وما في المخلوقات من الدقة والإتقان والتوافق والاختلاف
.
- تقرير ذلك:
أن الفلك بكل ما فيه ذوآثار محمولة فيه من نقلة زمانية وحركة دورية في كون كل جزء من أجزائه في مكان الذي يليه والأثر مع المؤثر من باب المضاف فوجب بذلك أنه لابد لهذه الآثار الظاهرة من مؤثر أثرها ولا سبيل إلى أن يكون الفلك أو شيء مما فيه هو المؤثر لأنه يصير هو المؤثر والمؤثر فيه مع أن المؤثر والأثر من باب المضاف أيضًا معنى هذا أن الأثر والمؤثر فيه يقتضيان مؤثرًا ولابد ولم يرد أن الباري تعالى يقع تحت الاضافة فلابد ضرورة من مؤثر ليس مؤثرا فيه وليس هو
(1)
أي أن حال الخروج يلزم في حدوثها مثل ما لزم في حدوث العالم من أن تكون أخرجت نفسها أو أخرجها غيرها أو خرجت بغير هذين الوجهين - الفصل ج 1 ص 21.
(2)
انظر الفصل جـ 1 ص 21.
شيئًا مما في العالم فهو بالضرورة الخالق الأول الواحد تبارك وتعالى، هذا إلى ما يرى ويشاهد بالحواس من آثار الصنعة التي لا يشك فيها ذو عقل.
ومن بعض ذلك تراكيب الأفلاك وتداخلها ودوام دورانها على اختلاف مراكزها. ثم أفلاك تداويرها والبون بين حركة أفلاك التداوير والأفلاك الحاملة لها ودوران الأفلاك كلها من غرب إلى شرق ودوران الفلك التاسع
(1)
الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب وإدارته لجميع الأفلاك مع نفسه كذلك فحدث من ذلك حركتان متعارضتان في حركة واحدة فبالضرورة نعلم أن لها محركًا على هذه الوجوه المختلفة.
ومن ذلك تراكيب أعضاء الإنسان والحيوان من إدخال العظام المحدبة في المقعرة وتركيب العضل على تلك المداخل والشد على ذلك بالعصب والعروق صناعة ظاهرة لا شك فيها لا ينقصها إلا رؤية الصانع فقط.
ومن ذلك ما يظهر في الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان وريشه ووبره وشعره وظفره وقشره على رتبة واحدة ووضع واحد لا تخالف فيه. ومنها ما يأتي مختلفًا. فبالضرورة والحس نعلم أن لذلك صانعًا مختارا يفعل ذلك له كما شاء ويحصيه إحصاء لا يضطرب أبدا عما شاء من ذلك وليس يمكن البتة في حس العقل أن تكون هذه المختلفات المضبوطة ضبطًا لا تفاوت فيه من فعل طبيعة ولابد لها من صانع قاصد إلى صنعه كل ذلك.
(1)
هو الفلك الأطلس. انظر مجموع فتاوي ابن تيمية جـ 8 ص 170، ومنهاج السنة له جـ 1 ص 192.
ومن ذلك ما يرى في ليف النخل والدوم من النسج المصنوع يقينًا بنيرين
(1)
وسدى
(2)
كالذي يصنعه النساج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط وليس هذا البتة من فعل طبيعة ولا بنسج ناسج ولا بناء ولا صانع أصباغ مرتبة. بل هو صنعة صانع مختار قاصد إلى ذلك غير ذي طبيعة لكنه قادر على ما يشاء هذا أمر معلوم بضرورة العقل وأوله يقينًا كما نعلم أن الثلاثة أكثر من الاثنين فصح بكل هذا أن العالم كله محدث وأن له محدثًا هو غيره. وهو الله الخالق الأول الواحد الحق الذي لا يشبه شيئًا من خلقه البتة لا إله إلا هو الواحد القهار.
(3)
إن هذا المسلك الذي سلكه أبو محمد بن حزم في الاستدلال على حدوث العالم - ثم إثبات المحدث له - بتناهي مكوناته. ليس مسلكًا جديدًا فقد قال به يعقوب بن إسحق الكندي،
(4)
فبينه في كثير من رسائله، واهتم بعرضه وتفصيله، وقال به أيضًا أبو منصور
(1)
النيرين القصب والخيوط إذا اجتمعت، وعلم الثوب جمع أنيار. ونرت الثوب نيرًا ونيرته وأنرته جعلت له نيرا. وهدب الثوب ولحمته. انظر: القاموس ج 2 ص 151.
(2)
السدى بفتح السين ضد اللحمة، والسداة مثله تقول منه أسدى الثوب ويقال سدى الثوب يسديه وستاه يستيه. انظر مختار الصحاح ص 292، 293 ولسان العرب ج 19 ص 91. والقاموس ج 4 ص 341.
(3)
انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج 1 ص 22، 23.
(4)
هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندى، له معرفة واسعة في العلوم القديمة، ويسمى فيلسوف العرب وله كتب في علوم مختلفة مثل المنطق والفلسفة والهندسة والحساب، والموسيقى والنجوم وغير ذلك. انظر الفهرست لابن النديم ص 357 - 365. ولسان الميزان ج 6 ص 355.
الماتريدي.
(1)
لكن طريقة ابن حزم في البرهنة على حدوث العالم بتناهي أشخاصه بأعراضها وأزمانها كثيرة الشبه بطريقة الكندي. فلعل ابن حزم قد اطلع على فلسفة الكندي وتأثر بها.
يقول الدكتور إحسان عباس: إن هناك صلة بين بعض الأفكار عند الكندي وابن حزم، إلا أن ابن حزم لم يذكر الكندي فيما أعلم. إلا في نقل واحد في كتابه جمهرة أنساب العرب
(2)
ثم يذكر بعضًا من وجوه الاتفاق.
(3)
وسأعرض نموذجًا من مسلك الكندي بتناهي بعض مكونات العالم - الجرم - حتى نرى مدى التشابه الكبير بينهما.
يرى الكندي أن العالم، جرم، وزمان وحركة. وجميع هذه متناهية فلا يمكن أن يكون جرم أزليًا ولا غيره مما له كمية، أو كيفية لا نهاية له بالفعل، وأن لا نهاية له إنما هو في القوة. ويعتمد في برهانه هذا على مقدمات بدهية هي:
1 -
أن كل الأجرام التي ليس منها شيء أعظم من شيء متساوية.
2 -
والمتساوية أبعاد ما بين نهاياتها متساوية بالفعل والقوة.
(1)
انظر استدلاله في كتاب التوحيد ص 12.
والماتريدي: هو محمد بن محمد بن محمود، من أئمة علماء الكلام له مؤلفات كثيرة منها تأويلات أهل السُّنة، وأوهام المعتزلة ومآخذ الشرائع، توفى بسمرقند سنة 333 هـ. انظر كتاب الفوائد البهية في تراجم الحنفية ص 195. والأعلام جـ 7 ص 19.
(2)
الصحيح أن ابن حزم ذكر الكندى في كتابه جمهرة أنساب العرب ثلاث مرات انظر ص 25، 328، 426 من الجمهرة.
(3)
انظر مقدمة الرد على ابن النغريلة ورسائل أخرى للدكتور إحسان عباس ص 35، 40.
3 -
وذا النهاية ليس لا نهاية.
4 -
وكل الأجرام المتساوية إذا زيد على واحد منها جرم كان أعظم منها، وكان أعظم مما كان قبل أن يزاد عليه ذلك الجرم.
5 -
وكل جرمين متناهيى العظم، إذا جمعا كان الجرم الكائن عنهما متناهي العظم، وهذا واجب أيضًا في كل عظم وفي كل ذي عظم.
وبعد هذه المقدمات يسوق بطلان أن يكون جرم لا نهاية له فيقول إنه لو كان هناك جرم لا نهاية له ثم فصل منه جرم متناهي، فإن الباقي إما أن يكون متناهيا أو لا متناهي وعلى التقدير الأول:
إذا رد المفصول من الجرم عليه صار مجموعهما متناهي العظم، وهو الذي كان لا متناهي فهو والحالة هذه متناه لا متناهي وهذا خلف لا يمكن.
وعلى الثاني:
إذا رد المفصول فإما أن يكون أعظم مما كان قبل أن يرد عليه ما فصل منه أو مساويًا له.
فإن كان أعظم فقد صار ما لا نهاية له أعظم مما لا نهاية له، وأصغر الشيئين بعد أعظمهما أو بعد بعضه، فأصغر الجرمين اللذين لا نهاية لهما بعد أعظمهما أو بعد بعضه.
وإن كان بعده فهو بعد بعضه لا محالة، فأصغرهما مساو بعض أعظمهما والمتساويان هما اللذان متشابهاتهما أبعاد ما بين نهاياتهما واحدة فهما إذن ذو نهايات.
فالذي لا نهاية له الأصغر متناه، وهذا خلف لا يمكن فليس أحدهما أعظم من الآخر.
وإن كان مساويًا له فقد زيد على جرم جرم فلم يزد شيئًا وهذا المزيد جزؤه، فمعنى هذا أن الجزء مثل الكل وهذا خلف لا يمكن فقد تبين أنه لا يمكن أن يكون جرم لا نهاية له.
وعلى هذا النهج يسير الكندي في بيان تناهي كل الكميات.
والزمان كمية فليس يمكن أن يكون زمان لا نهاية له بالفعل بل هو ذو مبدأ ونهاية، وكل الأشياء المحمولة في المتناهي متناهية اضطرارًا فكل محمول في الجرم من كم، أو مكان أو حركة، أو زمان الذي هو مفصول بالحركة فمتناه أيضًا،
(1)
ويمكن أن يقام عليه الدليل الذي أقيم في بيان تناهي الجرم.
أرى أن هذا القدر كاف في بيان تشابه مسلك ابن حزم بمسلك الكندي، فالطريق الذي بين به الكندي تناهى الجرم هو الذي بين به ابن حزم تناهي الزمان حيث إنه يصدق على كل ما يمكن أن يقال فيه أنه لا متناهى.
والكندي يرى أن الجرم والحركة، والزمان متلازمة.
(2)
وهذا ما نراه واضحًا في البرهان الثالث من البراهين التي أقامها ابن حزم لبيان حدوث العالم، وهو في بيان تناهي الزمان.
(1)
انظر كتاب الكندي إلى المعتصم في الفلسفة الأولى ص 90 - 100 والإبانة في تناهي العام له ص 1، - مخطوط والتفكير الفلسفي في الإسلام لعبد الحليم محمود جـ 2 ص 314 - 316.
(2)
هذا رأى أرسطو وهو تلازم الجسم والحركة والزمان. انظر الطبيعة لأرسطو جـ 2 ص 489. وما بعدها. والكون والفساد له ص 253.
ثم إن نتيجة هذا الدليل الذي ساقه ابن حزم - تابعًا فيه الكندي على ما أرى - على حدوث العالم بتناهي مكوناته، وإثبات المحدث له وهو الله تبارك وتعالى، هي نتيجة دليل الجوهر والغرض التي يستدل بها المتكلمون، أو بكل واحد منهما إما بإمكانه، أو بحدوثه بناء على أن علة الحاجة عندهم، إما الحدوث وحده، أو الإمكان مع الحدوث شرطًا أو شطرًا.
(1)
وهي أيضًا نتيجة دليل الإمكان الذي يستدل به بعض المتكلمين مع اختلاف في طرق الإثبات بين مسلك ابن حزم وبينهم.
وقد تواصلوا بتلك الأدلة إلى النتيجة المرجوة، وإن لم تسلم لهم كل طرق الاستدلال.
أما دليل ابن حزم - وإن لم يقتصر عليه - فهو دليل رياضي سليم.
مع أن فيه تطويلًا يغني عنه بالوصول إلى تلك النتيجة الاستدلال بالممكنات بطريقة مختصرة سليمة هي أن يقال:
إننا نشاهد من حدوث الحوادث حدوث الحيوان والنبات وغيرها، وهي ليست ممتنعة حيث وجدت، ولا واجبة الوجود بنفسها لأنها كانت معدومة، ثم وجدت فعدمها ينفي وجوبها، ووجودها ينفي امتناعها، فحدوثها دليل على المحدث لها المخالف لما هي عليه وهو الله تبارك وتعالى.
(2)
وهذه الطريقة عقلية صحيحة، وشرعية دل القرآن عليها وهدى الناس إليها وبينها وأرشد إليها. يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
(1)
انظر شرح المواقف في علم الكلام الموقف الخامس ص 5.
(2)
انظر شرح الأصفهانية ص 15، 16، وشرح حديث النزول ص 28 والطبيعة وما بعدها ليوسف كرم ص 151.
مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ}،
(1)
(2)
(3)
والآيات على هذا النحو كثيرة. فكون الشارع استدل به وأمر أن يستدل به وبينه واحتج به فهو دليل شرعي.
وهو عقلي لأن بالعقل تعلم صحته فان نفس كون الإنسان حادثًا بعد أن لم يكون ومولودًا ومخلوقًا من نطفة ثم من علقة هذا لم يعلم بمجرد خبر الرسول صلى الله عليه وسلم بل هذا يعلمه الناس كلهم بعقولهم سواء أخبر به أو لم يخبر.
(4)
أما الطريق الثاني الذي استدل به ابن حزم على وجود الله:
فهو الطريق الذي جاء في القرآن الكريم في غير ما موضع منه وهو إثبات وجود الله عن طريق بيان عظمته وهيمنته وتدبيره، وقدرته على كل ما في العالم وبيان عنايته ورعايته وإحكامه المحكم وإبداعه المتقن لكل ما يسرى في العالم من قوانين ونواميس.
(1)
سورة الحج آية (5).
(2)
سورة مريم الآيتان (66، 67).
(3)
سورة يس الآيتان (78، 79).
(4)
انظر كتاب النبوات لابن تيمية ص 48.
فاستدل ابن حزم بما في الفلك من نقلة زمانية وحركة دورية وما في المخلوقات من الدقة والاتفاق وما فيها من التوافق والاختلاف.
وهو موافق للمنهج القرآني في استدلاله، وهذا الدليل هو أقوى الأدلة وأوضحها على وجود الله تعالى، ثم هو أسهلها، وقد استخدمه الأقدمون ولا يزال المحدثون يستخدمونه، وقد استدل بهذا الدليل على هذا النهج قبل ابن حزم من المسلمين الكندي،
(1)
وأبو منصور الماتريدي.
(2)
ولكن تطبيق ابن حزم الاستدلال على ما في الكون شبيه بما ذهب إليه أفلاطون،
(3)
وأرسطو،
(4)
من فلاسفة اليونان عن استدلالهم على وجود الله. فقد توصل أفلاطون عند ربطه بين العلة ومعلولها، أو بين العقل والمادة إلى استنتاج ظاهرتين أساسيتين في هذا الوجود هما:
(1)
انظر التفكير الفلسفي في الإسلام لعبد الحليم محمود جـ 2 ص 318 - 320.
(2)
انظر كتاب التوحيد للماتريدى ص 18.
(3)
هو أفلاطون بن أرسطين بن أرسطو قليس، من أثينة وهو معروف بالتوحيد والحكمة، ولد في زمن أردشير بن دارا. وتتلمذ على سقراط ولما اغتيل سقراط جلس على كرسيه، وحكى عنه أنه يقول: إن للعالم محدثًا مبدعا أزليا واجبا بذاته توفى سنة 347 ق. م وكان مولده سنة 427 ق. م على الراجح. انظر: طبقات الأطباء لابن جلجل ص 23 - 25. وتاريخ الحكماء ص 17 - 27.
(4)
هو أرسطو طاليس بن نيقوما خوس من أهل أسطاخيرا وهو المقدم المشهور والمعلم الأول، والحكيم المطلق عندهم ولما بلغ السابعة سلمه أبوه إلى أفلاطون لتأديبه فمكث عنده نيفا وعشرين سنة وله كتب في الطبيعيات والإلهيات تعاطى أول حياته الطب وألف فيه كتاب "الصحة والمرض" وفلسفته أسسها المحسوسات والمشاهدات. توفى سنة 322 ق. م وكان مولده سنة 384 ق. م انظر طبقات الأطباء لابن جلجل ص 25 - 27. وتاريخ الحكماء للقفطي، ص 27 - 53 ودائرة معارف القرن العشرين جـ 1 ص 164، 165.
1 -
الحركة الجارية في هذا الوجود.
2 -
النظام البادىء في كل جزء من أجزائه.
ومنهما استمد الاستدلال على وجود الله تعالى. حيث قال عن دلالة الحركة:
إن الحركات سبع، حركة دائرية، وحركة من اليمين إلى اليسار وبالعكس ومن أمام إلى خلف وبالعكس. ومن أعلى إلى أسفل وبالعكس.
والأولى هي التي تخص العالم وهي منظمة لا يستطيعها العالم بذاته، فهي معلولة لعلة عاقلة هي الله، والست الباقية طبيعية، ومنع العالم من أن يجرى بها لأنها لا تتضمن له العناية والنظام.
ويقول عن النظام:
إن ما يبدو في هذا العالم آية فنية، ولا يمكن أن يكون هذا النظام البادىء فيما بين الأشياء على وجه الاجمال، وفيما بينها على وجه التفصيل نتيجة علل اتفاقية لكنه صنع عقل توخى الخير ورتب له الأسباب الكفيلة بإيصاله عن قصد وإرادة
(1)
. فنجد أن أفلاطون قاده منطق التفكير إلى إدراك الألوهية والإعتراف بوجود إله مدبر لهذا الكون البديع الصنع. وقد أحال أرسطو كل ما يجري في العالم من حركات إلى علة أولى ونسبه إلى محرك أول. يحرك ولا يتحرك ضرورة أنه دائم الفعل في غيره دون أن ينفعل هو بغيره وماهية هذا المحرك:
1 -
أن ليس جسمًا، فليس بمكان.
2 -
أنه يحرك كغاية.
(1)
انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 81. والفلسفة اليونانية مقدمات ومذاهب للدكتور محمد بيصار ص 107 - 109.
3 -
أنه معقول ومعشوق.
فيقول: إن كل متحرك لابد له من محرك، ولا يستمر الأمر إلى ما لا نهاية بل لابد من محرك أزلي يحرك ولا يتحرك، أو يفعل في غيره، ولا ينفعل بغيره، وإلا لما كان أولًا، وذلك هو "الله" ولكنه لا يقول، إن هذا المحرك خالق للعالم، ولم يكن تحريكه له حقيقيًا، وإنما هو تحريك بالشوق، أي أنه يشتهي أن يحيا حياة شبيهة بحياة المحرك ما أمكن فلا يستطيع لأنه مادي فيحاكيه بالتحرك محاولة للوصول إلى الكمال.
(1)
هذا ملخص لما استدل به أفلاطون، وأرسطو على وجود الله تعالى رأينا عرضه ليتضح ما قلنا من التشابه في تطبيق ابن حزم استدلاله بما في الكون على وجود الله تعالى، وما استدل به أفلاطون وأرسطو ونعرف مدى تأثره بهما.
فقول ابن حزم في حركة الأفلاك ودورانها وعناية الله بتركيب أعضاء الإنسان وغيره مما يشاهد بالحواس من الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان وريشه ووبره في اتفاق واختلاف مضبوط
(2)
.
شبيه بما ذكرنا من استدلال أفلاطون بالحركة، والجمال الظاهر في الكون على العلة العاقلة التي هي "الله" وهذا ظاهر عند النظر في الأدلة.
(1)
انظر الطبيعة لأرسطو طاليس ترجمة إسحق بن حنين مع شروح ابن السمح، وابن عدى ومتى بن يونس وأبي الفرج بن الطيب جـ 2 ص 733 - 739. والفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب جـ 1 ص 271، 272. وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 180 - 182. والفلسفة اليونانية للدكتور محمد بيصار ص 129 - 131.
(2)
انظر الفصل جـ 1 ص 22، 23.
وقول ابن حزم: - إن الفلك بما فيه من النقلة الزمانية والحركة الدورية .. وإن الأثر مع المؤثر من باب المضاف فلابد لهذه الآثار من مؤثر أثرها ولا يتسلسل ذلك.
(1)
وهذه هي طريقة أرسطو في استدلاله على "المحرك الأول" والتشابه ظاهر في طريقة الاستدلال. ولكن ابن حزم وإن تأثر بأرسطو فلم يقتف أثره تمامًا لأنه يختلف عنه من حيث إن الأخير لا يرى أن الله خالق للعالم، وإنما هو علة له، ويستتبع مذهبه أيضًا أن الله لا يعلم العالم ولا يعنى به،
(2)
لذلك صرح الأول في دليله بالخلق فقال: "فلابد ضرورة من مؤثر ليس مؤثرًا فيه وليس هو شيئًا مما في العالم فهو بالضرورة الخالق الأول الواحد تبارك وتعالى"
(3)
فقد جمع ابن حزم بين قولي أفلاطون، وأرسطو، وقد تأثر في هذا الجمع بالكندي
(4)
ومما يؤيد تأثر ابن حزم بالأفكار اليونانية القديمة ما ذكر من أن
* * * * *
(1)
انظر المرجع السابق جـ 1 ص 22.
(2)
انظر الفلسفة الإغريقية للدكتوب غلاب جـ 2 ص 89.
(3)
الفصل جـ 1 ص 22.
(4)
انظر تقديم الدكتور أحمد الأهواني لكتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى ص 69.
الأفلاك تسعة،
(1)
وهذه نظرية قد أبطلت.
(2)
بعد عرض استدلال ابن حزم على وجود الله تعالى وبيان هل كان من استنتاجه، أو مما سبق إليه. ومدى تأثره بمن سبقه. وهل تلك الأدلة صحيحة وسليمة، أو غيرها أولى منها - حسب علمنا - بقى ذكر الطريق الذي نراه الأولى في الإستدلال على الموجود الواجب الوجود لذاته، وقد سبقت الإشارة إلى هذا الدليل، وهو دليل ابن حزم الثاني، وقلت إنه موافق للمنهج القرآني في استدلاله على إثبات الصانع، وقد بين استدلاله وطبقه على مظاهر الكون وأن من تاملها عرف أنه موجود بعد العدم، وأن له موجدًا قادرًا عليمًا حكيمًا، ثم بآثار الصنعة التي لا يشك فيها ذو عقل فإن كل فعل لابد له من فاعل وكل مصنوع لابد له من صانع وهذا حق لا مراء فيه.
ويجب أن نزيد على هذا ونوضحه فنقول ولا قوة إلا بالله:
إن إثبات وجود الله تبارك وتعالى من حيثما هو موجود لم يكن من الأهداف القرآنية، ولم يكن ذلك هدفًا من أهداف الرسول صلى الله
(1)
يقصد المتأخرون من علماء الهيئة بالأفلاك التسعة العرش، والكرسي، والسموات السبع لما رأوا أن الأفلاك تسعة وأن التاسع محيط بها مستدير كاستدارتها وهو الذي يحركها الحركة المشرقية وسمعوا في الأخبار عن الأنبياء ذكر عرش الله وكرسيه وسمواته فظنوا أن هذه تلك. انظر الرسالة العرشية لابن تيمية ضمن الرسائل والمسائل جـ 4 ص 154.
(2)
يقول محمد رشيد رضا: "إنه قد تبين .. بما ارتقى إليه علم الهيئة الفلكية بالآلات الحديثة المقربة للابعاد بطلان القول بالأفلاك التسعة التي تخيلها اليونان وتبعهم فيها علماء العرب" هامش الرسالة العرشية لابن تيمية ضمن الرسائل والمسائل جـ 4 ص 107، ويذكر ابن تيمية في نفس الصفحة من الأصل بأنه ليس عندهم ما يثبت ذلك وما ينفي غيره فذلك ظن وليس بحقيقة.
عليه وسلم أو أحد أصحابه، لأن الإيمان بوجود الله تبارك وتعالى أمر فطرت عليه القلوب أعظم من فطرتها على الإقرار بغيره من الموجودات، فهو سبحانه أبين وأظهر من أن يجهل فيطلب الدليل على وجوده.
يقول ابن القيم: "سمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
(1)
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما".
(2)
ولكن قد وجد من انحرفت فطرهم فقالوا بأن العالم لم يزل وهم الدهرية.
وقد رد القران الكريم على هؤلاء بما يضطر العقول إلى الإعتراف بالحق والرجوع إلى الصواب.
ومما سبق ندرك أن الإستدلال في القرآن على وجود الله تبارك وتعالى أتى من طريقين، ليس الهدف منهما هو الإستدلال على وجوده تعالى فدلالتهما عليه استنتاجًا:
(1)
البيت لأبي الطيب المتنبي انظر ديوانه بشرح العكبرى جـ 3 ص 92. وفيه بدل "الأذهان" "الأفهام". وهو في مختصر الصواعق جـ 1 ص 175، ومدارج السالكين جـ 1 ص 65، وفي كتاب العلو للذهبي ص 59. كما ذكرناه. ولم ينسب إلى قائل.
(2)
مدارج السالكين جـ 1 ص 60. وانظر مختصر الصواعق جـ 1 ص 170.
أحدهما: الرد على من انحرفت فطرهم.
وثانيهما: ما سبقت الإشارة إليه، وهو من طريق نصوص جاءت لبيان عظمة الله وتدبيره المحكم وعنايته التامة بكل صغيرة وكبيرة وبيان ما في العالم من تناسق وتضامن وانسجام وترابط بين أجزائه ووحداته.
الطريق الأول:
الرد على من انحرفت فطرهم:
هؤلاء هم من أنكروا الخالق تبارك وتعالى. وقالوا إن الله تعالى لم يخلقهم ابتداء، ولا يعيدهم مآلًا، وإنما الحياة بالطبع والفناء بالدهر يقول تعالى عنهم:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}
(1)
أي ما ثم خالق ولا مميت فالحياة والموت عندهم عبارة عن تركب الطبائع المحسوسة في العالم السفلي وتحللها، فالجامع هو الطبع والمهلك هو الدهر فكذبهم الله تبارك وتعالى بقوله {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}
(2)
أي أن نسبتهم الحياة والموت للطبع والدهر قول بغير علم مبني على الظن والتخمين، لأن من كان طلبه وجدان الحق يكفيه النظر إلى حدوث الحياة في الأجسام الجمادية دليلا على أن هناك موجدًا للحياة ومنعما بها وهو الله تبارك وتعالى، وإن ظهور الحياة في حد ذاته دليل كاف للإقناع بوجود الله
(1)
سورة الجاثية آية (24).
(2)
سورة الجاثية آية (24).
الخالق يقول تعالى: " {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}
(1)
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}
(2)
وقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} .
(3)
وقد رد الله عليهم بضرورات فكرية وآيات فطرية يقول تبارك وتعالى حاكيا قول رسل الأمم المنكرة للخالق: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ،
(4)
فهو سبحانه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه. يقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}
(5)
ويقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}
(6)
(7)
(8)
ويقول: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}
(9)
ويقول: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
(10)
ويقول: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
(1)
سورة الحج آية (73).
(2)
سورة الطارق الآيتان (5، 6).
(3)
سورة الغاشية آية (17).
(4)
سورة إبراهيم آية (10).
(5)
سورة إبراهيم آية (19).
(6)
سورة المؤمنون آية (17).
(7)
سورة فصلت آية (9).
(8)
سورة الشورى آية (29).
(9)
سورة الأعراف آية (185).
(10)
سورة الرعد آية (16).
يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(1)
ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}
(2)
ويقول: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} .
(3)
هذه الآيات ونظائرها في القران كثيرة جدًّا، يثبت الله تبارك وتعالى بها الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق بالنظر في ملكوت السموات والأرض حيث إن معرفة جواهر الأشياء، والوقوف على الاختراع الحقيقي في الموجودات يهب معرفة المخترع حقًّا، وهو الخالق لكل شيء ابتداء وإعادة، وحده لا شريك له، ويؤكد جل ثناؤه هذا بمبادئ مقررة تضطر المتفكر بها إلى الاعتراف بأن الشيء لا يمكن أن يوجد من غير موجد، ولا أن يوجد نفسه بقوله:"أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون".
(4)
أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي أنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا
(5)
.
* * * *
(1)
سورة النمل آية (64).
(2)
سورة الروم آية (20).
(3)
سورة ق آية (15).
(4)
سورة الطور آية (35).
(5)
انظر الملل والنحل جـ 3 ص 79. والكشاف للزمخشرى ج 2 ص 369. وجـ 3 ص 512، 513، وجـ 4 ص 25، ومناهج الأدلة لابن رشد ص 152، 153. وشرح حديث النزول لابن تيمية ص 28 - 30 وتفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ 6 ص 269، 436 والتفكير الفلسفي في الإسلام جـ 1 ص 64، 65.
وبيان الطريق الثاني:
"العناية الإلهية بما يرى في العالم".
إذا نظرنا إلى هذا العالم وجدناه منظمًا مترابطًا سائرًا بهذا النظام المحكم الدقيق في كله وأجزائه، ومقدرًا على الأمر الأتقن والأنفع، وأن جميع الموجودات، موافقة لوجود الإنسان.
وفي النظر إلى الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وفصول السنة الأربعة ندرك هذه الموافقة، ونراها في الأرض، والماء والنار، والهواء وفي كثير من الحيوانات، والنباتات والجمادات وتظهر العناية الإلهية بموافقة أعضاء الإنسان والحيوان لحياته ومعاشه. يقول تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}
(1)
فإن أقرب شيء إلى الإنسان نفسه، فإذا نظر فيها وجد آثار التدبير فيه ظاهرة، والعناية الإلهية بالغة، ومن أظهر ما يدركه المدرك ما جعل الله في الإنسان من أبواب يجده في أمس الحاجة إليها، وقد هيأها الله تبارك وتعالى لتؤدي ما جعل إليها من أعمال، فكملها بما يصونها مما يؤذيها لتؤدي مهمتها وقد وضعها في أماكن على وضع تبدو منه جميلة {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}
(2)
وهذه الأبواب هي، بابان للسمع، وبابان للبصر، وبابان للشم والتنفس، وباب للكلام والطعام والشراب وللتنفس أيضًا وبابان لخروج الفضلات وفي كل باب من التراكيب والفوائد ما
(1)
سورة الذاريات، آية (21).
(2)
سورة المؤمنون آية (14).
يطول شرحه.
(1)
وفي النظر إلى الحيوانات، والحشرات، وما فيها من الفوائد وما تقوم به من أعمال متقنة منظمة على أوجه دقيقة عجيبة، ومن هذه الحشرات على وجه التمثيل النحل.
يقول ابن القيم: تأمل أحوال النحل، وما فيها من العبر، والآيات فانظر إليها، وإلى اجتهادها في صنعة العسل، وبنائها البيوت المسدسة التي هي من أتم الأشكال وأحسنها استدارة، وأحكمها صنعا، فإذا انضم بعضها إلى بعض لم يكن بينها فرجة ولا خلل، كل هذا بغير مقياس ولا آلة، وتلك من أثر صنع الله وإلهامه إياها وإيحائه إليها كما قال تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
(2)
فتأمل كمال طاعتها وحسن ائتمارها لربها، اتخذت بيوتها في هذه الأمكنة الثلاثة في الجبال وفي الشجر وفي بيوت الناس حيث يعرشون، فلا يرى للنحل بيت في غير هذه الثلاثة.
ومن عجيب أمرها أن لها أميرًا يسمى اليعسوب، لا يتم لها رواح ولا إياب إلا به، فهي مؤتمرة لأمره سامعة له مطيعة يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته حتى إنها إذا آوت إلى بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم الأخرى، ولا تقدم عليها في العبور بل تعبر بيوتها
(1)
انظر التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص 222.
(2)
سورة النحل الآيتان (68، 69).
واحدة تلو الأخرى بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم.
(1)
فالرائي بهذا - ونحوه مما هو كثير في الحيوانات والحشرات - بعقل وتفكر يدرك أن لها خالقًا بالغ العناية بها أوحى إليها بهذا العمل الذي فيه صلاحها وفوائدها.
ومن تفحص هذه المعاني، وعرفها علم أنها أتت من قبل فاعل قاصد لذلك كله مريد له حيث لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة. وإن في الظاهر من هذا الكون للحواس السليمة لأوضح دلالة على عناية فاعل مختار لما يفعل وهو اللطيف الخبير وقد ذكر سبحانه وتعالى في كثير من المواضع من كتابه العزيز عنايته بهذا الإنسان ورعايته له فقال:{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} ،
(2)
(3)
(4)
(1)
مفتاح دار السعادة لابن القيم ج 1 ص 248، 249. بتصرف، وانظر شفاء العليل ص 145 - 149. وكلام ابن القيم يوحي بالمراد للاستدلال.
وقد أصبحت المعرفة عن النحل أدق.
(2)
سورة الجاثية الآيتان (12، 13).
(3)
سورة النبأ الآيات (6 - 16).
(4)
سورة عبس الآيات (24 - 32).
هذه الآيات وغيرها في القران كثير جدًّا يذكر المولى تبارك وتعالى فيها عنايته بنا ورعايته لما يصلحنا بما سخر لنا مما به معاشنا وعليه قوام حياتنا من الانتقال إلى الأماكن البعيدة، وحمل الأثقال وتبادل المنافع بين الأقطار بوساطة الفلك في البحر، والأساطيل الجوية في السماء والحيوانات والسيارات على الأرض التي قد مهدت وجعلت ذلولا لتوطأ بالأقدام وتضعرب بالمعاول، وتحمل على ظهرها الأبنية الثقال وقد هيئت لما يراد منها تهيئة تامة، من إخراج الماء والمرعى، وشق الأنهار فيها، وجعل السبل والفجاج فتبارك الله رب العالين، واقتضت العناية الأزلية والحكمة الإلهية أن وضع عليها الجبال وبها أرساها لئلا تميد وليستقو عليها من فوقها من مخلوقاته جل وعلا، وغير هذا مما نعلم أكثر وما لا نعلم من الحكم والمنافع أكثر وأعظم. ولو حاولنا أن نعد نعم الله سبحانه علينا لعيينا يقول سبحانه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}
(1)
ويظهر مصداق هذا لو أردنا معرفة ما أنعم الله تعالى علينا به من نعمة حاسة من الحواس فقط فكيف بباقي النعم الكثيرة والمستمرة.
(2)
(1)
سورة إبراهيم آية (34).
(2)
انظر مناهج الأدلة لابن رشد مع المقدمة ص 152، 153، وبيان تلبيس الجهمية ج 1 ص 172 - 174، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 6 ص 265 والتبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص 216، 217 والتفكير الفلسفي في الإسلام لعبد الحليم محمود جـ 1 ص 66.
"آيات تجمع بين الدليلين":
ورد في القرآن الكريم كثير من الآيات دالة على الموجود الواجب سبحانه وتعالى، وهي تجمع بين الدليلين السابقين، دليل الخلق، وهو ما ذكرنا إنه أتى للرد على المنكرين للصانع ودليل على العناية الإلهية بالمخلوقات، ومن هذه الآيات قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
(1)
فإن قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تنبيه على دلالة الخلق، وقوله:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} الآية إشارة إلى العناية الإلهية الدالة على الخالق، وقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}
(2)
ففي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} تنبيه على دلالة الخلق. وقوله {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلى قوله {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} تنبيه إلى دلالة العناية الإلهية بالإنسان بما سخر له مما ذكر في الآيتين وغيرهما.
وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ
(1)
سورة البقرة، الآيتان (21، 22).
(2)
سورة إبراهيم الآيتان (32، 33).
تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
(1)
ففي قوله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . إلى قوله {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} تنبيه على دلالة الخلق. وفي قوله {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}
…
إلى قوله "وزينة" تنبيه على دلالة العناية، وقوله {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فيها التنبيه على دلالة الخلق أيضًا. ثم ذكر بعد ذلك عنايته بهذا المخلوق البشري وما هيأ له مما فيه خدمته وصلاحه في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}
(2)
اشتملت الآيات على بيان عناية المولى جل وعلا بنا ورعايته لنا فمن هذه العناية إنزال الماء الذي منه قوام الحياة وقد عد الله في الآيات بعض تلك المنافع قال تعالى في موضع آخر {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}
(3)
ومن عنايته تسخيره الليل والنهار بالتعاقب للسكون والعمل {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ} أجراهن في السماء لمصالح خلقه وذللهن لمنافعهم
(1)
سورة النحل الآيات (3 - 8).
(2)
سورة النحل الآيات (10 - 16).
(3)
سورة الأنبياء (30).
من التدفئة والإضاءة والإهتداء بهن في الأسفار ليلًا ونهارًا وليعلموا بجريهن عدد السنين والحساب ويفصلوا بهن بين الليل والنهار. وذكر سبحانه ما خلق لنا من صنوف النعم المختلفة الألوان في الأرض وما في البحار من لحوم طرية وحلي زكية وهما من أعظم النعم أكلًا ولبسًا. وقد سخر البحر لتجري الفلك فيه بأمره ليسهل الحصول عليهما والانتفاع من غيرهما بالأسفار والاتجار.
ثم ذكر تعالى نعمة عظيمة امتن بها علينا وهي القاء الرواسي في الأرض حتى لا تضطرب فلا يستقر عليها شيء يقول ابن القيم: "لما كانت على وجه الماء كانت تكفأ فيه تكفأ السفينة فاقتضت العناية الأزلية والحكمة الإلهية أن وضع عليها رواسي يثبتها بها لئلا تميد وليستقر عليها الأنام وجعلها ذلولًا".
(1)
فأجرى فيها الأنهار وسلك فيها الطرق بين الجبال والأودية يقول {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} في سيركم من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر ومن إقليم إلى إقليم
(2)
وجعل العلامات التي يهتدي بها المسافرون في الليل والنهار وفي البر والبحر كالشمس والجبال وغيرهما نهارًا في البر، والشمس نهارًا في البحر، وليلًا بالقمر والنجوم برًا وبحرًا.
ومن الآيات التي تجمع بين دليل الخلق ودليل العناية قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}
(3)
ففي إحياء الأرض الميتة بالنبت إشارة إلى الخلق والإيجاد، وفي قوله {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} "تنبيه على دلالة العناية الإلهية والآيات التي تجمع الدليلين في القرآن كثيرة جدًّا وكلها تتضمن ما عداها من
(1)
التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص 217. وقول ابن القيم فيه نظر.
(2)
انظر جامر البيان عن تأويل القرآن للطبري تحقيق وتخريج محمود شاكر جـ 16 ص 326.
(3)
سورة يس آية (33).
أدلة فتضمنت إثبات خلق الله تبارك وتعالى لكل شيء وعنايته التامة بهذه المخلوقات حتى تستمر وتكون على الوجه الذي أراده سبحانه وتعالى. من هذا ندرك أن العالم غير واجب بنفسه وأنه حادث بعد أن لم يكن ومخلوق مفتقر إلى خالق ونستخلص من هذه المقدمات أن غير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه والحادث لا يكون إلا بالقديم والمخلوق لا يكون إلا بالخالق والمفتقر لا يكون إلا بغني.
فيلزم وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه ذلك الله رب العالمين.
(1)
* * * * *
(1)
انظر تلبيس الجهمية لابن تيمية جـ 1 ص 174 - 176.