الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - الجسمية، والعرضية، والزمانية والمكانية والحركة
.
يرى أبو محمد بن حزم أن من توحيد الله تعالى ونفي التشبيه عنه نفي الجسمية، والعرضية، والزمانية، والمكانية، والحركة.
فقال لنفي الجسمية: إنه لم يأت نص بتسميته تعالى جسمًا، ولم يقم البرهان بتسميته بذلك بل البرهان مانع منه. ولو أتانا نص بتسميته تعالى جسمًا لوجب علينا القول بذلك.
(1)
.
والبرهان المانع من تسميته تعالى جسمًا كما قال: "لا يوجد في العالم إلا جسم أو عرض وكلاهما يقتضي بطبيعته وجود محدث له فبالضرورة نعلم أنه لو كان محدثها جسمًا أو عرضا لكان يقتضي فاعلًا فعله ولا بد فوجب بالضرورة أن فاعل الجسم والعرض ليس جسمًا ولا عرضًا وهذا برهان يضطر إليه كل ذي حس بضرورة العقل ولا بد وأيضًا فلو كان الباري "جسمًا لاقتضى ذلك ضرورة أن يكون له زمان ومكان هما غيره، وهذا إبطال التوحيد وإيجاب الشرك معه تعالى لشيئين سواه، وإيجاب أشياء معه غير مخلوقة وهذا كفر"
(2)
.
واستدل على نفي المكان عنه تعالى بقوله سبحانه: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}
(3)
. وقال إن هذا يوجب ضرورة أنه تعالى لا في مكان إذ لو كان في المكان لكان المكان محيطًا به من جهة "ما" أو من جهات. وهذا منتف عن الباري تعالى بنص الآية المذكورة، والمكان شيء بلا
(1)
انظر الفصل جـ 2 ص 118، 119.
(2)
الفصل جـ 2 ص 117. بتصرف.
(3)
سورة فصلت آية "54".
شك فلا يجوز أن يكون شيء في مكان ويكون هو محيطًا بمكانه، هذا محال في العقل يعلم امتناعه ضرورة.
(1)
.
واستدل على نفي الزمان والمكان عنه تعالى بقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}
(2)
وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا}
(3)
والزمان والمكان مخلوقان قد كان تعالى دونهما.
والمكان إنما هو للأجسام. والزمان هو مدة كل ساكن أو متحرك أو محمول في ساكن أو متحرك وكل هذا مبعد عن الله عز وجل
(4)
.
وقد أبطل قول من وصف الله بالجسمية والحركة والصورة بقوله: إن الضرورة توجب أن كل متحرك فذو حركة، وأن الحركة لمتحرك بها وهذا من باب الإِضافة، فلو كان كل محرك متحركًا لوجب وجود أفعال لا أوائل لها وهذا باطل. فوجب ضرورة، وجود محرك ليس متحركًا ضرورة ولا بد، وهو الباري تعالى محرك المتحركات لا إله إلا هو، وكل ذي حركة فهو ذو عرض محمول فيه فصح أنه تعالى ليس جسمًا ولا متحركًا وبالله التوفيق
(5)
.
إن رأي ابن حزم بأن من التوحيد ونفي التشبيه نفي الجسمية، والعرضية والزمانية، والمكانية، والحركة. نفيًا مطلقًا، ليس من التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فما جاء به عليه الصلاة والسلام لم يكن يتضمن شيئًا من هذا النفي وإنما تضمن
(1)
انظر الفصل جـ 2 ص 125.
(2)
سورة الفرقان آية (2).
(3)
سورة السجدة آية (4).
(4)
انظر المحلى جـ 1 ص 35.
(5)
انظر الفصل جـ 2 ص 119.
إثبات الإِلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يعبد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه ولا يوالى إلا له، ولا يعادى إلا فيه ولا يعمل إلا لأجله - وقد بينا هذا التوحيد بأدلته عند الكلام على الوحدانية
(1)
.
وتوحيد الرسل يتضمن إثبات الرسل ما أثبته تعالى لنفسه من الأسماء والصفات، ونفي ما نفاه عن نفسه
(2)
.
والتوحيد بهذا المعنى الذي قال به ابن حزم - تجريد الذات - مأخوذ عن الفلاسفة فهم الذين يثبتون ذاتا منزهة عن الكثرة، ويرون في إثبات الصفات تكثيرًا لها فينفونها ويرجعونها إلى السلوب
(3)
.
وكان الأليق بابن حزم والذي يتمشى مع مذهبه - الأخذ بالظاهر وعدم وصف الله وتسميته إلا بما ورد - أن لا ينفي عنه تعالى ما لم ينفه عن نفسه، ولم ينفه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، لأن التوحيد بهذا النفي لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، ولو التزم مذهبه لما نفى عن الله تعالى ما لم ينفه عن نفسه.
والذي يذهب إليه سلف الأمة وأئمتها - في الجسمية، والعرضية والزمانية، والمكانية - عدم إطلاق هذه الألفاظ نفيًا وإثباتًا لأنه بدعة، لما في إثباتها، ونفيها من التلبيس والإيهام، بل لابد من الاستفسار، والاستفصال عند الإطلاق، فإن كان المعنى الراد
(1)
انظر 166 - 169.
(2)
انظر درء تعارض العقل والنقل جـ 1 ص 224، 225. ونقض المنطق ص 124.
(3)
انظر آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ص 32، 33. والملل والنحل جـ 1 ص 50. ودرء تعارض العقل جـ 1 ص 284. ونقض المنطق ص 132. والفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 131، 132.
صحيحًا موافقًا لما ورد في الكتاب وفي السنة قبل وإلا رد
(1)
.
وقد أجاب الإمام أحمد رضي الله عنه أبا عيسى برغوث
(2)
، حين ناظره في القران وألزمه، بأنه إذا أثبت لله كلامًا غير مخلوق لزم أن يكون جسمًا، بأن هذا اللفظ مجمل لا يدرى مقصود المتكلم، ولم يرد به النص، وليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به، أو يأخذوا بمدلوله - وقال أحمد: - إني لا أقول إنه جسم، ولا ليس بجسم: لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإِسلام. فهو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
وبأن هذه الحجة ليست شرعية، فلا يجب على الناس إجابة من دعا إلى موجبها، وإنما هي بدعة، لا يعرف مقصود المتكلم بها إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها
(3)
.
وما احتج به ابن حزم من البراهين على نفي الجسمية، والعرضية والزمانية والمكانية، والحركة، فلن نتعرض لنقضه، لأنا لا نقول بإثبات تلك الأشياء التي نفاها، وإنما نلتزم في ذلك ما يوافق الكتاب
(1)
انظر درء تعارض العقل جـ 1 ص 229، 232، 233. وبيان تلبيس الجهمية جـ 1 ص 397. ونقض المنطق ص 123، 125. والمنتقى من منهاج الاعتدال ص 154، 109.
(2)
هو محمد بن عيسى الملقب ببرغوث، وإليه تنسب البرغوثية وهي من فرق النجارية، وكان على مذهب النجار فانفرد عنه ببعض المسائل كالاستطاعة التي يكون بها الفعل بأنها لا تكون إلا معه، وغيرها، انظر الفرق بين الفرق للبغذادي ص 209. والفصل جـ 3 ص 22، والملل والنحل جـ 1 ص 88، 90.
(3)
انظر درء تعارض العقل مع النقل جـ 1 ص 230، 231. وكتاب الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد ضمن كتاب فسلفة ابن رشد ص 79.
والسنة، ونترك الألفاظ المبتدعة التي تحتمل أكثر من معنى فإن تبين أن المراد من ذلك اللفظ صحيح قبل. وإن تبين خلافه رد. فإذا كان مرادهم بنفي الجسم مثلًا. ما يدل عليه اللفظ لغة، وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه، أو أنه المركب من الأجزاء المنفردة، أو من المادة والصورة، أو مما يقبل الانقسام، أو التفريق، والانفصال، أو ما كان مفرقًا فاجتمع. فالله تبارك وتعالى منزه عن الجسمية بهذه المعاني فهو أحد صمد، وكل هذه المعاني منتفية عنه تبارك وتعالى.
وإن كان المراد بالجسم، ما يشار إليه، أو ما يرى بالأبصار أو ما كان ذاتًا متصفة بصفات الكمال، من العلم، والقدرة والحياة، والسمع، والبصر، وغير ذلك من الصفات فهذا غير صحيح ولا يقبل نفي الجسمية بهذا المعنى
(1)
.
وعلى هذا النحو القول في الزمانية والمكانية، والحركة، ونحو ذلك مما هو محتمل. فيستفصل عن المراد فإن كان مما ثبت لله عنه أوعن رسوله صلى الله عليه وسلم قبل، وإن كان بخلاف ذلك لم يقبل.
(1)
انظر الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 223 - 227. وشرح حديث النزول له ص 69، 74، 75. ومنهاج السنة جـ 1 ص 180 - 183، 198 - 206 والمنتقى من منهاج الاعتدال ص 80، 81، 106، 107. ومختصر الصواعق المرسلة جـ 1 ص 112. وجـ 2 ص 405.