الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"إنا هديناه السبيل"
(1)
فبين تعالى أن الذي هداهم له هو الطريق فقط وكذلك أيضًا قوله تعالى: "ألم نجعل له عينين ولسانًا وشفتين وهديناه النجدين"
(2)
أي بينا له طريقي الخير والشر.
ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير والتيسير له وخلقه لقبول الخير في النفوس فهذا هو الذي أعطاه الله عز وجل الملائكة كلهم والمهتدين من الإنس والجن، ومنعه الكفار من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا فسقوا.
(وقال أبو محمد) وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ}
(3)
.
هو نص جلي على ما قلنا وبيان أن الدلالة لهم على طريق جهنم يحملون فيه إليها هدى لهم إلى تلك الطريق ونفى عنهم تعالى في الآخرة كل هدى إلى شيء من الطرق إلا طريق جهنم ونعوذ بالله من الضلال
(4)
.
الأضلال:
يذهب أبو محمد بن حزم، إلى أن الله تعالى يضل من يشاء من خلقه لقوله سبحانه وتعالى في الآيات التي سقناها في الكلام على الهدى والتوفيق. إن الله لا يهدي من يضل، وإنه أضل من شاء من خلقه وجعل صدورهم ضيقة حرجة.
(1)
سورة الإنسان: آية (3).
(2)
سورة البلد: الآيات (8، 9، 10).
(3)
سورة النساء: الآيتان (168، 169).
(4)
انظر الفصل لابن حزم (3: 44، 45).
فبين تعالى في نص القرآن أن إضلاله لمن أضل من عباده إنما هو أن يضيق صدره عن قبول الإيمان، وأن يحرجه حتى لا يرغب في تفهمه والجنوح إليه ولا يصبر عليه، ويوعر عليه الرجوع إلى الحق حتى يكون كأنه يتكلف في ذلك الصعود إلى السماء، وفسر ذلك أيضًا عز وجل في آية أخرى هي قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}
(1)
. وذكر تعالى، جعل الأكنة على قلوبهم أيضًا في سورتي الإِسراء
(2)
، والكهف
(3)
، وهذه الأكنة هي أنه تعالى يجعل ساترًا على قلوب الكافرين يحول بينها وبين تفهم القرآن، والإصاخة لبيانه وهداه، وأن يفقهوه، وأنه جعل تعالى بينهم وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم حجابًا مانعًا لهم من الهدى، وفسره أيضًا لعالى بانه ختم على قلوبهم وطبع عليها فامتنعوا بذلك من وصول الهدى إليها، فالنصوص القرآنية توجب، أن الإضلال معنى زائدًا أعطاه الله للكفار والعصاة، وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحريجها والختم على القلوب والطبع عليها وإكنانها عن أن يفقهوا الحق.
فإن قالوا: إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يمدها الله تعالى بالتوفيق.
قلنا لهم: من خلقها هذه الخلقة المفسدة إن لم يؤيدها بالتوفيق.
فإن قالوا: الله تعالى خلقها كذلك أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية وركب بها هذه الصفة المهلكة.
(1)
سورة الأنعام: آية (25).
(2)
انظر آية (46) من السورة.
(3)
انظر آية (57) من السورة.
فإن قيل: إنه جاء في القرآن أن الشياطين يضلون الناس وينسونهم ذكر الله تعالى ويزينون لهم ويوسوسون، ونسب فعل ذلك من بعض الناس لبعض.
قلنا: هذا صحيح وهو إلقاء لذلك في القلوب وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك فيها، وخالق لأفعال هؤلاء المضلين من الجن والإنس، وكذلك قوله تعالى حسدًا من عند أنفسهم لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها وهو خلق الله تعالى فيها.
وأما قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}
(1)
فهو أنه لا يضل قومًا حتى يبين لهم ما يتقون وما يلزمهم، لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما يفعل أصلًا فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالًا بعد بلوغ البيان إليه لا قبل ذلك. فصح، أنه يضلهم بعد أن يبين لهم
(2)
.
إن ما ذهب إليه ابن حزم في الهدى وإلإضلال، مذهب تؤيده الأدلة الصحيحة والصريحة من القرآن الكريم وتلك الأدلة كثيرة جدا، ذكرنا في عرض مذهبه، الكثير منها ودلالتها واضحة على أنه تعالى هدى قومًا فاهتدوا، ولم يهد آخرين فلم يهتدوا، فهدى الناس كلهم هداية الدلالة ببيان الطريق لهم. طريق الخير، وطريق الشر، وهدى من اهتدى بأن وفقه وأعانه على الخير ويسر له سبله وجعل له القبول في نفسه.
وأن إضلال الله لمن يشاء من خلقه بأن يجعل صدورهم ضيقة حرجة ويجعل على قلوبهم أكنة تحول بينهم وبين تفهم القرآن، وقول
(1)
سورة التوبة: آية (115).
(2)
انظر الفصل لابن حزم (3: 46 - 49).
الرسول صلى الله عليه وسلم فختم على قلوبهم وطبع عليها فامتنعوا بذلك من وصول الهدى إليها.
والأدلة صريحة وواضحة في الدلالة على هذا المعنى. أن الله تعالى هو الذي يضل ويهدي وهذا قول أكثر الناس
(1)
.
يقول ابن القيم: "وقد اتفقت رسل الله أسن ولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم أنه سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والضلالة بيده لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإِضلال فعله سبحانه وقدره. والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه"
(2)
.
وقد ذكر ابن القيم بعد هذا مراتب الهدى والضلال في القرآن، وتكلم على كل منها وبين ما بينها من الخصوص والعموم وأطال في هذا
(3)
.
وقد أجاب ابن تيمية على سؤال عن الباري تعالى: هل يضل ويهدي؟ بما يوافق ما ذكرنا من مذهب ابن حزم وغيره. أن الله تعالى خالق لكل شيء وأنه بمشيئته وقدرته. يقول:
"إن كل ما في الوجود فهو مخلوق له، خلقه بمشيئته وقدرته، وما
(1)
انظر الفقه الأكبر للشافعي ص (17)، وشرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة شرح ملا علي القاري ص (37، 38)، وشرح العقيدة الطحاوية ص (86، 87). وشرح العقيدة الواسطية للهراس ص (8). الأسئلة والأجوبة الأصولية لابن سلمان ص (12، 13).
(2)
شفاء العليل لابن القيم ص (142).
(3)
انظر شفاء العليل ص (142 - 182).
شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويغني ويفقر، ويضل ويهدي، ويسعد ويشقي، ويولي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويشرح صدر من يشاء للإِسلام، ويجعل صدر من يشاء ضيقًا كأنما يصعد في السماء .. وهو الذي جعل المسلم مسلمًا والمصلي مصليًا قال الخليل:"ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"
(1)
وقال: "رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي"
(2)
.
وقال تعالى: "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا"
(3)
وقال عن آل فرعون: "وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار"
(4)
.. وقال تعالى: "من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا"
(5)
وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة ورحمة خاصة وعامة وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته"
(6)
.
وقد رد الإِمام الأشعري على المعتزلة في قولهم إن الله هدى الناس أجمعين وإن الضلال من عند الضالين أنفسهم. فبين لهم عدم استقامة هذا القول ومناقضته لنصوص القرآن. وعدم تأييد اللغة لهم بأن المسمى ضالًا يقال له أضل وألزمهم إلزامات لا مفك لهم منها
(7)
.
(1)
سورة البقرة: آية (128).
(2)
سورة إبراهيم: آية (40).
(3)
سورة السجدة: آية (24).
(4)
سورة القصص: آية (41).
(5)
سورة الكهف: آية (17).
(6)
مجموع فتاوي ابن تيمية (8: 78، 79).
(7)
انظر الإبانة للأشعري ص (55 - 59).