الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفسه لا يرى الأشياء، فلما كان الله عز وجل رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائزان يرينا نفسه كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها وقد قال تعالى {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} .
(1)
فأخبر أنه سمع كلامهما ورآهما، ومن زعم أن الله عز وجل لا يجوز أن يرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل رائيا ولا عالما ولا قادرا لأن العالم القادر الرائى جائز أن يرى"
(2)
ثانيًا: أدلة وقوع الرؤية
الدليل الأول:
ما ذكر ابن حزم ونذكره لبيان وجه الاستدلال - هو قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
(3)
وجهه الاستدلال من الآية: أن النظر في اللغة يرد لمعان كثيرة مختلفة فإذا تجرد عن الصلات وتعدى بنفسه كان بمعنى التوقف والانتظار وفي لسان العرب" النظر الانتظار يقال نظرت فلانا وانتظرته بمعنى واحد فإذا قلت انتظرت فلم يجاوزك فعلك فمعناه، وقفت، وتمهلت، ومنه قوله تعالى {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} .
(4)
قرىء انظرونا، وأنظرونا بقطع الألف، من قرأ بضم الألف فمعناه انتظرونا،
(1)
سورة طه: آية (46).
(2)
الإِبانة لأبي الحسن الأشعري ص (16)، وانظر نهاية الإِقدام في علم الكلام للشهرستاني ص (358)، الملل والنحل له (1: 100)، الإِقتصاد في الإِعتقاد للغزالي ص (69).
(3)
سورة القيامة: الآيتان (22، 23).
(4)
سورة الحديد: آية (13).
ومن قرأ أنظرونا فمعناه أخرونا.
وقال الزجاج قيل: معنى أنظرونا انتظرونا أيضا ومنه قول عمرو ابن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا
…
وأنظرنا نخبرك اليقينا
(1)
وقال الفراء تقول العرب، أنظرنى أي انتظرنى قليلا ويقول المتكلم لمن يعجله أنظرنى أبتلع ريقى أي أمهلنى
(2)
.
ومن ذلك قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً}
(3)
أي ما ينتظرون.
وقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}
(4)
أي منتظرة.
وقول قراد بن أجدع:
وإن يك صدر هذا اليوم ولى
…
فإن غدا لناظره قريب
(5)
أي لمنتظره.
وقال الحطيئة:
وقد نظرتكم إعشاء صادرة
…
للخمس طال بها حوزى وتنساسي
(6)
(7)
أي انتظرتكم.
(1)
لسان العرب (7: 74)، شرح المعلقات العشر ص (140).
(2)
لسان العرب (7: 73، 74).
(3)
سورة يس: آية (49).
(4)
سورة النمل: آية (35).
(5)
مجمع الأمثال للميداني (1: 71).
(6)
التنساس: تفعال من النس وهو السوق الشديد بخلاف الحوز فهو السوق قليلًا قليلًا.
(7)
ديوان الحطيئة ص (283)، لسان العرب (7: 74).
وقال امرؤ القيس:
فإنكما إن تنظرانى ساعة
…
من الدهر تنفعنى لدى أم جندب
(1)
أي إن تنتظرانى.
فحين ذكر النظر فيما مر عاريا عن الصلات والتعدية لم يحتمل إلا الانتظار.
وإذا عدى باللام كان بمعنى الإنعام أي الرأفة والرحمة والتعطف، مثل أن يقال نظر السلطان لفلان أي رأف به وتعطف عليه.
وإذا عدى بفى كان بمعنى التفكر والاعتبار كقوله تعالى {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
(2)
. وكما تقول نظرت في الأمر لفلان أي تفكرت فيه واعتبرت
(3)
.
وإذا عدى بإلى احتمل الرؤية وغيرها.
ومما جاء معدى بإلى وهو نص في الرؤية قوله تعالى "رب أرني أنظر إليك"
(4)
حيث رتب النظر على الإِراءة والمرتب على الإِراءة هو الرؤية فيدل على أن النظر هو الرؤية ولا يمكن حمله على غير هذا من معاني النظر.
وقوله تعالى {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}
(5)
والذى يفيد كيفية معرفة الخلقة هو الرؤية لا تقليب الحدقة أو غير ذلك.
(1)
شرح ديوان امرىء القيس ص (53).
(2)
سورة الأعراف: آية (185).
(3)
أنظر حادي الأرواح ص (230)، شرح المواقف للجرجاني ص (211)، كتاب التمهيد للباقلاني ص (274، 275)، نهاية الإِقدام في علم الكلام للشهرستاني ص (369)، لسان العرب (7: 74).
(4)
سورة الأعراف: آية (143).
(5)
سورة الغاشية: آية (17).
ومما عدى بإلى وليس نصا في الرؤية قوله تعالى في صفة الكفار {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
(1)
فنفى تعالى كونه ناظرا إليهم وهو يراهم بلا خلاف والمفسرون قاطبة على أن معنى الآية لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا ينيلهم خيرا، فالنظر المنفى هنا والمعدى بإلى غير الرؤية.
(2)
وقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
(3)
ذكر في الآية النظر وعداه بإلى وأراد به الانتظار.
وقال الأبيوردى:
هي التي لا تزال الدهر ناظرة
…
إلى العلى ولسؤال وفي كتب
(4)
فقوله ناظرة إلى العلا أي إنها طالبة له ومتوقعة.
(5)
عرفنا مما ذكر أن النظر يرد في اللغة بمعنى الانتظار، والإنعام والتفكر، والرؤية على حسب وروده تجردا وتعدية ولكنه إذا عدى بإلى وأضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر فلا يحتمل إلا الرؤية بالأعين وهذا هو ما وردت به الآية الكريمة فهي نص في الرؤية ولا تحتمل غيرها من المعاني.
يقول أبو الحسن الأشعري بعد ذكر الآية: "ولا يجوز أن يكون
(1)
سورة آل عمران: آية (77).
(2)
انظر الأربعين في أصول الدين للرازي ص (202، 203)، تفسير ابن كثير (2: 59، 60)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2: 235)، مجمع البيان للطبرسي (2: 122)، روح المعاني للألوسي (3: 204)، تفسير الخازن (1: 311).
(3)
سورة البقرة: آية (280).
(4)
ديوان الأبيوردي (2: 33).
(5)
انظر الأربعين في أصول الدين للرازي ص (208).
عنى (الله) نظر الانتظار لأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه".
(1)
وقال الباقلاني: "وإذا قرن النظر بذكر الوجه وعدى بحرف الجر ولم يضف الوجه إلى قبيلة وعشيرة كان الوجه الجارحة التي توصف بالنضارة التي تختص بالوجه الذي فيه العينان فمعناه رؤية الأبصار".
(2)
فعلى هذا فالنظر الوارد في الآية يكون بمعنى الرؤية لأن الله تعالى قد وصف الوجوه التي هي الجوارح بأنها تنظر إليه وقد وصفها بما لا يجوز أن يوصف به إلا جارحة حيث قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} والنضارة لا تكون إلا في الجارحة التي هي الوجه.
(3)
فإن قال النفاة لا نسلم أن "إلى" في قوله "إلى ربها ناظرة" حرف جر وإنما هي اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم فهر، في موضع مفعول به لناضرة، أو أنها بمعنى عند، وحيث إننا اتفقنا على أن لفظ "ناظرة" إذا كان عاريا عن حرف "إلى" أفاد معنى الانتظار، وعليه يكون تقدير الآية "وجوه يومئذ ناضرة نعمة ربها منتظرة، أي كأنه تعالى قال "وجوه يومئذ ناضرة آلاء ربها منتظرة ونعمه مترقبة هذا على الأول، وعلى الثاني "وجوه يومئذ ناضرة عند ربها منتظرة".
(4)
قلنا: إن حمل لفظ "إلى" في الآية على واحد الآلاء بعيد لأن الله
(1)
الإِبانة لأبي الحسن الأشعري ص (12، 13).
(2)
التمهيد للباقلاني ص (274)، وانظر حادي الأرواح لابن القيم ص (231).
(3)
انظر التمهيد للباقلاني ص (277).
(4)
انظر شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص (246)، الفصل لابن حزم (3: 3)، الأربعين في أصول الدين للرازي ص (209)، شرح المواقف للجرجاني ص (212).
تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت لها النضرة وهي النعمة لأن النضرة نعمة فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن ينتظر ما قد حصل لأن الانتظار يكون لما لم يحصل بعد
(1)
ونقول أيضا: إن حمل لفظ "إلى" في الآية على واحد الآلاء أو على معنى عند وكون "ناظرة" بمعنى منتظرة غير جائز لأن الانتظار يتضمن الغم والمشقة ويؤدى إلى التنغيص والتكدير كما قيل في المثل الانتظار يورث الاصفرار والانتظار الموت الأحمر، والآية وردت في شأن أهل الجنة وذلك لا يجوز عليهم، ثم إنها وردت مبشرة لهم، والبشارة بما يوجب الغم والتنغيص غير لائقة بالحكمة، وإنما البشارة التي في الآية للمؤمنين بالإكرام والإنعام وحسن الحال وفراغ البال، وذلك في رؤيته تعالى فإنها أجل النعم والكرامات المستتبعة لنضارة الوجه لا في الانتظار المؤدى إلى عبوسه.
(2)
.
فتعين أن الآية الكريمة دالة دلالة صريحة على أن الوجوه الحسنة المضيئة في الجنة تنظر إلى ربها تبارك وتعالى نظرا حقيقيًا بأعين رؤوسها لا يلحقها في هذه الرؤية مضارة ولا شك ولا مرية. والله أعلم.
(1)
انظر الفصل لابن حزم (3: 3).
(2)
انظر شرح الجرجاني للمواقف ص (212، 213)، الأربعين في أصول الدين للرازي ص (209، 210).